دينا الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 8531 - 2025 / 11 / 19 - 22:51
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
لم أدخل إلى One Battle After Another كمتفرّجة، بل كرفيقة كانت حتى تلك اللحظة غارقة في مذكّرات قادة وشهادات تاريخية ونصوص موجعة تشبه الحفر في طبقات الذاكرة الحزبية. أيام من الإنهاك السياسي وتراكم الخسارات، ومن الصمت الذي يسبق عادة أي انكسار داخلي. كنت أرى تاريخ اليسار كأنه سلسلة معارك متعبة؛ بعضها خسرناه بوضوح، وبعضها خسرَنا، وبعضها لم نعرف أصلاً من ربحه ومن هُزم فيه. في تلك الحالة، يبدو أي فيلم مجرد ترف أو محاولة للهروب. لكن هذا الفيلم لم يكن هروباً؛ كان يقظة.
شاهدتُ الفيلم لأول مرة قبل شهر، وبصفتي من محبّي السينما الذين يستهوون التدقيق في التفاصيل والإشارات الرمزية، بدت لي لغة الفيلم منذ الوهلة الأولى ذات نفسٍ يساري صريح يقترب من خطاب اليسار العالمي أكثر مما يقترب من لحظة سياسية أمريكية بعينها. لذلك لم أقرأ العمل ضمن ثنائية أوباما–ترامب أو ديمقراطي-جمهوري، بل رأيته نصاً يمكن إسقاطه على أي بقعة مضطربة من هذا العالم، من أمريكا إلى منطقتنا، حيث تتشابه بنى القمع وتتغيّر فقط الأقنعة.
صحيح أن الفيلم ليس العمل الوحيد الذي ينتقد البنية الأمريكية؛ يكفي أن نتذكّر مثلاً Joker بوصفه فيلماً يعرّي الطبقات العنيفة في المجتمع النيوليبرالي. لكن ميزة One Battle After Another أنه يذهب إلى إدانة المنظومة بشكل مباشر بلا مواربة، ولهذا انقسمت حوله آراء النقّاد، وربما يجده بعض المتفرّجين “ثقيلاً” أو مربكاً أكثر مما يبعث على المتعة. أما بالنسبة لي، فكان من النوع الذي يؤلمك لأسبابك الخاصة، ويجبرك على العودة إليه لا لأنك استمتعت، بل لأنه لامس عصباً حيّاً في مكانٍ ما من تجربتك.
ولا يمكن تجاهل جرعة الكوميديا السوداء التي يزرعها الفيلم في مساحاته؛ كوميديا لا تهدف إلى الإضحاك بقدر ما تكشف أزمة اليسار. تضحك من المفارقة، ثم تدرك أن الضحك نفسه اعتراف بالوجع. مشاهد يُفترض أن تكون بطولة سياسية تتحول إلى ارتباك، وحوارات توحي بالصلابة تنتهي بسخرية من الذات. هذا “المضحك–المبكي” جزء أساسي من تشريح الفيلم لواقع اليسار: حركة تحاول التقدّم وهي محمّلة بأثقالها التاريخية، تكافح لتبقى جادّة في عالم يستهزئ بكل ما هو جاد. وفي هذا بالذات شعرتُ أن الفيلم يلتقط روحاً أعرفها جيداً.
من أول لقطاته، لم يتعامل الفيلم معي كمشاهدة، بل كمناضلة محبطة تحتاج إلى صدمة كي تستعيد إدراكها. طريقة السرد، اللقطات المهزوزة، ضجيج الصوت والتشويش، جعلتني أشعر أن المخرج لا يريدني أن أرى القصة، بل أن أعيش سوء الفهم، وأن أتورط في الرواية الخاطئة، وأن أتصالح لاحقاً مع فكرة أن الحقيقة ليست فقط ما يقال لنا، بل ما يُخفى عنّا عمداً. هذا الإخفاء جزء من بنية الفيلم، وجزء من بنية أي تاريخ ثوري: الذاكرة لا تُقدّم دفعة واحدة، بل طبقة بعد أخرى، وخسارة بعد أخرى، وجيلاً بعد آخر.
على المستوى البصري، يعتمد الفيلم على كاميرا غير مستقرة، وإضاءة متذبذبة، وصوتٍ ومؤثرات موسيقية تُربك المشاهد وربما تزعجه. هذا التشويش ليس زينة إخراجية، بل استراتيجية واعية؛ فاللقطات القريبة حدّ الاختناق، والانقطاعات المفاجئة في الحوار، والتبديل الحاد في الإيقاع - كلها أدوات تجعل الشخصيات تبدو محاصرة في مساحة تراقبها السلطة خطوة بخطوة، كأنها تتحرك داخل لعبة لا تتحكم بقواعدها.
أكثر ما شدّني كان حضور الأم بيرفيديا .. وغيابها، المرأة التي يبني الفيلم حولها صورة “الخائنة” دون أن يعرض الحقيقة كاملة. طوال الفيلم، يُجبرك السرد على النظر إليها بعين الاتهام؛ تشعر بالغضب منها، بالخيبة، كأنها بالفعل ارتكبت الذنب كاملاً. تُقدَّم لنا عبر شذرات وروايات متضاربة، بحيث يتلقّى المشاهد الرواية الجاهزة نفسها: امرأة انكسرت تحت الضغط، واعترفت بأسماء رفيقاتها ورفاقها. لكن الفيلم لا يعالج الخيانة كفعل فردي، بل كسياق سياسي كامل. هنا لا يعود السؤال: «هل خانت؟» بل: «تحت أي شروط صُنعت هذه الخيانة؟ ومن كتب روايتها؟».
الفيلم يلتقط جوهر عمل الدولة والمنظومات الأمنية: ليس المهم ما حدث فعلياً، بل كيف يُقدَّم للناس. فالاعتراف - حتى لو انتُزع تحت التعذيب أو الابتزاز أو الانهيار الجسدي والنفسي - يتحوّل إلى "حقيقة رسمية" ، وإلى وصمة تُلصق بصاحبها إلى الأبد. وهذا ليس جديداً في تاريخ الحركات اليسارية؛ فقد جرى تحويل رجال ونساء، سقطوا تحت أقسى ظروف التحقيق، إلى "خونة" فقط لأن السلطة امتلكت حق كتابة الرواية.
ثم يظهر الأب بوب، لا كبطل، بل كذاكرةٍ مُنهكة لرجل عاش معارك أكبر من طاقته. لم يقف يوماً في موقع القائد أو الثوري المثالّي، لكنه حمل الحقيقة بصمت، مدركاً أن كشفها في اللحظة الخطأ لا يحرّر أحداً بل يعرّض آخرين للانهيار. بدا طوال الفيلم كأنه يخفي سراً، بينما كان في الواقع يحمي ما تبقّى من الرواية من التشويه؛ كوجهٍ من وجوه جيلٍ يساري عاش الهزائم الثقيلة، لكنه ظلّ وفيّاً لما بقي من معناه.
احتفظ برسالة زوجته ستة عشر عاماً، لا بدافع العاطفة وحدها، بل كفعل سياسي لحماية جزء من الحقيقة من أن يُدفن تحت الرواية الرسمية. وهذه صورة مألوفة في تاريخ اليسار؛ كثير من الرفاق حملوا أسراراً ليست لهم، وصمتوا لأن الكلام كان سيكلّف حياة. الأب هنا ليس "رجل عائلة" فقط، بل تجسيد لجيل لم ينتصر سياسياً، لكنه لم يخن ولم يساوم على ما تبقّى من الحقيقة.
ويلا، الابنة، ليست مجرد شخصية. هي جيل كامل. جيل وُلد داخل معركة لم يخترها، لكنه مجبر على التعامل مع أسبابها ونتائجها. جيل يسمع روايات متضاربة ولا يعرف أيّها الأصح، يرى صوراً مشوّهة عن الماضي، ويُطلب منه أن يصنع مستقبلاً واضحاً. هي أيضاً ليست ابنة بوب "الأب" بيولوجياً، بل تنتمي إلى عائلة تُعدّ نفسها "سلالة ثورية نقّية" كما يذكّره أهل الأم دائماً: أنت لا تنتمي إلى نسبنا.
هنا يلمّح الفيلم إلى فكرة النضال بوصفه سلالة ونسب لا خياراً ، ثم يكسرها: فالرجل الذي لا ينتمي إلى تلك السلالة هو الوحيد الذي حفظ الحقيقة. الثورة -كما يلمّح الفيلم- ليست نسباً، بل موقفاً، ولا تُقاس بنقاء السلالة بل بقدرة الإنسان على حماية ما تبقّى من المعنى. وهكذا تصبح ويلا مرآة لجيل من اليسار العالمي وثوراته: جيل لم يرث السلطة، لكنه ورث الوعي والقيم التي نجت رغم الهزائم.
في منتصف الفيلم تقريباً، يظهر تحوّل حاسم في طبيعة الفعل السياسي: المقاومة التي بدأت كخلايا سرية وعمليات متخفية تتحول تدريجياً إلى فعل جماهيري عام ومفتوح - تظاهرات، ساحات، وعي شعبي يتشكل أمام الكاميرا. كانت المشاهد الأولى محصورة في الظلال والمساحات الضيقة، ثم تتسع فجأة إلى لقَطات مكشوفة وإضاءة طبيعية ووجوه تقف في العلن بلا خوف.
هذا الانتقال من العنف الثوري والعمل السري إلى النضال العلني لا يُعرض كضعف، بل كإعادة تعريف للقوة: المعركة اليوم تُخاض عبر الوعي، لا عبر الرصاص. ولا يمكن لليسار أن يتجدد دون التمكن من أدوات العصر، وما لم يحوّل التكنولوجيا من مساحة تُراقِبه إلى مساحة يستخدمها للمقاومة.
على مستوى الخطاب، انشغلت كثير من القراءات السطحية بتصنيفات سريعة: الإجهاض، الهجرة، “العرق النقي”. يمكن العثور على هذه العناصر في الخلفية، لكنها ليست جوهر الفيلم. فالنص يذهب مباشرة إلى إدانة البنية التي تجمع الإمبريالية بالرأسمالية والفاشية والدولة العميقة، بوصفها منظومة واحدة تُنتج القمع وتُعيد تدويره.
وفي الوقت نفسه لا يمنح الفيلم اليسار صك براءة؛ يضعه هو أيضاً تحت المجهر: يسار أخطأ، وتشظّى، وابتلع روايات ناقصة، وتورّط أحياناً في تقديس ذاته وفي خلق “نسب ثوري” مغلق. لكنه، رغم ذلك، ظل قادراً على الاستمرار، وعلى تجديد نفسه عبر أجيال تعيد تعريف النضال خارج الأيقونات القديمة.
تكشف لحظة الرسالة البنية الرمزية للفيلم: الأم تمثّل خطاً نضالياً شُوّهته السلطة، والأب يمثل جيلاً يسارياً منهكاً حافظ على ما استطاع من البوصلة الأخلاقية، أما ويلا فهي ابنة السرد لا الدم - ابنة معركة ورثت آثارها دون أن تعيشها. هكذا تتحول الشخصيات إلى مجاز لمسار اليسار نفسه: جذرٌ قُمِع، وجيلٌ حمل الذاكرة بما استطاع، وجيلٌ ثالث يعيد القراءة دون أن يرث أخطاء الماضي.
عندما يصل الفيلم إلى لحظته المفصلية، لحظة رسالة الأم، تتفجّر كل المعاني. تنكسر طبقات التشويش التي رافقتنا منذ البداية. لأول مرة يثبت الضوء، تهدأ الكاميرا، ويستقيم الصوت. تتكلم الأم أخيراً بلا وسيط، بلا اقتطاع، بلا ضجيج يصنع عنها رواية غير روايتها. يتكشف أن غيابها لم يكن خيانة بإرادتها ولا هروباً، بل ثمناً لمعركة خاضتها في مكان لم يعد ممكناً الرجوع منه. تقول لابنتها:
"لقد فشلنا… لكنّكِ ربما لن تفشلي .. ربما ستكونين الشخص الذي يُصلح العالم .. وعندما يكون الوقت مناسباً وآمناً… ستجدينني"
هذه ليست رسالة أم لابنتها فحسب؛ بل بيان سياسي كامل. اعتراف بالفشل، لا للهزيمة النهائية بل كنقد ذاتي، وتوصية بالأمل، وتسليم للراية. ليست “خيانة”… بل تضحية جرى تشويهها، كما شُوّهت آلاف التضحيات عبر التاريخ.
في اللحظة نفسها، يتضح دور الأب أكثر: إذا وصلت الرسالة، فهذا يعني أنه أوفى بوعده. وعده لزوجته، ووعده للحقيقة. يصبح حمل الرسالة هنا فعلاً سياسياً، لا عائلياً فقط. والأهم أن الرسالة تُعطى للابنة، لا للحركة، لا للحزب، لا للتنظيم؛ كأن الفيلم يعلن أن اليسار الجديد لن يُولد من وثيقة حزبية، بل من وعي جيل قادر على سماع الحقيقة من خارج السردية التي صنعتها السلطة.
بهذا المعنى،One Battle After Another ليس فيلماً عن ثائر وابنته في أمريكا؛ هو عمل عن بنية الوعي حين تتمزق، وعن الطريقة التي تُكتب بها الخيانة، وعن الفرق بين روايتين: رواية أقوى لأنها مسموعة، ورواية أصحّ لأنها حقيقية. الفيلم يكشف كيف يمكن للإنسان أن ينكسر دون أن يسقط، وكيف تتحول الهزيمة إلى جزء من الوعي لا وصمة نهائية، وكيف تُعاد قراءة الثورة بوصفها مساراً متكرراً لا نتيجة نهائية، سرداً ممتداً لا شعاراً، واستمرارية لا صعوداً ولا سقوطاً.
لهذا عدتُ إليه بعد خيبة الانتخابات الأخيرة، لأنني كنت بحاجة إلى نصّ يذكّرني أن خسارة جولة لا تعني انتهاء المعركة، وأن اليسار -رغم كل ما تعرّض له من قمع وتشويه وأخطاء ذاتية- ما زال قادراً على أن يلد نفسه من جديد؛ مرة في ساحة، ومرة في جيل، ومرة في رسالة مؤجَّلة تصل بعد ستة عشر عاماً إلى ابنةٍ كنا نعتقد أن أمها خانتها، ثم نكتشف أن الخيانة الحقيقية كانت في مكان آخر تماماً.
في النهاية، لم يكن الفيلم بالنسبة لي مجرد تجربة مشاهدة، بل مساحة لاستعادة النفس، ومصالحة مع فكرة أن الخسارة ليست نهاية الطريق، وأن المعارك فعلاً تستمر… واحدة تلو الأخرى.
19/11/2025
ملاحظة: لم أكتب هذا كنقد سينمائي، بل كتجربة مشاهدة تقاطعت مع تجربتي السياسية والشخصية.
#دينا_الطائي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟