دينا الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 8406 - 2025 / 7 / 17 - 02:59
المحور:
الصحافة والاعلام
في زمنٍ يُستبدل فيه القمع العاري بالاستلاب الناعم، وتُغلف الكوارث الاجتماعية بشعارات "الاصلاح أو التحول الديمقراطي"، تقف الصحافة الشيوعية لاكأرشيفٍ نضالي، بل كجبهة مفتوحة ضد الردّة الطبقية المعولمة. ليس احتفال التسعين عاماً من صدور "كفاح الشعب" لحظة نوستالجيا سياسية، بل لحفر خط الجبهة مجدداً وسط هذا الخراب - حيث تتآكل الدولة، ويتحوّل الإعلام إلى سوق نخاسة سياسية، وتُقايض السيادة الوطنية والمصالح الشعبية بصفقات الفساد والولاءات الخارجية، ويُسحق ليس فقط الفقراء، بل كل صوت تقدمي، وطني، ديمقراطي، حرّ.
ما معنى أن تكون صحفياً شيوعياً اليوم؟ أن تكتب ضدالصمت الطبقي المفروض، أن تفكك أكاذيب السلطة والمعارضة المأجورة معاً، أن تصرخ في وجه الذين يريدون من الكلمات أن تكون محايدة، بينما تنزف البلاد وتُسحق كرامة الانسان.
أنا، كواحدة من هذا الجيل الذي لم يعاصر بدايات هذه الصحافة، لا أكتب من باب الاحتفال البارد، بل من التزام نضالي حي. أقرأ هذا التاريخ كرافعة نضالية ضرورية اليوم، وأدرك أن مسؤولية استيعابه تقع على عاتقنا نحن -جيل ما بعد الاستبداد، الذي لا يزال يرزح تحت قشرة الحرية الشكلية.
في 31 تموز 1935، حين انطلقت "كفاح الشعب" كأولصوت صحفي شيوعي في العراق، لم تكن مجرد صحيفة، بل شرارة في ليل استعماري سميك، ومنبراً في زمنٍ كانت الكلمة الحرة فيه جريمة.
منذ تلك اللحظة، حملت هذه الصحافة على عاتقها مهمة مزدوجة: أن تكون لسان حال الطبقة العاملة وأداة تنظيمها، ومنبراً نضالياً لقضايا التحرر الوطني والتقدّم الاجتماعي، وجزءاً من إنتاج وعي ثوري لخوض حرب لاهوادة فيها ضد كل اشكال الاستعمار والطغيان والاستغلال والجهل.
📌أداة إنتاج طبقي لا وسيلة إعلام فقط
في التصوّر اللينيني للحزب الثوري، للصحافة موقع جوهري: ليست راصداً للحدث فحسب، بل وسيلة لصناعة الوعي، لتوحيد التجارب، لخلق الصوت الطبقي الجماعي. كانت صحف مثل "إلى الأمام"، "اتحاد الشعب"، و"طريق الشعب" لاحقا، أدوات بناء حزبي: ساهمت في صقل الكادر، وتغذية النقاش الداخلي، وتوفير مساحات للجدل حول التكتيك السياسي، كما شكّلت اختباراً للانضباط والحسّ البروليتاري عند الكاتب. أسهمت في بلورة وعي نقدي مُناهض للهيمنة، وربطت بين جبهات النضال المختلفة.
ولأنها لم تكن محايدة، بل منحازة بوضوح للعمال، للفلاحين، وللطلبة، وللنساء الكادحات، كانت دائماً عرضة للحصار والقمع والمنع والملاحقة، لكنها لم تفقد دورها كأداةٍ للصراع، بل واصلت مهمتها: أن تُنير ما يُراد له أن يُطمس.
📌تسعون عاماُ من النضال والتنوير
الصحافة الشيوعية العراقية ليست فقط ذاكرة مطبوعة، بل تاريخ من التحدي: كُتبت في السرّ، المعتقل، المنفى، وتحت الرصاص لكن تأثيرها كان مضيئاُ. وفي فترات الانفراج النسبي، تحدّت الرقابة، وفضحت الفساد، وأصّلت للبديل الاشتراكي. وفي كل مرحلة، كانت تستعيد دورها بوصفها الذاكرة الجمعية للحزب، وأداة تواصله مع الجماهير، ومرآة نضاله الداخلي والخارجي.
كما انها لم تكن يوماً مجرّد آلة نضالية، بل مشعلاً ثقافياً - نشرت الأدب، والنقد، والتحليل، والجدل الفلسفي، وساهمت في خلق جمهور ناقد. والتنوير هنا لم يكن ترفاً، بل تفكيكاً للجهل المصنّع، ومواجهةً للإعلام المضلل، وكسراً لخطاب الاستبداد، وانتاجاً لوعي متجدد بوصفه فعلاً مقاوماً.
وفي هذا الإطار، لم تحوّل الماركسية إلى دعاية جامدة، بل أبقتها ديالكتيكاُ حياً يطرح الأسئلة ويُصارع الواقع. استخدمت النظرية كمفتاح للفهم والتحويل، لا كمطرقة أيديولوجية، فظلت مدرسة حوار، لا منبر تلقين. بهذا المعنى، غدت ميداناً يلتقي فيه الثوري والمثقف، التنظيمي والميداني، لتشكيل وعي جماعي يرفض الخنوع والتسطيح، ويناضل من اجل الحرية والعدالة.
📌الإعلام الطبقي المضاد: صحافة رأس المال
في مقابل هذه الجبهة، وقفت آلة الإعلام السلطوي الرجعي بخطاب مأجور، تُروّج لصورة زائفة عن الديمقراطية، بينما تشيطن حرية التعبير والاحتجاجات الشعبية، وتلمّع سلطة السلاح المنفلت والسوق. هكذا تُعاد قولبة وعي الناس على مقاس النظام القائم، من خلال ضخّ تصور جماعي خاضع يُنتج الطاعة لا التغيير.
وهنا تتجلى أهمية الصحافة الشيوعية كأداة تفكيك جذري، تُعري الهيمنة، وتفضح بنى السيطرة، وتُعيد تعريف الواقع لا بناءً على ما يُقال، بل على ما يُعانيه الناس في يومهم: البطالة، الجوع، العنف، التمييز.
📌راهنية المعركة: بين الخراب النيوليبرالي وتجديد التنوير الثوري
في هذا السياق الخانق، حيث تُحاصر حرية التعبير من الرقابة العلنية إلى الخنق الناعم في ظل الهيمنة الثقافية للنيوليبرالية، ومن التجويع الإعلامي إلى عسكرة الخطاب، تواصل الصحافة الشيوعية أداء دورها كصوت نادر في فضاء مشبع بالبروباغندا. لا تملك امتيازات، ولا تحظى بإعلانات، لكنها تكتب لأن الصمت، في معركة الوعي الطبقي، خيانة.
لقد أدّت الصحافة الشيوعية، على امتداد تسعين عاماً، أدواراً تتجاوز التوثيق: وسّعت التنظيم، وربطت النضال الطبقي بالقضايا الوطنية والاقليمية، والنسوية، والنقابية. بأسلوب مبدئي، ساهمت في صياغة خطاب وطني ديمقراطي ترك أثره على الصحافة التقدمية والوطنية عمومأ.
لم تكن لسان حال الحزب فقط، بل صوتاً لعموم شغيلة اليد والفكر، ورسّخت مكانتها كركن ثابت في معركة بناء الدولة المدنية والتصدي لمنظومات الاستبداد والاحتلال والمحاصصة، لتبقى هذه الصحافة ضرورة نضالية وفكرية، لا ترفاً، وركيزة في مشروع تحرر شعبي شامل.
كما تجاوزت هذه الصحافة التأثير المحلي، إذ شكّلت رافعة أممية، فتضامنت مع حركات التحرر في وجه الهيمنة الامبريالية، وظلّت جزءاً من نبض الشعوب المناضلة، من دون أن تفقد خصوصيتها العراقية. لم يكن حضورها مجرّد تضامن شعاراتي، بل ممارسة يومية: أرّخت للمذابح، نشرت البيانات، وتبنّت نضالات الشعوب - ما جعلها، حاضرة في الوجدان التقدمي الأممي.
📌التحوّل الرقمي: التنوير في الفضاء الإلكتروني
في فضاء رقمي تُهيمن عليه الخوارزميات، وتُعاد هندسة الشبكات لترويج التفاهة وإسكات الصوت التحرري، هنا تبرز الصحافة الشيوعية أمام تحدٍّ مزدوج: أن تبقى وفية لرسالتها الطبقية، وأن تُتقن أدوات العصر. لا بالتنازل، بل بالاقتحام – بالمحتوى البصري، والمقاطع النقدية السريعة، وكل ما يجعل التنوير ممكناً في زمن الانهيار المعرفي. في هذا الفضاء، تتحوّل الصحافة الشيوعية إلى رافعة تنظيمية جديدة: تربط بين الدوائر النضالية، وتبني منصات للفكر التنويري، وتفتح مداخل لتجنيد الطاقات الشابة خارج الأطر التقليدية، كامتداد حي لنشرة الحزب السرّية، لكن بلغة وصياغات العصر.
أفكر معهم، كواحدة منهم، لا كمتفرجة: ما الذي يعنيه أن نواصل هذه الصحافة؟ أن نكتب لا لنملأ الفراغ، بللنكسره؟ أن ننتج معرفة لا تُدجن بل تُفجر وعياً؟ إنمسؤوليتنا اليوم أن نطور جبهتنا الإعلامية في وجهتحالف السلطة، المال، والسلاح.
📌الشهداء والشهيدات: اسم يُكتب بالدم
لا يمكن الحديث عن تاريخ صحافتنا دون الانحناء أمام أولئك الذين دفعوا أعمارهم ثمناً للحقيقة. شهداء الكلمة، شهيدات النشر السري، وأولئك الذين كتبوا وهم يعلمون أن أعين السلطة تترصدهم ومعهم جنود الكتمان. صحافتنا كُتبت بالدم، ومدادها نضال لا يُمحى. لم تكن يوماً، ولن تكون، مجرّد فعل تنظيمي أو فكري؛ بل مخاطرة وجودية، خاضها من أطفأهم الرصاص أو بدّدتهم المنافي. إن هؤلاء ليسوا تضحيات الماضي، بل صناع الوعي في كل زمان. إنهم جميعاً ، بلا استثناء، مفخرة للصحافة العراقية، وللضمير الإنساني الحي.
ختاماً، ليس احتفال التسعين عاماً مناسبة نوستالجية. إنها لحظة إعادة التأسيس، أدعو من خلالها رفيقاتنا ورفاقنا في ساحات التنظيم والنضال: اجعلوا من الصحافة الشيوعية منبراً دائماَ ضد الهيمنة والاستغلال، صوتاً للتنوير، سلاحاً في يد من لا يملكون سوى وعيهم.
فلنكتب كما نناضل: بوضوح، بانحياز، وبلا خوف.
هكذا نحفظ جذوة المسار، شعلةً لا تُساوَم.
عاش نضال الصحافة الشيوعية العراقية، جبهة وعي، ناراً لا تنطفئ.
تموز 2025
#دينا_الطائي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟