دينا الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 8402 - 2025 / 7 / 13 - 00:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من الوقائع إلى البنية – الداخل الامريكي يهتز
الولايات المتحدة لا تواجه فوضى عابرة أو انقساماً حزبياً تقليدياً، بل سلسلة مترابطة من الانفجارات الاجتماعية والأمنية والسياسية، تكشف تصدّعاً عميقاً في بنية الهيمنة. التحليل هنا لا ينطلق من تنظير مجرد، بل من وقائع ملتهبة. ما يبدو كأحداث متفرقة، ليس سوى تجلّيات متراكبة لانهيار منظومة حكم قائمة على "رأسمالية الفوضى" حيث يتآكل العقد الاجتماعي وتتحوّل الديمقراطية إلى غطاء هشّ للردع الطبقي.
في الساحل الغربي، تحديدا كاليفورنيا، نشهد عمليات ترحيل جماعي تطال المهاجرين والفقراء، واحتجاجات شعبية على وقع التمييز والحرمان، تُواجَه بانتشار الحرس الوطني واعتقالات واسعة تحت غطاء "إعادة فرض النظام" - وهو التعبير النيوليبرالي المعاصر عن القمع الطبقي. في المقابل يرفض حاكم الولاية الانصياع لتوجيهات واشنطن، معلناً أن "الولاء الفيدرالي لم يعد مسلّماً به". أما في الولايات الجنوبية، فيتعمّق تمرّد الحكّام المحافظين، ويعلو خطاب "استعادة السيادة المحلية"، كإشارة عملية على تصدع البنية الفيدرالية نفسها.
في نيويورك، تندلع المواجهة على مستوى رمزي وسياسي: ففي مدينة تُعدّ معقلاً مالياً للولايات المتحدة قُدمت كرمز للتعددية و"نجاح الحلم الأميركي" ، والتي تضم مجتمعات مهاجرين ضخمة من آسيا وأمريكا اللاتينية، إضافة إلى جالية يهودية تقارب المليون، ومجتمع مسلم يناهز المليون كذلك. التركيبة العرقية أنتجت نسيجاً اجتماعياً متنوعاً كان مستبعداً تقليدياً من مواقع السلطة، تشهد صعود مفاجئ لمرشح يساري-تقدمي من أصول مهاجرة مسلمة، زهران ممداني، بدعم تحالف واسع من الشباب، والمهمّشين وقوى يسارية. الحدث ليس تقنياً أو انتخابياً، بل يحمل دلالات تمسّ هوية المدينة، لذا سرعان ما يوصف ممداني من قبل اليمين وترامب بـ"الشيوعي"، مع تحريض عنصري وتهديدات بقطع التمويل الفيدرالي عن المدينة في ابتزاز طبقي مكشوف يكشف كيف تُدار "الديمقراطية" الأميركية حين تهتز أركانها، ويكشف الذعر العميق من تصدّع الإجماع الليبرالي داخل معقل الرأسمال وتغيّر البنية الرمزية للسلطة في أميركا.
في موازاة التصدّعات السياسية والطبقية، يكشف الحراك الجامعي والطلابي الأميركي الرافض للعدوان على غزّة والتصعيد مع إيران، عن اهتزازٍ في العمق الأيديولوجي لمنظومة الحكم الإمبريالي. الجامعات، التي كانت جزءاً من "جهاز الدولة الأيديولوجي" كما وصفها ألتوسير، باتت اليوم منصّات مقاومة ضد الصهيونية، واللوبيات المالية، والرأسمال العسكري-الأكاديمي. لم يَعُد يُنظر إلى الإمبريالية كمشروعٍ وطني، بل كعبء أخلاقي واقتصادي، حتى في عيون نخبها التعليمية.
غرامشي أشار إلى أن الهيمنة لا تُبنى بالقمع وحده، بل بـ"الرضى الثقافي" ، وعندما يتصدّع هذا الرضى في الحقل الأكاديمي، فذلك إعلان بانكشاف الهيمنة وفقدان قدرتها على إنتاج الشرعية.
أما في البنية العميقة، تتكشف أزمات متزامنة: فشل في السياسات الاقتصادية والضمانات الاجتماعية، كذلك السكن، الصحة، التعليم، اتساع الفجوة العرقية، تصاعد العنف البوليسي، وعجز الدولة أمام الكوارث البيئية لصالح الشركات الكبرى. هذه التصدّعات أجهزت على ما تبقّى من شبكة الأمان الاجتماعي، وأنتجت هشاشة وجودية للملايين داخل اميركا.
أما خارجياً، فالإمبريالية الأميركية لم تُنهِ حروبها كما وعد ترامب، بل أعادت تموضعها بعدوانية أوسع، وبتحالفات مع قوى يمينية متطرفة في أوروبا وإسرائيل، وميزانيات حرب متضخمة. وكأنها تقول: نحن مأزومون في الداخل، فلنُخيف العالم أكثر.
الانفجار الأمريكي: حين يرتدّ الاستعمار إلى الداخل:
ما يجري ليس مجرّد تراكم للأزمات، بل تعفّن داخلي لهيكل "الديمقراطية الأميركية" وإشارات بنيوية تنذر بتحول الأزمة الأميركية من أزمة إدارة إلى أزمة نظام.
فالنظام الرأسمالي الأمريكي - الذي أسس شرعيته على الاستعمار والهيمنة المالية العالمية - يجد نفسه اليوم مضطراً لاعادة تموضع عنيف بتطبيق آليات الردع نفسها في الداخل: العنف، الطرد، العنصرية، وملاحقة أي صوت سياسي يهدد بنيته في محاولة يائسة لتثبيت عقد اجتماعي يتصدّع.
هنا تظهر "الهيمنة العارية" التي اشار اليها غرامشي: حين تفقد السلطة قدرتها على الإقناع، وتفشل في إعادة إنتاج الأيديولوجيا، لا يتبقى سوى العنف الصريح وهو ماوصفه لينين، "قشرة الديمقراطية" التي تنكشف لتُظهر آلة القمع مجرّدة من كل تزويق.
لفهم هذه اللحظة، لا يكفي توصيفها بوصفها فشلاً إدارياً أو تعثراً في السياسة العامة، بل يجب تفكيكها باعتبارها لحظة اصطدام بين البنية التحتية الاقتصادية - الرأسمال المأزوم، الدين العام، انعدام التوزيع - والبنية الفوقية التي تدّعي الحرية والديمقراطية.
أما مظاهر الأزمة – من الترحيلات الجماعية، الى تفكك الفيدرالية، الى صعود يمين متطرف واشتراكيين جدد – فليست طارئة، بل تجلٍّ لانهيار تراكمي طويل في مرتكزات الدولة الإمبريالية.
الأزمة الأمريكية من منظور ماركسي:
ما يجري اليوم، ليس سوى ارتداد داخلي لقانون أساسي في الرأسمالية: كما حذّر ماركس، فإن التراكم لا يُنتج الثروة فقط، بل يُنتج البؤس كضرورة بنيوية، ومع تصاعد النيوليبرالية التي فُرضت كخلاص عالمي، بات الاستغلال مضاعفاً، لا في الأطراف المُستعمَرة فقط، بل في قلب المركز حيث تعجز البنية الفوقية وآليات الهيمنة الأيديولوجية عن تبرير الازمات و احتواء التناقضات وإنتاج توافق اجتماعي، هنا يظهر "الاغتراب البنيوي" الذي تحدّث عنه ماركس: الذي ينشأ من فصل الانسان عن وسائل الإنتاج، حيث يشعر المواطنون أنفسهم مغتربين عن أدوات القرار، والمعرفة، والحق في الحياة الكريمة.
في هذا السياق، لا يُمكن فهم ترامب وحتى ظهور الحزب الجديد لإيلون ماسك كاستثناء، بل كذروة منطقٍ مأزوم، حيث تغدو الفاشية خياراً بنيوياً لا طارئاً لنظام يفقد مشروعيته من داخل قاعدته الطبقية.
ومن هنا تترابط الأزمة الداخلية الامريكية بالإمبريالية الخارجية: فكلما فشلت الدولة في إنتاج الإجماع داخلياً، ازدادت حاجتها لخلق عدو خارجي- الصين، إيران، روسيا، أو حتى المهاجرين العزّل على حدودها.
إذا كان الوحش ينهار، فلنُسرّع دفنه:
لا تُفهم الأزمة الأمريكية إلا بوصفها اقرب الى لحظة انفجار النموذج الذي أراد فوكوياما أن يُنهي به التاريخ، في قلب هذا الزلزال، يتحدّد الصراع: هل ستتحول الدولة إلى فاشية ناعمة تفرض الولاء بالقوة؟ أم ينتزع الفقراء والمهمّشون أجندة تغيير جذرية من الداخل؟ هنا لا يملك اليسار العالمي ترف المشاهدة؛ بل عليه أن يكون فاعلاً، والفرصة التاريخية تفرض سؤالًا: هل نبني بديلاً أم ننتظر الانهيار؟ الانهيار وحده لا يصنع التحرر. الفاشية تنتظر، والأسواق البديلة تتحرك، واليمين العالمي يتعلم من بعضه. إذا لم يتحرك اليسار، فإن الأرض التي تنخسف تحت أقدام الإمبريالية قد تُستغلّ لتأسيس نسخة أكثر توحشاً منها.
فالانفجار الأميركي من الداخل ليس بالضرورة بديلاً ثورياً، بل يُعَدّ فرصة لاستئناف التاريخ من حيث أُجبر على التوقف، لبناء عالم لا تُختزل فيه الإنسانية في نموذج إمبريالي يتهاوى تحت وزنه. كما يفتح المجال أمام انفجار الأسئلة الممنوعة.
هل يواصل اليسار التماهي مع أنماط "يسارية ليبرالية" ولدت في رحم المركز؟ أم يعيد بناء خطابه وتحالفاته انطلاقاً من الواقع المادي للشعوب المقهورة، وللطبقات العاملة والمهمشة في المركز نفسه كما في الاطراف؟
كما كتب إنجلز: "العنف هو القابلة التي تلد العالم الجديد"
والقابلة جاهزة، فهل نحن مستعدون للولادة؟
7 تموز 2025
#دينا_الطائي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟