دينا الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 8381 - 2025 / 6 / 22 - 16:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لسنا في زمن يسمح لنا بالترف الأخلاقي أو بالاختباء خلف المواقف الرمادية. نحن في قلب العاصفة، حيث كل انحياز هو إعلان عن الذات. وأعلن: لست من أنصار النظام الإيراني، وأدرك جيداً القمع الذي يرزح تحته الشعب الإيراني، ولا أنسى أن رفاقنا في تشرين سقطوا برصاص بعض الميليشيات المدعومة من طهران. لكن هذا لا يجعلني أساوي بين طهران وتل أبيب، ولا بين نظام استبدادي، وبين مشروع استيطاني كولونيالي دموي تقوده إسرائيل وتحميه الإمبريالية.
ما تفعله إسرائيل اليوم ليس سوى المرحلة الأحدث من مشروع استئصالي استيطاني طويل، هدفه تصفية القضية الفلسطينية وشعوب المنطقة وإلغاء أي إمكانية للتحرر الوطني أو العدالة الطبقية. مقابلها، تلعب أمريكا دور الراعي الأعظم للخراب: من غزو العراق، إلى سحق اليمن والسودان وسوريا ولبنان، إلى تطبيع الاستبداد العربي، إلى حماية إسرائيل من المحاسبة.
معارضة سياسات ايران في المنطقة، رغم مشروعيتها في بعض السياقات، يتم استخدامها لتبرير صمت مهين على وحشية الاحتلال الصهيوني، وتحويل محور الصراع الأساسي من مناهضة الصهيونية والامبريالية العالمية بقيادة الولايات المتحدة إلى محاربة “النفوذ الإيراني” – كأننا عميان عن وجود قواعد أمريكية، وجيوش استعمارية تحت مسمى قوات التحالف، واستيطان دموي.
علينا ألا ننجرّ خلف السردية الغربية. لا نقدّس النظام، ولا نُخضِع الموقف المبدئي من حق الدفاع عن النفس والمقاومة لحسابات النفوذ. ندرك التناقض، نعم. نرفض تسييس القضية الفلسطينية لصالح أنظمة، نعم. لكن لا نقبل بتذويب جوهر الصراع: إسرائيل هي الخطر المركزي، ومن يسكت عنها ويتحدث فقط عن “التوسع الإيراني” فقد بوصلته.
إسرائيل ليست مجرد خطراً وكياناً استيطانياً، إنها كيان اجتثاثي، مؤسسة إبادة، تُديرها واشنطن، وتحميها أوروبا، ويُمهِد لها الطريق الإعلام الخليجي، هي مركز عصب لمنظومة عالمية هدفها خنق المنطقة والعالم. المشروع الصهيوني ليس وجهاً آخر من الاستبداد، بل أداة تنفيذ مركزية في المشروع الإمبريالي، في خطة لإعادة قولبة الشرق الأوسط بما يخدم الربح الرأسمالي والاستقرار الاستبدادي.
فما نراه في فلسطين والعراق وسوريا واليمن ولبنان والسودان، ليس سوى طبقات متراكبة من تدخلات صهيو-أمريكية، تحالفات أمنية مع أنظمة بوليسية ومليشاوية وتنظيمات ارهابية، وخرائط سياسية تُرسم فوق دماء الشعوب الحرة وثوراتها وثرواتها.
مع كل الجدل الحالي حول إيران اليوم، من المهم التذكير بحقائق لا يمكن تجاهلها: لم تكن طهران هي من بدأ العدوان، بل الكيان الصهيوني الذي بدأ بتوجيه ضربات استباقية بحجة “التهديد النووي”، في وقت يمتلك فيه ترسانة نووية خارج أي رقابة دولية. البرنامج النووي الإيراني بقي في إطار الاتفاق الذي انسحبت منه واشنطن بشكل أحادي، ضاربة بكل شيء عرض الحائط. ما يسمّى “المفاوضات” لم تكن سوى واجهة لتأجيل المواجهة وتحضيرها بشروط العدو، لا لتفاديها. من ترك طاولة الحوار هو الغرب، ومن واصل العقوبات والحصار هو واشنطن. الخطاب عن “تهديد إيران” ليس إلا غطاء لتثبيت تفوّق نووي استيطاني وشرعنة الحروب الوقائية لصالح مشروع هيمنة لا يريد أي قوة إقليمية قادرة على ردعه تحت يافطة الشرق الاوسط الجديد.
موقفي هذا مبني على قاعدة ان الخطر الصهيو-امريكي وجودي، يعمل على تفتيت مجتمعاتنا، تدمير الذات الجماعية، وتجفيف كل منابع التحرر. والمقاومة -رغم كل تناقضاتها- تبقى الرد الوحيد المتاح لشعوب تواجه الإبادة. ولأننا لا نملك ترف الوقوف على الحياد، ولا أن نغرق في نقد جزئي على حساب الصراع الجذري.
موقفي الشامت بإسرائيل، لأنها تمثل نقيضاً تاريخياً لكل ما نؤمن به: نقيضٌ لحركات التحرر، للصراع الطبقي، للعدالة الاجتماعية، لحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولإرادة الكادحين في بناء عالم دون استغلال أو هيمنة.
إسرائيل ليست فقط نقيضاً مفاهيمياً لحركات التحرر، بل تجسيد حي ومادي للمشروع الإمبريالي العالمي، وتطبيق مباشر للاستعمار الحديث، الذي ينقل الصراع الطبقي من مركز النظام إلى أطرافه، محوّلاً فلسطين والشرق الأوسط وشمال افريقيا إلى حقل تجارب دائم لآليات القمع والتفتيت.
هذا الكيان لا يُمارس القمع فحسب، بل يقوم على نفي وجود الآخر: نفي الشعوب، والتاريخ، والأرض، والحق، ما يجعله نفياً مادياً لكل فكرة عن العدالة الاجتماعية وحق تقرير المصير.
إسرائيل ليست ثابتة سياسية فقط، بل مفاعل لإعادة إنتاج الهيمنة: بعسكرتها، بتقنياتها الأمنية، بعلاقاتها الاقتصادية، وبدورها كبؤرة متقدمة للنيوليبرالية في قلب الشرق الأوسط.
وتحالفها العميق مع رأس المال العالمي، والأنظمة الرجعية، والدكتاتوريات، يؤكد أنها ليست مجرّد حليف للغرب، بل لاعب بنيوي داخل النظام الإمبريالي ذاته.
لهذا، لا يمكن لأي تصور تحرري أو صراع طبقي أن يتجاهل مركزية إسرائيل في شبكة السيطرة. إنها ليست مجرد “عدو سياسي”، بل أداة تنفيذ مركزية في مشروع عالمي لإعادة إنتاج الاستغلال، وسحق أي أفق للعدالة والتحرر.
ومن هنا فإن موقفي الشامت من انكشاف ضعف هذا الكيان ليس تعبيراً عاطفياً، بل موقف مبدئي من نقيضنا التاريخي والطبقي، ومؤشر على اهتزاز قلب النظام الإمبريالي نفسه. لأن هذا الضعف المتكشّف هو دليل على أن المشروع الإمبريالي ليس قدَرياً، وأن زمن التفوق المطلق ينهار، وأن كل رصاصة مقاومة، كل كلمة، كل صمود، هو انتصار جزئي ضد مشاريع الإبادة والسيطرة على مقدرات شعوبنا.
ولأن انهيار المنطقة لن يترك وراءه “ديمقراطيات حقيقية” بل خراباً شاملًا تتحكم به نخب عميلة للبيت الأبيض وربيباته. الطبقة السياسية العراقية الحالية مثلاً، هي نتاج احتلال أمريكي، تتقاسمها مع طهران، واشنطن لم تقف يوماً مع منتفضي تشرين، بل ساندت ضمنياً استمرار نظام المحاصصة القائم على الفساد والتبعية.
وهنا، لا بد من أن نرفض أيضاً اختطاف نضال الشعوب من قِبل المشروع الإمبريالي نفسه. لا تحرر يأتي على ظهر دبابة، ولا عدالة تُفرض بصواريخ “الحرية”. نحن نؤمن بالتغيير من الداخل، من صلب الحركة الشعبية، لا من عواصم القرار في واشنطن أو تل أبيب. كل تدخل خارجي تحت شعار “الديمقراطية” هو إعادة إنتاج للهيمنة بشكل جديد. من استعان بالمحتل لبناء “دولة”، إنما شرعن تفكيكها وهدمها.
اما الخليج لم يكن يوماً خندقاً للثورات وللمقاومة وحركات التحرر، بل خزاناً نفطياً يدير غرف عمليات الاستعمار والتطبيع والتجويع -بالمباشر أو بالوكالة- واعادة رسم الشرق الاوسط وشمال أفريقيا.
نحن في لحظة مفصلية: نعم، نرفض انظمة الاستبداد، وقمعها ومعاداتها لطموحات شعوبها، وهذا لا يتغير. لكن في معادلة القوة، لا يجوز أن نغفل أن واشنطن وتل أبيب هما مركزا الهدم الجوهري. أمريكا تدفع بسياسات ترامب-نتنياهو الفاشية نحو حروب إبادة، لا فقط في غزة/فلسطين بل في اليمن وسوريا ولبنان والسودان. لذا تحميل إيران وحدها تبعات الانهيار، وتبرئة أمريكا وإسرائيل من جرائمهم، هو تزوير سياسي.. أن تكون ضد إيران لا يعني أن تتحول لبوق لإسرائيل أو وكيل ناعم للبنتاغون والصهيونية. هذا اختزال قاتل، وكل محاولة للحياد وللموازنة هي خيانة لتاريخ الشعوب ومقاومتها.
عدونا واضح؛ هو الصهيو-امبريالية. ومن لا يراه في تل أبيب وواشنطن، يرى بعين واحدة. نقف مع الشعوب، لا مع أنظمتها. ومع فلسطين، لا لأن إيران تدعمها، بل لأنها بوصلتنا. ومن لم يُصغِ بعدُ لصوت السلاح المقاوم، فليصمت على الأقل، فالصمت أقل ضرراً من التواطؤ، حتى تنضج الحقيقة في وجدان الشعوب.
في زمن المجازر، الانحياز مقاومة.
وفي زمن الصمت، الكلمة مقاومة.
16/6/2025
#دينا_الطائي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟