|
اليدُ المرفوعة: الفيتو الأميركي بين رمزيةِ الصورة وسياقِ الهيمنةِ التأريخية
دينا الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 17:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تمهيد بصري: اليد التي تُسقِط العالم
من منظور نقدي جذري، لا تظهر الصورة الأخيرة لمندوبة الولايات المتحدة وهي ترفع الفيتو السادس ضد وقف الإبادة في غزة كإيماءةٍ إجرائية عابرة، بل كأيقونة لهيمنةٍ متوارثة تمارسها دولة عظمى عبر منظومة دولية بُنيت لفرض السلطة وتقييد قدرة المجتمعات المُهمَّشة على الحماية القانونية والسياسية. إنها تكثيف بصري وتاريخي لدور أميركا في صياغة العالم الحديث وفق منطق القوة لا منطق العدالة. اليد المرفوعة هنا هي مرآة قرن كامل من التدخلات والحروب والفيتوات، حيث تفرض واشنطن إيقاعها على مصير شعوب بأكملها. في هذه اللقطة تتكثّف ثلاث طبقات من الخطاب: أولاً، الأحمر الفاقع في اللباس—لون الخطر والدم والتحذير—يتحوّل إلى خلفيةٍ بصرية تُؤطر قراراً يُفترض أن يكون أخلاقياً (وقف إطلاق النار) لكنه يُقابَل بإشارة رفض مصبوغة بدم الضحايا. ثانياً، اليدُ المرفوعة باستقامة أمام لوحة «UNITED STATES» تستدعي، ولو على مستوى الاستعارة البصرية، صور التحيات السلطوية القديمة: ليس لأن القصد مُعلن، بل لأن الشكل يُثير هذه الذاكرة السياسية تلقائياً. ثالثاً، البرود في الملامح: الوجه الجامد، الخالي من التردد أو التعاطف، يجسّد البيروقراطية الإمبريالية التي تُحوّل حياة الشعوب إلى بندٍ إجرائيٍّ يُقضى فيه بلمح اليد. بهذه الطبقات تُغادر الصورة إطار «الحدث» إلى رمزية المسرحة: اليد لا تُصوّت فحسب، بل تُنتج صمتاً عالمياً قسرياً، تُعطِّل إرادة الغالبية باسم «الإجراءات». وهنا تبدأ الحكاية.
دورة الهيمنة الأميركية بعد الحرب العالمية الثانية
منذ عام 1945، خرجت الولايات المتحدة من الحرب العالمية الثانية باعتبارها القوة العظمى القادرة على إعادة تشكيل النظام الدولي. تأسيس الأمم المتحدة نفسه جرى تحت هيمنتها، وكان منح حق الفيتو للدول الخمس الكبرى (أميركا، روسيا، الصين، بريطانيا، فرنسا) اعترافاً عملياً بتوازن القوى لا بالعدالة. لكن ما يميز الدور الأميركي أن الفيتو أصبح جزءاً من بنيتها الاستراتيجية، أداة لتعطيل القانون الدولي كلما تعارض مع مصالحها أو مصالح حلفائها. في الخمسينات والستينات، استعملت واشنطن أدوات غير الفيتو بشكل مباشر: الانقلابات العسكرية، دعم الأنظمة الموالية، التدخل في فيتنام وكوبا. حرب فيتنام لم تكن مجرد مواجهة جيوسياسية، بل نموذجاً لممارسة القوة العارية ضد الشعوب، حيث سقط ملايين القتلى وتعرضت أراضٍ كاملة للتدمير عبر النابالم والعمليات الجوية. وفي أميركا اللاتينية، موّلت ودعمت واشنطن الانقلابات مثل انقلاب تشيلي عام 1973 ضد حكومة سلفادور أليندي المنتخبة ديمقراطياً. هذه الأحداث تكشف أن منطق الهيمنة الأميركية لم يكن محصوراً في المؤسسات الدولية، بل كان يترجم إلى تدخل مباشر في السيادة الوطنية لدول الجنوب.
عقد الدم: السبعينات والثمانينات
منذ السبعينات، صار الفيتو الأميركي مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالقضية الفلسطينية. أول فيتو عام 1972 لصالح إسرائيل ضد قرار يطالبها بالانسحاب من الأراضي المحتلة كان إعلاناً صريحاً أن مجلس الأمن لن يكون منصة للعدالة، للشعوب الرازحة تحت الاحتلال، بل أداة لإدامة موازين القوى. في السبعينات والثمانينات، تكررت الفيتوات الأميركية لمنع إدانة إسرائيل. حتى نهاية 2023، بلغ مجموع الفيتوات الأميركية حوالي 89 مرة، وأكثر من نصفها (45 تقريباً) استخدمت لحماية إسرائيل من أي مساءلة في مجلس الأمن. من بين هذه الفيتوات، كان حوالي 33 فيتو مرتبطاً مباشرة بالقضية الفلسطينية وقرارات تدين الاستيطان أو الاعتداءات. هذه الأرقام تكشف أن القضية ليست استثناء، بل جزء من سياسة ممنهجة لحماية الاحتلال وتعطيل القانون الدولي. هذه الفيتوات جاءت ضمن سياق عالمي أوسع: دعم أنظمة استبدادية في أميركا اللاتينية، تسليح طالبان في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي، واستخدام العالم الثالث كساحة حرب بالوكالة. هنا تتجسد فكرة هوركهايمر وأدورنو في جدل التنوير: العقل الغربي حين ينفصل عن القيم يتحوّل إلى عقلٍ أداتي -«أداة قمع»- تُسخَّر فيه التكنولوجيا والقانون لخدمة القمع والهيمنة لا التحرر.
التسعينات: ما بعد الحرب الباردة
بدت أميركا في التسعينات وكأنها خرجت أخيرًا من ظل الثنائية القطبية. لكن هذا الانفراد لم يأتِ بالعدل، بل فجّر نموذجاً جديداً من السيطرة باسم الشرعية الدولية، قادت أميركا تحالفاً لتدمير العراق. مجلس الأمن أُخضع تماماً لإرادة واشنطن، وصدرت عقوبات قاسية أدت إلى موت مئات الآلاف من المدنيين العراقيين. وفق تقارير اليونيسف، أسفرت العقوبات خلال التسعينات عن وفيات إضافية تتراوح بين 400,000 و 500,000 طفل عراقي نتيجة نقص الغذاء والدواء. هذه المأساة تجسّد ما كتبه فوكو في المراقبة والمعاقبة: السلطة لا تقتل فقط بالسلاح المباشر، بل أيضاً بإنتاج شروط موتٍ بطيء عبر التحكم في شروط الحياة ذاتها. ومع دخول الألفية الجديدة، وجدت واشنطن في خطاب "الحرب على الإرهاب" ذريعة جديدة لإدامة هذه السيطرة.
الألفية الجديدة: العراق، أفغانستان، والحرب على الإرهاب
بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، دشنت واشنطن مرحلة جديدة من الهيمنة عبر خطاب "الحرب على الإرهاب". غزت أفغانستان ثم العراق عام 2003 من دون تفويض واضح من مجلس الأمن. وحين حاولت دول أخرى الدفع بقرارات تدين الاحتلال أو تنظم الانسحاب، كان الفيتو الأميركي حاضراً. كما يوضح فوكو، فإن إنتاج خطاب يجعل القمع يبدو عقلانياً هو أداة سلطة بحد ذاته؛ والاحتلال الأميركي للعراق لم يُسوّق كغزو، بل كجزء من مشروع "نشر الديمقراطية". في الوقت نفسه، شهدت هذه المرحلة استخدام الفيتو بشكل متكرر لحماية إسرائيل من أي إدانة أثناء الانتفاضة الثانية، أو خلال الحروب على غزة (2008، 2012). هكذا استمر الفيتو كأداة لحجب العدالة، بينما كان يُستعمل مجلس الأمن لإضفاء الشرعية على العقوبات والحروب التي تخدم أجندة واشنطن.
العقد الأخير: من الربيع العربي إلى غزة
لعبت الولايات المتحدة في العقد الأخير، دوراً محورياً في إعادة صياغة الشرق الأوسط بعد الربيع العربي. دعمت أنظمة بعينها، أسقطت أخرى، واستخدمت الفيتو لحماية إسرائيل مراراً من أي مساءلة في مجلس الأمن. في 2011، منعت قراراً يدين الاستيطان. وفي السنوات الأخيرة، تعاقبت الفيتوات ضد قرارات تدعو لوقف إطلاق النار أو لحماية المدنيين في غزة. ومنذ 2023 فقط، رفعت واشنطن يدها ست مرات متتالية ضد قرارات لوقف الإبادة في غزة. لكن ما يجعل الصورة الأخيرة أكثر شراسة أنها تأتي في سياق مختلف: لم يعد هناك غطاء أيديولوجي للحرب كما في الماضي (لا حرب باردة، ولا «حرب على الإرهاب» تبريريّة). العالم يشاهد مجازر حيّة على الشاشات، وأغلبية الدول تصوت لوقفها، ومع ذلك تُسقِط يدٌ واحدة إرادة الغالبية. هنا تحديداً تكتسب الصورة شراستها: إنها أيقونة للهيمنة الأميركية في طورها العاري.
الفيتو في صورته البصرية: أسطورة اليد المرفوعة
يساعدنا رولان بارت في فهم الصورة كـ«أسطورةٍ يومية»: لا تنقل الحدث فحسب، بل تُعيد إنتاج معنى السلطة. اليدُ المرفوعة تقول ضمناً: «نحن القانون أو فوق القانون». الأحمر يضفي على القرار بعداً دموياً، فيما يكشف البرود في الوجه عن بيروقراطية قاتلة تُحوِّل الحكم على حياة الشعوب إلى إجراء روتيني. ومن منظور إدوارد سعيد في الاستشراق، يعيد الفيتو إنتاج القسمة الكولونيالية: الغرب يُعرِّف النظام والشرعية، والشرق يُختَزَل في صورة الفوضى التي ينبغي ضبطها، لا كضحايا يجب حمايتهم. الفيتو يُجدِّد العلاقة ذاتها التي صاغها الاستعمار: الغرب يقرِّر، الشرق يخضع. بهذه العدسة، تصبح المقارنة مع صور فيتواتٍ أميركيةٍ سابقة ممكنة: هناك دائماً أيدٍ مرفوعة، لكن هذه الصورة أشد مسرحةً وقسوةً؛ تُرفع بثقةٍ مطلقة، تتّشح بالأحمر، وتُبدي جموداً يُحيل إلى فاشيةٍ مُقنَّعة. وهنا تتضح فكرة أدورنو حول «الفاشية الجديدة» أو ما يشبه «الاستبداد الديمقراطي»: ليس الاستبداد في الشعارات الصاخبة، بل في بيروقراطية حديثة تُعيد إنتاج الفاشية بأدواتٍ ناعمة - لغة مؤسساتية، تصويت، ونظام لوائح - بينما تُنجز النتيجة نفسها: تعليق إنسانية الآخر تحت غطاء الشرعية الإجرائية.
من الانقلابات إلى الفيتو: أدوات واشنطن لإدامة الهيمنة
لا يمكن النظر إلى الفيتو الأميركي في عزلة عن أدوات أخرى استخدمتها واشنطن لفرض إرادتها. فالفيتو في نيويورك هو الوجه الدبلوماسي للانقلابات والتدخلات على الأرض. فمنذ خمسينات القرن الماضي، تحركت الولايات المتحدة لإسقاط حكومات يسارية أو تقدمية خشيت أن تشكّل نموذجاً بديلاً أو تهديداً لمصالحها الاقتصادية والجيوسياسية. هكذا جرى في غواتيمالا عام 1954 عندما أُطيح بجاكوبو أربينز بسبب إصلاحاته الزراعية التي اصطدمت بمصالح الشركات الأميركية، وكذلك في تشيلي عام 1973 حين سقط سلفادور أليندي المنتخب ديمقراطياً بفعل انقلاب دعمته وكالة الاستخبارات المركزية الـ CIA ، ثم في الأرجنتين عام 1976 حين دعمت واشنطن الدكتاتورية العسكرية ضمن عملية كوندور التي استهدفت اليسار في القارة. ولم تتوقف هذه السياسة بانتهاء الحرب الباردة، بل وجدت أشكالاً جديدة في العقود الأخيرة. ففي فنزويلا عام 2002، باركت واشنطن المحاولة الانقلابية ضد هوغو تشافيز، وفي هندوراس عام 2009 تغاضت عن إطاحة الرئيس مانويل زيلايا، وفي بوليفيا عام 2019 ساهم الموقف الأميركي في تثبيت حكومة مؤقتة أعقبت استقالة إيفو موراليس. وحتى في أوكرانيا عام 2014، حيث رأت واشنطن وحلفاؤها ما جرى على أنه ثورة شعبية، اعتبرته روسيا انقلاباً مدعوماً من الغرب ومقدمة للنزاع المفتوح الذي انفجر لاحقاً. يكشف هذا المشهد عن مقاربةٍ متصلة: صناعة الوقائع على الأرض ثم توفير غطاءٍ دبلوماسي عبر الفيتو أو النفوذ الأممي. بهذا المعنى، الفيتو ليس حدثاً فوقانياً؛ إنه الواجهة المُقنّنة لترسانةٍ أوسع من الإكراه السياسي. الفارق الوحيد أن الفيتو يُمارس في قاعات نيويورك تحت قبة الشرعية الدولية، بينما الانقلابات والتدخلات تقع على الأرض في مدن أميركا اللاتينية والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية. وكما أن روسيا استخدمت الفيتو مراراً في سوريا لحماية حليفها، ثم حاولت توظيفه لتبرير سياساتها في أوكرانيا، فإن الولايات المتحدة جعلت من الفيتو ممارسة عالمية متكررة وممنهجة، خاصة في ما يتعلق بحماية إسرائيل وتثبيت مشروعها في الشرق الأوسط. هذا التوازي بين الأدوات يفضح حقيقة النظام الدولي: ليس ميداناً للعدالة، بل ساحة تتغلب فيها القوة على القانون.
المشروع الأميركي في الشرق الأوسط: من شبكة الضغط إلى البنية التمثيلية
لم يكن الفيتو الأميركي جزءاً منعزلاً من سياسة خارجية، بل عنصراً وظيفياً ضمن مشروع أميركي أوسع في الشرق الأوسط. بعد الحرب العالمية الثانية، شكّلت واشنطن تحالفات استراتيجية للحفاظ على مصالحها — النفط، القواعد العسكرية، والشراكات الأمنية — كما طوّرت شبكة من الدعم الدبلوماسي والسياسي التي ضمنت نفوذها في المؤسسات الدولية. ومع تصاعد النزاع العربي–الإسرائيلي، تبلورت علاقة استراتيجية فريدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ولم يكن هذا الارتباط مجرد خيار خارجي، بل تغذّى من الداخل الأميركي نفسه عبر شبكات ضغط سياسية مثل AIPAC، التي ناقشها جون ميرسهايمر وستيفن والت في كتابهما The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy. هذه المنظمات استثمرت في الضغط السياسي والتمويل الانتخابي، ما جعل حماية إسرائيل سياسة ثابتة لا تتأثر بتغير الإدارات. لكن حصر هذا النفوذ في مجرد "لوبي" مثل AIPAC، وإن كان واقعياً من زاوية الضغط السياسي، يُبقي التحليل في مستوى الأدوات، دون تفكيك البنية الرمزية التي تجعل الدعم لإسرائيل أمراً "بديهياً" داخل المخيال السياسي الأميركي. هنا، تكتسب قراءة إدوارد سعيد للاستشراق أهميتها: العلاقة بين أميركا وإسرائيل ليست فقط تحالف مصالح، بل تمر عبر إنتاج تمثيلات ثقافية وسياسية تجعل من إسرائيل "امتداداً للغرب المتحضر"، في مقابل فلسطين بوصفها "أرضاً للفوضى واللاعقل". هذا التوصيف لا تخلقه فقط شبكات الضغط، بل يُبنى عبر التعليم، والإعلام، والمناهج، والخطاب الرسمي، ما يجعل الفيتو الأميركي ليس فقط خياراً سياسياً، بل نتيجة لبنية تمثيلية تؤطر "الآخر" الفلسطيني كاستثناء من العدالة. هنا يصبح الفيتو درعاً دبلوماسياً يحمي شريكاً استراتيجياً بينما تُترك شعوب المنطقة لمصيرها من الاحتلال والإبادة.
الفيتو والعقل الأداتي
هذا الاستخدام الأميركي للفيتو يكشف عن وجه آخر أعمق: ما أسماه هوركهايمر وأدورنو في جدل التنوير بـ"العقل الأداتي". فبدل أن يكون العقل أفقاً للتحرر، يتحول إلى أداة تقنية تُستخدم لتعظيم السيطرة وتحقيق الكفاءة في خدمة مصالح السلطة. الفيتو، من حيث هو إجراء قانوني في مؤسسة دولية، كان يفترض أن يعمل كآلية توازن تمنع الاستبداد الأحادي. لكنه، حين يُستخدم لتعطيل قراراتٍ تُنقذ مدنيين أو تُقيِّد الاحتلال، يغدو تقنيةً محايدة ظاهريًا تُسخَّر لإدامة السيطرة. وكما يقول جورجيو أغامبين، فإن تعليق القانون باسم القانون نفسه هو جوهر "حالة الاستثناء"، حيث تُترك الشعوب خارج الحماية، في فضاء قانوني سلبي لا يعترف بها كذوات حقوق، بل كحياة يمكن التضحية بها. هذا البعد يكشف أن المشكلة ليست في سوء استخدام عارض، بل في بنية عقلانية غربية تُخضع القيم الإنسانية لمنطق المنفعة والسيطرة. بهذا المعنى، يطلّ هايدغر من نافذة "العالَم المُتشيِّئ": يتحوّل الوجود الإنساني إلى ملف قرار، رقمٍ في محضر جلسة، "عنصر مخاطرة" يُدار تقنياً. في فلسفة هايدغر، التشييء لا يعني فقط تحويل الإنسان إلى "شيء"، بل يعكس انزلاق العالم نحو نمط من الوجود يُهيمن عليه الحساب والجدوى التقنية، حيث تختفي الأسئلة الوجودية خلف أنظمة تشغيلية باردة. بهذا الفهم، يصبح النظام الدولي ذاته تمظهراً لهذا العالم: لا يُدار عبر قيم، بل عبر إجراءات تقنية -كالتصويت، والفيتو، والتقارير- تُخضع مصير الشعوب لحسابات هندسية للهيمنة، لا لأسئلة العدالة أو الوجود المشترك. وحين تُختزل حياة جماعةٍ كاملة إلى خانةٍ على جدول التصويت، نكون أمام تشييءٍ مُكتمل: كينونات تُسقَط أو تُرفَع بإيماءة يد.
الفيتو كأداة لتوسيع دوائر الكارثة
حين نراجع سجل الفيتوات الأميركية تتبدّى سلسلة تداعيات متراكمة: في فلسطين وحرب الابادة والحصار المفروض على غزة، وفّرت الحماية الدبلوماسية لحروبٍ متكررة، نزوحٍ واسع، وتدميرٍ للبنى التحتية، حتى تحولت الجغرافيا هناك إلى فضاء محاصر بالموت والجوع. في العراق، مثّلت العقوبات ثم الغزو ذروة العنف المؤسسي، حيث تُقاس الكارثة بما سُمّي «الوفيات الزائدة» بين الأطفال، وهو موت بطيء صُنِع إدارياً لا عسكرياً. وفي فضاءاتٍ عربية أخرى (ليبيا، سوريا) تداخلت فيتوات القوى الكبرى مع تدخلاتها بالوكالة، فاشتغلت هندسة الفراغ: تفكيك الدول، عسكرة المجتمع، وتدويل القرار المحلي. صحيح أن روسيا والصين استخدمتا الفيتو في لحظات صراع حاد، لكن استعمالهما يندرج غالباً ضمن حدود إقليمية، مرتبط بحماية حدود النفوذ أو الدفاع عن حلفاء في مجالات تقليدية للنفوذ. روسيا في سوريا وأوكرانيا، والصين في ملفات تتعلق بتايوان أو انتهاكات مزعومة في شينجيانغ. أما الفيتو الأميركي، فيأتي ضمن مشروع هيمنة كونية يتجاوز الإقليم، ويحمل طابعاً بنيوياً يعيد تشكيل المنظومة القانونية والدبلوماسية العالمية وفق مصالح واشنطن وتحالفاتها. هذا ما يجعل الفيتو الأميركي أكثر من أداة تعطيل: إنه تقنية لإعادة إنتاج نظام دولي غير عادل، حيث لا يُعلّق القانون فقط، بل يُعاد تأطيره في خدمة القوة. وهنا تكمن خصوصية السجل الأميركي في استخدام الفيتو في تكرار ممنهج لحماية إسرائيل وربطه بمشروع جيوسياسي أوسع في الشرق الأوسط، ما جعل أثره على الإقليم بنيوياً وطويل الأمد.
الهيمنة والإجماع القسري والقداسة الزائفة للفيتو مع غرامشي نفهم أن الهيمنة ليست قسراً فحسب؛ إنها إنتاج إجماع. مجلس الأمن يتحوّل مسرحاً لصناعة إجماعٍ مُزَيَّف: تُرفع يدٌ واحدة فتُسقط إرادة 193 دولة. تُروَّض اللغة الأممية كي تُبرِّر العجز بدل أن تفضحه، فيغدو القانون قناعاً للهيمنة لا قيداً عليها. حيث تتلبّس بعض الأدوات السياسية هالةً من القداسة تُحصّنها من النقد. هكذا يُعامل الفيتو كـ«حقٍّ مطلق» يقف فوق المساءلة، مع أنه يُساق عملياً لتعطيل العدالة. هنا تنقلب المعايير: الجريمة تُشرعَن، والضحية تُدخَل في مفاوضات وجودها، وتتحوّل القداسة الزائفة إلى أداة لشرعنة الظلم.
خاتمة: حين تصير اليد خطاباً
إن الصورة الأخيرة لمندوبة الولايات المتحدة ليست مجرد تفصيل بروتوكولي في جلسة دولية، بل هي مرآة لمسار قرن من الهيمنة الأميركية. من فيتوات السبعينات لحماية الاحتلال الإسرائيلي، إلى حرب الخليج، إلى غزو العراق وأفغانستان، وصولاً إلى غزة اليوم، يتكرر المشهد ذاته: يد واحدة تعطل العدالة وتشرعن القتل. ما يجعل هذه الصورة أكثر شراسة هو أنها تأتي بعد عقود من التجارب التي أثبتت أن الفيتو الأميركي ليس استثناءً، بل قاعدة. قاعدة تجعل القانون الدولي نفسه أداة في يد القوة. هذه اليد المرفوعة في نيويورك ليست منفصلة عن الطائرات التي تدك غزة، ولا عن العقوبات التي قتلت العراقيين، ولا عن الانقلابات التي أطاحت بشعوب بأكملها، ولا عن النابالم في فيتنام، ولا عن المجازر التي جرت تحت حماية الانقلابات اللاتينية. إنها اليد التي تمثل دورة كاملة من الهيمنة الأميركية، حيث تُحوَّل العدالة إلى مسرح، والإنسانية إلى بند يُسقط برفع إصبع. لكن هذه اليد لا تُقابل دوماً بالخضوع. ففي كل لحظة صمت مفروض، تتخلق لحظات مقاومة: من صمود شعبي في فلسطين، إلى معارك قانونية في المحاكم الدولية، إلى تحالفات عالمية تُعيد تعريف العدالة من موقع المُستَبعَدين. الجنوب لا يُختزل في موقع الضحية، بل ينهض كفاعل يُقاوم، يوثّق، ويعيد تخيّل النظام الدولي نفسه من تحت الركام. "إنها اليد التي تختصر جوهر النظام الدولي: قوة تُشرعن ذاتها وتترك الشعوب لمصيرها"
20/9/2025 ______________________________ 🔴المراجع الفكرية - رولان بارت، أسطوريات. - ماكس هوركهايمر وثيودور أدورنو، جدل التنوير. - ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة. - إدوارد سعيد، الاستشراق. - أنطونيو غرامشي، دفاتر السجن. - جورجيو أغامبين، "حالة الاستثناء".
🔴المراجع والبيانات 📌 عدد الفيتوات الأميركية حتى أواخر 2023: نحو 89 فيتو، وأكثر من نصفها لحماية إسرائيل، ونحو 33 مرتبطاً مباشرةً بفلسطين/الاستيطان. (Chicago Council on Global Affairs) 📌 وفيات الأطفال في العراق خلال التسعينات (الوفيات الزائدة): تقديرات اليونيسف/ICMMS تشير إلى نطاق 400–500 ألف طفل نتيجة آثار العقوبات على الغذاء والدواء. 📌مرجع اللوبي المؤيد لإسرائيل: John J. Mearsheimer & Stephen M. Walt, The Israel Lobby and U.S. Foreign Policy (2007). 📌ملاحظة: الأرقام الإجمالية لاستخدام الفيتو الأميركي بعد 2023 قد تكون تغيرت؛ لذلك أبقينا عبارة «حتى نهاية 2023» للأرقام التاريخية، وأشرنا تحديداً إلى 18/09/2025 للفيتو الأخير المتعلق بغزة بوصفه «السادس» وفق التقرير الموثق.
#دينا_الطائي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ريفييرا الإخضاع: نحو أقصى مراحل الوحشية الإمبريالية
-
الهند كأزمة عالمية مركبة: بين سندان النيوليبرالية، ومطرقة ال
...
-
الرجل الذي حمل التنوير ومضى: رفيقنا الكاملُ بنُبله .. سبعة ع
...
-
صوتٌ لا يُقمع: تسعون عاماً من نضال الصحافة الشيوعية العراقية
...
-
ثورة 14 تموز: ما زال وهجُها يَفضحُ التبعية
-
أين اليسار الأممي: الإمبريالية الإمريكية المأزومة خارجياً، ت
...
-
شرقٌ بلا ردع: كيف تُخاض الحرب الإمبريالية على الشعوب بإسم ال
...
-
في زمن الارتباك: لا حياد مع جرائم الصهيو-امبريالية
-
الحركة الإحتجاجية رحم التغيير المنشود
-
ساحة التحرير .. و للحلم بقية ...
-
القوى المدنية الديمقراطية و إعادة إنتاج عناصر التغيير
-
الشيوعيون العراقيون .. و صراع مبادئ لن ينتهي ...
-
على طاري المعارض و كلب الوزير
-
وطني .. طوفان الدم ...
-
الكورد ليسوا مسؤولين عن مقتل البديوي يا دعاة الفتنة و حملة ا
...
-
يا بحري اللافاني
-
شغف عالي
-
نعيب زماننا و العيب فينا .. زيارة أوغلو مثالا ...
-
يا رجائي العظيم ...
-
هوية الأمة العراقية بين الريف و الحضر
المزيد.....
-
إيطاليا ترسل فرقاطة لمساعدة -أسطول الصمود- المُتجه إلى غزة ب
...
-
الرئيس الإيراني: طهران لا تسعى إلى صنع قنبلة نووية
-
قتلى في قصف بطائرة مسيرة على سوق بدارفور في غرب السودان
-
ترامب - روسيا: تبدّل في النبرة لا في الاستراتيجية
-
حلف الناتو يندد بتصرفات روسيا ويطالبها بوقف انتهاك الأجواء ف
...
-
اتفاق أمني مرتقب بين سوريا وإسرائيل يلوح في الأفق.. هل من تف
...
-
شاهد.. هدف فينيسيوس السحري في الدوري الإسباني
-
عاجل| الرئيس الإيراني: شهدنا في العامين الماضيين إبادة بغزة
...
-
نواب يحتلون قاعة البرلمان الإيطالي رفضا للإبادة بغزة واستهدا
...
-
شاهد.. إسرائيل تحوّل -سنجل- لسجن وتفصل قرى الضفة عن بعضها
المزيد.....
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|