دينا الطائي
الحوار المتمدن-العدد: 8461 - 2025 / 9 / 10 - 02:33
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يبدو أننا على أعتاب غلق باب المفاوضات كلياً لوقف حرب الإبادة في غزة، بعد استهداف الوفد المفاوض في الدوحة، في رسالة صهيونية صريحة: لا سلام، لا حوار، لا دولة – فقط استسلام أو إبادة.
ومع مضيّ مشروع ترامب – نتنياهو وحكومتهم الفاشية نحو إحتلال غزة وقضم الضفة الغربية، وابتلاع القضية الفلسطينية، تتضح معالم "ريفييرا الشرق الأوسط" كخريطة استعمارية جديدة.
هذا ليس فقط إعلان نهاية "المسار السياسي"، بل دخول فعلي في مرحلة إعادة تشكيل المنطقة بالنار. ما نواجهه الآن ليس تصعيداً عابراً، بل تسونامي جيوسياسي لا تُجدي معه التهدئة، ولا يكفي فيه النقد المجرد. نحن أمام مشروع لا يطلب السلام، بل الإخضاع. ومن لا يُدرك هذه الحقيقة، سيفاجأ بأن الخراب لا يفرّق بين صديق أو خصم.
رغم أن غزة تمثل اليوم خط التماس الأكثر اشتعالاً، إلا أن القضية الفلسطينية لم تعد مجرد ساحة مقاومة، بل تحوّلت إلى مختبر للسياسات الإمبريالية: من تقنيات الابادة الجماعية، إلى تجريب أنماط السيطرة النفسية والاقتصادية على مجتمع محاصر. كل ما يُنفَّذ في فلسطين – يُعاد تصديره إلى بقية المنطقة لاحقاً، كأنها رأس المشروع ونموذج إخضاعه في آن. تجاهلها اليوم لا يعني فقط خيانة قضية، بل فشلاً في قراءة خريطة السيطرة الجارية علينا جميعاً.
المشروع الصهيوني-الأطلسي يتقدم بخطى ثابتة وسريعة جدا نحو إعادة تشكيل المنطقة، لم تعد إسرائيل مجرّد كيان توسعي في فلسطين، بل غدت رأس حربة منظومة دولية تتجاوز الحدود، تقصف وتقتل وتعيد رسم خرائط الردع والسيادة دون مساءلة أو رادع. إنها لم تعد تخضع للمعايير، بل تصيغها – تتصرف كمن يمنح الشرعية، لا من يحتاجها.
الهجوم الإسرائيلي على قطر (بموافقتها الضمنية)، الضربات المتكررة في لبنان، سوريا، اليمن، وإيران، واستهداف أسطول الصمود العالمي في موانئ تونس أمس، واستباحة الأجواء العراقية – كلّها ملامح واضحة لمرحلة جديدة دخلناها فعلاً، لا نستعدّ فقط لها، وهي لا تشبه أي طور سابق، فإسرائيل لم تعد تتصرف كدولة ضمن نظام دولي، بل كقوة فوق النظام، خارجه، تستخدم كل أدوات العنف المتاحة، بلا سقف قانوني أو أخلاقي. هذا ليس فقط انفلاتاً عسكرياً، بل انهيار شامل لمنظومة الردع، للقانون الدولي، ولما تبقى من تصور عن توازن القوى.
لم تعد هناك خطوط حمراء. ربما تُقصف الدول "الحليفة" قبل المعادية. والمنظومة الغربية - من واشنطن إلى لندن، ومن حكومات أوروبا اليمينية إلى الهند – لا تكتفي بالدعم، بل تُعيد تأهيل الخطاب الصهيوني ليُقدَّم كأداة تحرير، لا كأداة امبريالية.
هذه لحظة ذروة في المشروع الفاشي العالمي، حيث تختفي الفواصل بين الأمني، والدبلوماسي، والاقتصادي، والثقافي، ويُختزل كل شيء في منطق واحد: السيطرة الكاملة.
هذا التوسع الوحشي ليس طارئاً، بل جزء من هندسة استراتيجية جديدة تعيد ضبط الشرق الأوسط وفق شروط الهيمنة. بدأت من تفكيك البنى العسكرية التقليدية، وإنهاك المجتمعات، وشلّ الدولة، وإفراغ مفاهيم السيادة والتحرر الوطني من مضمونها، وتحويل مفاهيم المقاومة إلى شبح قابل للتوظيف أو التصفية.
فالضربات الأخيرة لا تمثّل "رسائل أمنية"، بل حلقات مدروسة من خطة إعادة التموضع التي تفرضها المؤسسة العسكرية الصهيونية بالتوازي مع الأزمة الأميركية الأوروبية.
ما نشهده حتى الساعة ليس معارك معزولة، بل طوراً متقدما من تهيئة منهجية لبنية مادية لحرب شاملة، ومستمرة ومؤسسة لنزع مخالب المقاومة الوطنية والشعبية وشل قدرتها قبل أن تشتبك.
وسط هذا الانفلات، يتقاطع هذا التصعيد مع حالة شلل شامل للأنظمة في الشرق الاوسط، التي لم تُجهّز لا جيوشاً، ولا شعوباً، ولا خطاباً للرد.
ففي العراق، جرى تفكيك المشروع التحرري بعد انتفاضة تشرين، وتحولت سلطة المحاصصة إلى أداة كبح، تقمع تارةً وتارةً تمتص الغضب الشعبي بشعارات زائفة، بينما تُدار الدولة كوحدة خدمات وظيفية تخدم مصالح أميركية وخليجية وإيرانية وتركية مجتمعة. وفي لبنان، يُترك الجيش بلا تسليح، وتُحاصر المقاومة الوطنية وبيئتها الشعبية اقتصادياً وسياسياً، في ظل حصار مالي مبرمج، أما سوريا، فقد تحوّلت إلى مسرح كانتونات أمنية متناحرة، تُدار بصراعات بالوكالة، ويتقاطع فيها الإرهاب مع مخططات التقسيم، في بلد كان لعقود عُقدة التوازن الإقليمي. أما اليمن، فبُتر من الجغرافيا العربية، وأُنهك في حرب استنزاف طويلة يعيد إنتاج الهيمنة. وفي السودان، أُجهضت الثورة الشعبية تحت ثقل العسكرة والتدخلات الخارجية، وتحول البلد إلى جغرافيا مفتوحة لحروب النيابة وتفتيت الدولة وحصار المدن.
الرد العربي حتى الآن؟ صمت رسمي، وإنكار نخبوي، وتخدير جماهيري. ومعظم ردود الفعل إما تقنية، أو بروتوكولية، أو إعلامية، بينما تنهار قواعد اللعبة ذاتها. لا مشروع سياسي بديل، لا خطاب تعبوي صلب، لا تحالفات نضالية اقليمية قادرة على التنسيق أو حتى الرؤية. هذا الفراغ الاستراتيجي صار بنية دائمة. أما اليسار، في معظمه، إما مأزوم داخلياً، أو مهمّش، أو متموضع داخل سرديات لم تعد قادرة على مواكبة شراسة اللحظة.
القوى الجماهيرية في المنطقة، من الرباط إلى بغداد، تم تفكيكها بشكل ممنهج خلال العقدين الأخيرين: عبر سياسات التجويع، والنيوليبرالية، والقومية والاثنية والطائفية، والعسكرة. وما تبقى من حركة شعبية، يُعاد تدويره ضمن مشاريع إصلاحية محدودة الأفق أو مقموعة بالكامل. اللحظة ليست فقط لحظة خطر، بل لحظة غياب كامل للأفق.
في الغرب، لا يبدو الوضع أفضل، من تصعيد القمع ضد الناشطين والمعارضين لحرب الابادة وسياسات حكوماتهم، إلى دعم الفاشيين الجدد، وتحويل إسرائيل إلى "نموذج" أمني عالمي – يُعيد إنتاج منطق فوكوي بامتياز: منطق الدولة الأمنية الحديثة – حيث لا تحكم الشعوب، بل تُراقب وتُعاقب.. منظومة لا تحتاج إلى شرعية مجتمعية لأنها تُدار بمنطق الانضباط والرقابة لا بمنطق العقد الاجتماعي.
نحن في لحظة فاشية عُليا، تمارسها الإمبريالية باسم الأمن العالمي، وتُبررها عبر إعلام معولم، يُخدر الشعوب باسم "التوازن" و "الحياد" و"الردع".
لقد أصبحت إسرائيل قوة فوق القانون، فوق الرد، فوق التصنيف. فمن غزة إلى الدوحة، ومن بغداد إلى بيروت ودمشق، تتوالى الحلقات في مشهد واحد: انهيار الردع، تصفية الوساطة، واستهداف كل من يحاول بناء تسوية أو مقاومة. لم يعد هناك وسط ممكن، بل استقطاب شامل لا يرحم. تمددت بنيران طائراتها وصواريخها إلى العمق وبلا خوف من تبعات ولا توقع لرد. تتحرك بمنطق من يحكم لا من يُساءل، كأنها رأس منظمة فوق دولية تُملي وتنفذ، وتتجاوز حتى حلفاءها. هذا لم يعد "صراعاً"، بل تجسيداً لمرحلة الهيمنة الشاملة.
لكن رغم السواد في طرحي، يبقى السؤال مفتوحاً:
ماذا نفعل؟ وما الذي لا يمكن التنازل عنه؟ ..
لا يمكن استنساخ شعارات التحرر القديمة، ما نحتاجه هو جبهة جديدة، تفكر وتفكك وتبني: تحالفات تمتد خارج الأطر التقليدية، رؤى تعيد تعريف "الأمن" و "الردع الشعبي" و "التحرر الوطني" و "السيادة" و "المقاومة" و "النضال المشترك" و "التضامن الأممي" من موقع الشعوب المقهورة. المطلوب هو تفكير وفعل استباقي وسريع.
لا أحد يدعو لزجّ العراق، أو سوريا، أو لبنان، وبقية دول الاقليم، في صراع عسكري مباشر، بل المطلوب العكس: تحصين الداخل من الانهيار، بناء عقيدة دفاعية وطنية، حماية ما تبقى من السيادة لا الأنظمة، وبناء رواية مضادة لهذا الانهيار الشامل.
المستقبل ليس مجهولاً: إما نعيد بناء أدواتنا الفكرية والتنظيمية، خارج منطق الدولة الطُعم، وخارج نماذج المقاومة التي تتخذ من الهوية الاثنية والطائفية ستاراً لإقصاء بقية حركات التحرر الوطنية، أو سنُدفن تحت أنقاض مشاريع لم نملكها أصلاً.
وما أقصده بالدولة الطُعم، هو ذاك الكيان الهش، الذي يُترك عمداً دون حماية، دون عقيدة دفاعية، حتى يُستَخدم كذريعة لاحقة لضرب كل ما يحيط به. تُهيأ حدودُه لتُخترق، وتُترك ثرواته لتُنهب، ويُعاد إنتاجه بعد كل حرب ليبقى مفخخاً بانتظار انفجار جديد. في هذا المنطق، لا تُحمى الدول والشعوب، بل تُهيأ لتُستَهدف - ويُعاد تدوير هذا الإخضاع كضرورة جيوسياسية.
نحن لا نعيش "أزمة"، بل تحوّلاً تاريخياً حياً أمام أعيننا، والوقت لا ينفذ فقط، بل تمّت سرقته. إما أن نكون في صف إعادة إنتاج شعوبنا كقوى فعل مقاومة ، أو نُترك للمحرقة القريبة.
- ليس لدينا "ترف الزمن"
- ليس لدينا "ترف الحياد"
كل جبهة صامتة اليوم، ستكون ميداناً مفتوحاً
للإجتياح غداً... سياسياً، وإقتصادياً، وعسكرياً.
9/9/2025
#دينا_الطائي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟