جاسم نعمة مصاول
(Jassim Msawil)
الحوار المتمدن-العدد: 8529 - 2025 / 11 / 17 - 09:41
المحور:
الادب والفن
أطلقت الكاتبة السورية بدور عبد الباقي العطار باكورة أعمالها الأدبية في مونتريال الكندية خلال الايام القليلة الماضية مؤلفَها " ظِلُّ وَطَنْ " وهو سيرة ذاتية مُفعمة بالمشاعر الانسانية والتحديات التي واجهتها سواء في الوطن ــــ الولادة الذي يسكن في الذاكرة او الوطن ــــ الاقامة.
ليس من السهل أن نكتب او ندون ملاحظات عن كتابٍ يتضمنُ سيرةً ذاتيةً، لأنه من الصعوبة بمكان أن تغوص في الروح الانسانية لتكتب عنها، الا إنني في هذه المرة عندما شرعت بقراءة مسودة كتاب: ظِلُّ وَطَنْ لمؤلفتهِ الكاتبة السورية بدور عبد الباقي العطار، وجدت نفسي أمام كاتبة تعرف جيدًا كيف تصوغ كلماتها بلغة عربية راقية وبناء الاحداث الدرامية في هذه السيرة التي أثارت فيَّ العزم على مواصلة القراءة وكتابة هذه المقالة خلال فترة زمنية قياسية لكتاب تجاوزت صفحاته الـــــــ 300.
هو سيرة ذاتية وجدانية ركزت بشكل أساسي على مشاعر، وأحاسيس، وعواطف المؤلف، معززة بالخبرات الداخلية له، بدلاً من سرد الأحداث المادية فقط ، تتداخل هذه السيرة مع مفهوم الذات الإدراكية والعاطفية، وتهدف إلى تقديم صورة صادقة عن عالم الذات الداخلي وتعقيداتها، وإن كان ذلك يمر بعملية سردية تخضع للانتقائية والتخييل .
لم تكن هذه السيرة مجرد سردٍ للأحداث والوقائع، بل اهتمت بالغوص في عالم المشاعر والأحاسيس التي صاحبت تلك الأحداث.
وقد تناولت السيرة الذاتية الوجدانية الانفعالات النفسية والعواطف الحسية التي مرت بها الكاتبة.
كما اعتمدت على الوعي الحاضر لاسترجاع الماضي وتفسيره، مما خلق توتراً بين ما حدث وما يُدرك في الحاضر لاستقراء المستقبل بمنظور فيه قلق بعض الشيء خوفًا من فقد العلاقة مع الوطن الذي يسكن في اعماق الروح والاب الذي بقي هناك بجسده لكنه حاضر في روحها، هي لا تريد ان تنقطع عن الماضي الذي هو الولادة في الوطن الذي فقدت فيه الامان والوطن البديل الذي وفرَّ لها كل مايجعلها انسانة تشعر بالامان والمتطلبات الحياتية الاخرى، رغم إنها لايمكن ان تعوض الوطن - الولادة.
أوحت لي هذه السيرة أن الكاتبة تمزج السيرة الذاتية بين الواقعية والحقيقة باعتبارها شخصًا حقيقيًا عاشت الأحداث وبين التخيل، إذ حاولت إعادة تشكيل الماضي وقامت بالانتقاء من الأحداث لتقديم رؤية معينة ليطلع القارىء على المعاناة التي عاشتها الكاتبة في ظل ظروف في غاية الصعوبة سواء النفسية منها او الوقائع المادية.
لاشك أن الكاتبة كانت تسعى إلى تقديم أصالة نابعة من ارتعاش الروح وليست بالضرورة دقة الحقائق او الوقائع المادية، وذلك لمحاولة فهم مغزى التجارب الماضية في ضوء الخبرات الحالية التي توفرت لها من الصعوبات التي واجهتها والانتقال الى الوطن البديل.
سيرة ذاتية هي نقطة ضوء في ظلام الانحطاط العربي، كما انها تؤرخ لوجع أمة تعيش انكسارات مأساوية متتالية. هي صرخة في المنفى عن وطن يتمزق وحسرة عليه حين يحترق تاريخه. انها مرآة حقيقية عكست لنا الوطن الذي يسكن في داخلنا.
الوطن الموجوع طيف يلاحقنا في كل وقت، هو الرداء الذي ترتديه أرواحنا في كل مكان وزمان. الوطن أجبرها على كتابة ذاكرته ولوعاته، وأحزانها كانت حاضرة بين السطور. كان شعارها "أنا أكتب إذن أنا موجودة". وأصبحت اللغة – الكتابة هي ملاذها الآمن الذي تتنفس فيه بحرية وبنقاء.
أشعرُ بها أنها تقول: أيتها الذاكرة لا تخوني كلماتي – لغتي بل حتى روحي التي مزقها الحزن. أدركتْ في سيرتها أن مقاومةَ النسيان هي أفضل طريقة لأن تحافظ على الحنين لذكرياتها عن بلد بدأ يفقد صورته وحكاياته، بل مذبوحًا بالدجل والنفاق والتطرف والتعصب الذي يولَّد الرماد.
ماتتميز به السيرة الذاتية هو العودة الى الماضي في كل مراحل السيرة، هذا يؤكد للقارىء أن الكاتبة متعلقة جدًا بالوطن- الولادة، الا انه ليس تعلقًا أجوفًا، بل انطلاقًا من فهمٍ كبيرٍ وعشقٍ طاغٍ له، رغم كل الظروف الصعبة التي مرت عليها، هو ليس بمعنى الحنين، بل اعادة تشكيل الماضي والنظر اليه برؤية مختلفة بعد مرحلة النضوج العقلي والحياتي.
في لحظة ما من السيرة توقف الزمن لدى الكاتبة، بل غادر وأصبح اللازمن هو سيد الموقف.
المنفى أو الغربة كان هاجسًا كبيرًا لدى كاتبة السيرة، لأنهما يمثلان فقدان الانتماء وفقدان الهوية وربما الشعور بالضياع، مما أدى الى استكشاف عميق لذاتها، فضلاً عن انشطار الذاكرة، إذ تتصارع الذكريات مع الواقع الجديد.
في السيرة، كان للأم حيزًا او أهتمامًا كبيرًا، الام هي الوطن، هي الأمان... مفهوم الوطن موجود داخل قلب الأم، ففي قلبها الواسع تتجلى كل معاني الحب والعطاء، هي بذلك تشكل وطنًا صغيرًا لكنه شاملًا، فضلًا عن إنها تغرس قيم المواطنة وحب الوطن في قلب الانسان.
كما في السيرة الذاتية لاحظتُ أن المرأة في سياق الكفاح والتضحية هي قوة دافعة ومحورية، تساهم في تشكيل المجتمع وحماية الهوية الوطنية، وتُسّطر قصص نضالها تضحيات عظيمة عبر فترات زمنية حددتها الكاتبة في ميادين متعددة، إذ ساهمت المرأة ومازالت في تعزيز القيم الاجتماعية والحفاظ على التراث من خلال دورها كأم ومربية وعاملة كي تعيش وعائلتها، فضلًا عن أنها تلعبُ دوراً كبيرًا في مواجهة التحديات الحديثة وتساهم بشكل فعّال في صناعة التاريخ وحفظ أمجاد الشعب، من خلال إصرارها وعزيمتها في مواجهة التحديات والدفاع عن العدالة والانصاف والقيم الاخلاقية التي على الجميع الالتزام بها كونها الطريق الوحيد لبناء الدولة العصرية المدنية التي يتساوى الناس فيها بالحقوق والواجبات.
لاتنسى الكاتبة ان تطل علينا من خلال الموسيقى والغناء في إحدى إطلالاتها الرائعة، مما لاشك فيه أن الفن الموسيقي يساعد بشكل كبير في إعادة بناء المجتمع من خلال تعزيز الهوية والانتماء، وحشد الدعم للقضايا الاجتماعية، والحفاظ على التراث الثقافي، وتحفيز الإبداع، وتجاوز الحواجز اللغوية والثقافية، وقوة موحدة تحطم الحواجز الثقافية وتعزز التماسك الاجتماعي والمساهمة في بناء عالم أكثر ترابطًا وفهمًا بعد الحروب، هي عنصر مهم في إعادة بناء السلام. وكلنا يعلم إن أغاني الاحتجاج والموسيقى المناهضة للحروب لعبت دورًا حاسمًا في تشكيل الرأي العام وحشد النشطاء والمساهمة في نشر الوعي بقضايا مهمة مثل العنصرية والفقر وعدم المساواة ونبذ الحروب، ويساهم الفنانون في تعزيز الابتكار الإبداعي داخل المجتمع وإلهام طرق جديدة للتفكير وتحدي الوضع الراهن.
أعلى صرخة للكاتبة هي صرخة ضد الحرب والعنف ... صرخة ضد الوحشية ونزيف الدم، إذ تصير المدن انقاضًا ورمادًا وأطلالًا تصيحُ فيها روح القسوة... مَنْ صنعً هذا التوحش في النفس الانسانية؟ كيف بإمكان الانسان أن يقتل إنسانًا آخر؟ مَنْ أعطاه الولاية القضائية للقتل والتدمير وافراغ المدن من ساكنيها؟ هذا الخراب الكبير والبؤس والتشرد والضياع دليل على مرور الشيطان... انها ذكريات أليمة... هذه الصراعات والحروب الاهلية هي أبشع جريمة في حياة الناس، لأن من ارتكبها يعتبرها شرعية ومبررة لفرض عقيدته.
ان ما يأتي بعد الحرب، هو أصعب كثيرًا من أي وقت مضى، لأن الحياة تصبح مشلولة وموت في اماكن عديدة، والسلام أكيد سيكون هشًا وهناك دائمًا رغبة للانتقام، لذلك فأن الكاتبة تصرخ أن يسود الحب والاخاء والرحمة والفضيلة والتسامح والعدالة التي هي أساس كل شيء ليسود السلام بين الجميع.
الامر الأقسى الي تألمت له الكاتبة هو الخيانة إذ تقول:(الخيانة التي كسرتني لم تكن خيانة السلاح فقط، بل خيانة الذاكرة) وتواصل(الخيانة الأصعب هي أن ترى حلمك يتحوّل وحشًا، أن تراه ينهش أبناءه، أن تعجز عن إنقاذه، ثم تضطر لتدفنه بيديك)، يا له من ألم عميق في الروح بل انكسار وتشظي للذاكرة والروح.
بالتأكيد جرى ممارسة اغتصاب لعقل الشعب واستخدام الخوف كأداة شاملة من أجل ممارسة السلطة والسيطرة على الناس دون مقاومة سواء النظام السابق او اللاحق لأن تهمة الخيانة والولاء كانت حاضرة دومًا. فالجميع كان متخوفًا من قول الحقيقة، او الافصاح عمّا يدور في ذاكرته، الجميع كان متهمًا حتى لو اثبت براءته.
تتساءل الكاتبة في سيرتها كيف نعيد الحياة الى جذورها بعد هذا الخراب والانكسارات.
العودة إلى الجذور في إعادة بناء الأوطان بعد الخراب تتطلب تحديد واستعادة الهوية والقيم الثقافية والتاريخية المشتركة والمبادىء التي تشكل الهوية الوطنية وتعزيز الشعور بالانتماء للوطن، وفهم التاريخ لفهم الحاضر، وإعادة إحياء التقاليد الايجابية التي تعزز التماسك الاجتماعي. كما تشمل هذه العودة الاستفادة من المعرفة الشعبية للتقاليد الاصيلة، وتعزيز الروابط الأسرية والمجتمعية كأحد أركان المجتمع القوية وبما يقلل من هشاشته. دراسة التاريخ وفهم الدروس المستفادة من الماضي هي خطوة أساسية لفهم الأسباب التي أدت إلى الخراب ووضع أسس متينة لإعادة البناء ولابد للنور ان ينطلق لأنه هو الاساس.
ظِل وطنْ ... سيرة ذاتية مفعمة بالاحزان والالم وحتى الامل، هي حكاية عربية من وطن جريح ربما جرحه عميق، لايشعر به الا من كان جزءًا من هذا الجرح، وربما هي حكاية كل مدينة عربية في وطننا الكبير، الانسان فيه مُحطّم منكسر مهزوم محكوم من انظمة فاسدة قمعية تسلطية تمارس أقسى أنواع الظلم والاضطهاد ليس لديها قيم او مبادىء انسانية. هذه السيرة هي صرخة عالية ضد الانحطاط الذي وصلنا اليه.
لقد باحت الكاتبة لنا من خلال سيرتها الذاتية بما هو في مخزون ذاكرتها التي أثارت الاشجان في ارواحنا وتشكو الينا كل هذه الالآم النفسية التي مرت بها علّها تتنفسُ النورَ والاملَ الذي أشعلتهُ في أجزاءٍ من سيرتها... أبدعت الكاتبة في أسلوبها الوصفي الراقي والرائع في كل مراحل السيرة، وقلمّا نقرأ وصفًا لأحاسيس الانسان إزاء أحداث كبيرة مصيرية لوطن يتمزق في أيامنا هذه.
وختامًا أذكرُ ما قاله الاديب العبقري ابو عثمان الجاحظ: " وإعلم أنك لاتزال في وحشةٍ، وفي غُربةٍ الى غربةٍ، حتى تَجِدَ مَنْ تشكو اليه بثَك، وتُفضي إليه بذاتِ نفسك".
#جاسم_نعمة_مصاول (هاشتاغ)
Jassim_Msawil#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟