حنان محمد السعيد
كاتبة ومترجمة وأخصائية مختبرات وراثية
(Hanan Hikal)
الحوار المتمدن-العدد: 8526 - 2025 / 11 / 14 - 14:39
المحور:
الصحة والسلامة الجسدية والنفسية
هل حدث معك أن فكرت في شراء منتج معين، أو خططت لرحلة إلى مكان ما، دون أن تبحث عنه فعليًا، ثم ظهر لك إعلانه المتخصص فورًا على هاتفك؟
إنها ظاهرة "الإعلانات الموجهة" التي تتجاوز في دقتها حدود المصادفة، لتثير قلقاً واسعاً بشأن مدى تغلغل التكنولوجيا في حياتنا الخاصة. كثيرون يصفون هذه التجربة بأنها أقرب إلى "قراءة الأفكار" أو "التنصت الصوتي الخفي". وبينما تفسر شركات التكنولوجيا ذلك بـ"التحليل التنبؤي" و"تتبع البيانات"، تبرز وثيقة تاريخية غريبة تفتح الباب أمام طرح سؤال وجودي: هل يمكن أن يكون هناك أساس تقني قديم يغذي هذه التكهنات؟
نستعرض في هذا المقال براءة اختراع أمريكية صادرة عام 1976، والتي وإن كانت لا تمثل دليلاً على ممارسات الشركات الحديثة، إلا أنها تكشف عن طموح بشري مبكر في اختراق حدود العقل البشري عن بُعد.
براءة الاختراع المنسية: المراقبة والتغيير عن بُعد
في عام 1976، أصدر مكتب براءات الاختراع الأمريكي وثيقة تحمل الرقم US 3,951,134 A، تحت عنوان لافت للنظر: "جهاز وطريقة للمراقبة عن بعد وتغيير موجات الدماغ".
لم يكن هذا الاختراع وليد الثورة الرقمية، بل يعود إلى منتصف السبعينيات، وُصِفَت فيه تقنية للمخترع روبرت جي. مالك، تقوم على مبدأ فيزيائي لافت:
المراقبة عن بُعد: يتم إرسال حزمتين من الإشارات الكهرومغناطيسية بترددات مختلفة إلى دماغ الشخص.
التفاعل والتعديل: تتداخل هاتان الإشارتان داخل الدماغ لإنتاج شكل موجي جديد يتم تعديله بواسطة النشاط الكهربائي الطبيعي للدماغ (موجات EEG).
القراءة: يعيد الدماغ بث هذا الشكل الموجي المُعدَّل، ليتم التقاطه بواسطة جهاز استقبال بعيد وفك تعديله، مما يكشف عن تفاصيل النشاط الكهربائي للدماغ.
لكن الجزء الأكثر إثارة للقلق في البراءة هو الإشارة إلى إمكانية استخدام بيانات الدماغ المكتشفة لإنشاء "إشارة تعويض" يتم إرسالها مرة أخرى إلى الدماغ "لإحداث تغيير مرغوب فيه في النشاط الكهربائي بداخله". بعبارة أخرى، كان الطموح هو رصد موجات الدماغ والتأثير عليها، دون الحاجة لأي اتصال جسدي.
قراءة الأفكار أم قراءة البيانات؟
إن الربط المباشر بين هذه البراءة القديمة وبين الإعلانات التي تظهر لك فوراً بعد التفكير في موضوع ما هو تحليل افتراضي وتكهني، لكنه يثير التساؤل حول مدى تطور هذه التكنولوجيا في السر.
في الواقع العملي، تستند الإعلانات المستهدفة على تفسيرات أكثر بساطة وربحية، وهي:
التحليل التنبؤي والخوارزمي: أنت لست فريدًا كما تظن! تعتمد الخوارزميات على تجميع بيانات ملايين المستخدمين المتشابهين في السلوك. قد تكون قد زرت موقعاً يتحدث عن السفر قبل أسبوع، أو تفاعلت مع منشور لصديق يخص موضوع ما. الخوارزمية هنا تتوقع حاجتك وتستبق تفكيرك، لا أنها تقرأه.
التتبع الشامل (Data Mining): يتم دمج جميع مصادر بياناتك الرقمية: البحث، الموقع الجغرافي، التطبيقات النشطة، التفاعلات الاجتماعية، وحتى سرعة التمرير على الشاشة. كل هذا يُستخدم لبناء ملف شخصي دقيق للغاية حول "نيتك الشرائية".
التحيز التأكيدي: العقل البشري يميل لتذكر المصادفات التي تؤكد مخاوفه. نحن نتذكر الإعلان المطابق لفكرتنا، ونتجاهل آلاف الإعلانات الأخرى غير ذات الصلة التي ظهرت في نفس اليوم.
ومع ذلك، تبقى براءة اختراع 1976 تمثل دليلاً على أن مفهوم "التنصت على الدماغ عن بُعد" كان موجوداً على الطاولة البحثية منذ عقود طويلة.
الخصوصية العصبية: صراع المستقبل
في ظل التقدم الهائل في واجهات الدماغ والحاسوب (BCIs)، ومع سعي شركات كبرى لتطوير أجهزة قادرة على قراءة الإشارات العصبية، فإن براءة اختراع "المراقبة عن بعد" تكتسب أهمية جديدة بوصفها "جرس إنذار".
سواء كانت الشركات تستخدم تقنية مماثلة للإعلان أم لا، فإن التحدي الأخلاقي والتشريعي الحقيقي يكمن في المستقبل القريب:
عندما تصبح قراءة موجات الدماغ تقنية تجارية متاحة، من سيمتلك "بيانات أفكارنا"؟
كيف سيتم تنظيم إمكانية التأثير على النشاط العصبي أو تعديله لأغراض تجارية أو غيرها؟
براءة الاختراع 3,951,134، بتاريخها القديم ومحتواها الثوري، تدعونا إلى إعادة تقييم شاملة لمعنى الخصوصية في العصر الرقمي. إنها ليست مجرد وثيقة تقنية، بل هي تذكير بأن حماية ما يدور في أذهاننا يجب أن تكون الأولوية القصوى قبل أن يتحول الافتراض المثير للجدل إلى واقع لا مفر منه.
🔬 براءات الاختراع والتطورات الحديثة في واجهة الدماغ والحاسوب عن بُعد
على الرغم من أن معظم الأبحاث المنشورة علناً في مجال واجهات الدماغ والحاسوب (BCI) تركز على الأجهزة المزروعة (مثل نيورالينك - Neuralink) أو الأجهزة التي تُلبس على الرأس، إلا أن هناك تقنيات وبراءات اختراع حديثة تواصل استكشاف إمكانيات التأثير أو المراقبة عن بعد أو تعمل على تطوير أنظمة مغلقة ثنائية الاتجاه (قراءة وكتابة للإشارات العصبية).
تقنيات التحفيز والمراقبة المغناطيسية النانوية (Nano-MIND)
أحد أهم التطورات الحديثة يأتي من أبحاث غير جراحية تسعى للتحكم في مناطق محددة من الدماغ عن بُعد:
المصدر: باحثون من معهد كوريا للعلوم الأساسية (IBS).
التقنية: قام الباحثون بتطوير نظام أطلقوا عليه اسم Nano-MIND (واجهة نانوية مغناطيسية وراثية لديناميكيات الأعصاب).
المبدأ: يستخدم هذا النظام مجالات مغناطيسية بمساعدة جسيمات نانوية (على الفئران) للتحكم في مناطق دماغية محددة. وقد تم اختبار هذه التقنية لتحفيز غرائز الأمومة أو تقليل الشهية (فقدان الوزن).
الأهمية: يعتبر هذا تطويراً لتقنية "الوراثة المغناطيسية الميكانيكية" (MMG) ، التي تستخدم المجالات المغناطيسية للتلاعب بالأنظمة البيولوجية، ما يؤكد أن مفهوم "التلاعب عن بعد" قد أصبح راسخاً في المجال الطبي والعصبي.
واجهات الدماغ والحاسوب الثنائية الاتجاه (Two-Way BCIs)
الهدف هو بناء قنوات اتصال "عالية السرعة" تسمح ليس فقط بقراءة الإشارات، بل وأيضاً بإرسال أوامر أو تعديلات مرة أخرى إلى الدماغ، وهو ما يعكس الطموح الوارد في براءة الاختراع القديمة (US 3,951,134 A) الذي تحدث عن "إشارة تعويض" (Compensating Signal):
النموذج الصيني: أعلن باحثون صينيون مؤخراً عن تطوير أول واجهة دماغ حاسوبية ثنائية الاتجاه في العالم، تزعم تعزيز الكفاءة بمقدار 100 ضعف. هذا التطور يهدف إلى دفع التكنولوجيا نحو الاستخدام اليومي العملي والاندماج بين الذكاء البيولوجي والآلي.
التطبيق: هذه التقنيات ضرورية لتحسين الأجهزة المساعدة (مثل الأطراف الاصطناعية أو القفازات الآلية) عن طريق التكيف المتبادل بين الدماغ والجهاز الخارجي.
براءات اختراع تركز على المراقبة والتحليل عن بعد (Post-2000)
بالإضافة إلى براءة الاختراع التي تم تحليلها (1976)، توجد براءات اختراع أخرى تصف آليات مماثلة للمراقبة والتحليل عن بعد، وإن كان معظمها يركز على التطبيقات التشخيصية:
US Patent 6,011,991 A (عام 2000): بعنوان "نظام وطريقة اتصال يتضمن تحليل موجات الدماغ و/أو استخدام النشاط الدماغي". تصف هذه البراءة نظاماً لمراقبة النشاط الدماغي للفرد ونقله لاسلكياً (مثل عبر الأقمار الصناعية) إلى موقع بعيد لتحليل حاسوبي لتحديد ما كان الشخص يفكر فيه أو ينوي توصيله.
US Patent 11,141,585 B2 (عام 2021 تقريباً): بعنوان "واجهة عصبية غير جراحية" (Non-invasive Neural Interface) التي تشير إلى استكشاف تقنيات قراءة الإشارات العصبية دون الحاجة لزرع أقطاب كهربائية.
دمج الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي
أحدث التطورات لا تتعلق فقط بالجهاز نفسه، بل بقدرته على التعلم والتكيف في الوقت الحقيقي:
INBRAIN و Microsoft: دخلت شركة "INBRAIN Neuroelectronics" المتخصصة في واجهات الدماغ القائمة على الجرافين في تعاون استراتيجي مع مايكروسوفت
. الهدف هو استخدام بنية Azure AI ونماذج اللغة الكبيرة (LLMs) لتحليل بيانات الإشارات العصبية في الوقت الفعلي.
الأهمية:
هذا يتيح بناء علاجات دقيقة ذات "حلقة مغلقة" (Closed-Loop Precision Interventions)، حيث يتم قراءة النشاط العصبي، ومعالجته بواسطة الذكاء الاصطناعي، ثم إرسال إشارة تعديل أو تحفيز شخصية وفورية مرة أخرى إلى الدماغ لعلاج اضطرابات مثل مرض باركنسون أو الصرع.
الخلاصة
بينما كانت براءة اختراع عام 1976 تتحدث عن المراقبة والتغيير عن بعد باستخدام الإشارات الكهرومغناطيسية المتداخلة، فإن الأبحاث الحديثة تتجه نحو:
الأنظمة اللاسلكية:
التخلص من الأسلاك بشكل كامل (مثل BrainGate و Neuralink).
التقنيات النانوية والمغناطيسية:
استخدام الجسيمات النانوية والمجالات المغناطيسية لتوجيه التحفيز عن بعد وبدقة أكبر.
الذكاء الاصطناعي الثنائي الاتجاه:
استخدام الذكاء الاصطناعي لقراءة البيانات، وتحليلها، ثم إرسال الأوامر والتعديلات مرة أخرى إلى الجهاز العصبي.
هذه التطورات كلها تزيد من المخاوف الأخلاقية حول "الخصوصية العصبية"، وتجعل الحديث عن التحكم في العقل عن بعد، سواء كان لأغراض طبية أو لأغراض أخرى، أمراً لم يعد يقتصر على الخيال العلمي.
#حنان_محمد_السعيد (هاشتاغ)
Hanan_Hikal#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟