أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حنان محمد السعيد - حكاية ليلى















المزيد.....


حكاية ليلى


حنان محمد السعيد
كاتبة ومترجمة وأخصائية مختبرات وراثية

(Hanan Hikal)


الحوار المتمدن-العدد: 8389 - 2025 / 6 / 30 - 12:34
المحور: الادب والفن
    


في إحدى المدن العربية، وُلدت ليلى في ليلة ربيعية من شهر مارس، على وقع زغاريد خافتة وهمسات لم تستطع فهمها. لم تدرك ليلى حينها أن جنسها سيحدد مسار حياتها قبل أن تخطو خطوتها الأولى. ففي منزلها، كانت والدتها تردد دائمًا مقولة "البنت ليست كالولد"، والتي لم تكن مجرد نصيحة عابرة، بل كانت قانونًا غير مكتوب يحكم كل تصرف وقرار يخصها.
التمرد الصامت وملاذ المعرفة
كبرت ليلى، وكبر معها الإحساس بالتناقض. كان أخواها يتمتعان بحرية كاملة، يسافران مع أصدقائهما، يمارسان الرياضة في النادي، ويمضيان وقتهما في المرح دون قيود. بينما كانت هي أسيرة جدران المنزل، تدير شؤونه وتعتني بالجميع، وحتى سخافات أخويها كان عليها أن تتحملها بصمت "لأنها فتاة".
لكن ليلى لم تكن من النوع الذي يستسلم بسهولة. لم تتمرد بصوت عالٍ، بل كان تمردها صامتًا لكنه يحمل كل معاني القوة.
لقد تعلمت مع الوقت كيف تقيم الحواجز وكيف تحمي نفسها ومتى تظهر قوتها لمن يحاول التقليل من شأنها. كان سلاحها الأول هو الدراسة والقراءة. انغمست في كتبها، متفوقة على أقرانها، مدعومة بوالدها الذي كان معلمًا ويمتلك مكتبة ضخمة تضم عشرات الآلاف من الكتب.
كانت هذه المكتبة ملاذ ليلى، عالمها الخاص الذي تسافر فيه عبر الكلمات، تتعلم وتستكشف، وتعيش خيالًا أروع من واقعها المحدود. لم تكتفِ ليلى بالدراسة والقراءة، بل وجدت متنفسًا آخر في الفن. مارست الرسم، وفيه أخرجت كل ما يعتمل بداخلها من غضب ومشاعر مكبوتة، معبرة عن ذاتها بألوان وخطوط. كما تعلمت العزف على الكمان، فكانت ألحانها تعكس صوت روحها. ولم تهمل جسدها، فمارست الرياضة في المنزل، مدركة أن قوتها تبدأ من الداخل.
أدركت ليلى بقناعة تامة أنها وحدها القادرة على فرض وجودها، وعلى علاج نفسها من آثار تلك التوقعات المجتمعية الظالمة، وعلى إيقاف كل من يحاول التقليل من شأنها عند الحد الذي ترسمه له. كانت تبني عالمها الخاص، وتصنع قوتها بذاتها.
التحدي الخفي وصراع إثبات الذات
لم يكن ضغط الأم على ليلى مجرد كلمات صريحة تُقال، بل كان أسلوبًا أكثر خبثًا وإرهاقًا. فبدلاً من توجيه النقد المباشر أو المطالبة الصريحة بعدم التفوق، كانت الأم تختلق المشكلات وتُكلف ليلى بمهام إضافية مرهقة بشكل متعمد، خاصة في هذه الفترة الحساسة من الثانوية العامة. كانت كل مهمة جديدة، وكل مشكلة مفتعلة، رسالة غير مباشرة: "أريني قوتك المزعومة يا ليلى، هل تستطيعين النجاح في دراستك بينما تتحملين كل هذه الأعباء التي أضعها عليكِ؟"
كانت هذه التحديات الخفية تزيد العبء على ليلى، فهي لم تكن تواجه فقط صعوبة المناهج الدراسية وتوقعات النجاح، بل كانت تخوض صراعًا داخليًا وخارجيًا مع والدتها التي كانت تختبر صبرها وقدرتها على التحمل. أصبحت كل لحظة في المنزل فرصة جديدة للضغط، وكل طلب غير منطقي هو دعوة لإثبات الذات.
وسط هذا المناخ المشحون، لم تكن ليلى قادرة على الاستسلام. بل على العكس، كانت هذه التحديات بمثابة وقود إضافي لإصرارها. كانت كل محاولة من والدتها لعرقلتها، تدفعها نحو مزيد من التركيز والانضباط. أدركت ليلى أن طريقها للنجاح لن يكون سهلاً، وأن عليها أن تثبت جدارتها ليس فقط للمجتمع، بل لأقرب الناس إليها أيضًا، وأن إثبات ذاتها أصبح التحدي الأكبر والأكثر إلحاحًا.
ظلام الإنجازات والضغط الهائل
كان الضغط الزائد من كل اتجاه، من توقعات الدراسة، ومن مهام المنزل المضافة، ومن حرب والدتها النفسية غير المعلنة، قد ألقى بظلاله الثقيلة على ليلى. وجدت نفسها غارقة في حالة من الاكتئاب والإرهاق الشديد. كانت تتساءل بيأس: لماذا؟ ما الذي فعلته لتستحق كل هذا؟ وهي التي لم تدخر جهدًا في مساعدة الكبير والصغير، والغريب والقريب. لم تقصر يومًا في واجباتها، ومع ذلك، كانت تواجه هذا الجحود غير المفهوم، هذا العبء الذي لا تجد له تفسيرًا.
على الرغم من كل الصعاب، وبإصرار لا يلين، تفّوقت ليلى على أخيها وعلى كل أبناء الجيران والعائلة في ذلك العام المصيري. كانت درجاتها أعلى، وأدائها أفضل بكثير مما توقعه الكثيرون. لكن المفاجأة المؤلمة كانت أنها لم تنل المجموع الذي كانت تريده وتطمح إليه، المجموع الذي كانت ترى فيه جواز سفرها إلى عالم أفضل، دليلها القاطع على جدارتها المطلقة.
كانت هذه النتيجة، رغم كونها تفوقًا على من حولها، بمثابة ضربة قاصمة لليلى. فبعد كل هذا العناء، وكل هذه التضحيات، لم تصل إلى هدفها النهائي الذي رسمته لنفسها. دخلت ليلى في حالة اكتئاب شديد، شعرت وكأن كل جهودها قد ذهبت سدًا. كان الإنجاز الذي حققته يبدو باهتًا، لأنها لم تصل إلى قمة طموحها، وهو ما زاد من مرارة الهزيمة الداخلية التي شعرت بها.
شمس الأنشطة في سماء رمادية
لم يكد خبر مجموع ليلى ينتشر حتى أظهر الكثير ممن حولها شماتتهم. زادوا من الضغط عليها بالكلمات والتلميحات، وكأنهم يكملون ما بدأت به والدتها. شعرت ليلى أن الظلال الرمادية التي خيّمت على حياتها لن تنجلي من تلقاء نفسها، وأن الانسحاب لن يكون حلًا. أدركت أن لا أحد سينقذها سوى نفسها.
بدأت ليلى تستعيد قوتها تدريجيًا. قررت أن تختار أقرب كلية إلى تطلعاتها، مستغلة ما تبقى من خياراتها بعد النتيجة التي لم ترضها. لم يكن الأمر سهلاً، فجراح النفس كانت عميقة، لكنها كانت مصممة على معالجتها.
ومع دخولها الجامعة، قررت ليلى أن تنخرط بقوة في الأنشطة الطلابية الفعالة. انضمت إلى المجموعات الاجتماعية التي تُعنى بالعمل التطوعي ومساعدة الآخرين، وجدت في هذا العطاء متنفسًا لغضبها وإحباطها. كما عادت إلى شغفها بالفن، فانضمت لفرق الأنشطة الفنية والثقافية، حيث الرسم والموسيقى والشعر كانت بوابتها للتعبير عن ذاتها من جديد. في هذه الأنشطة، وجدت ليلى مجتمعًا جديدًا يدعمها، وأصدقاء يشاركونها الاهتمامات والطموحات، مما ساعدها على رؤية بصيص أمل في سمائها الرمادية.
ضغط الارتباط والرفض العنيد
لكن هل توقف الأمر عند هذا الحد؟ بالطبع لا. فمع مرور السنوات، وتحول ليلى إلى شابة يافعة، لاحظ المجتمع من حولها أنها أصبحت جميلة ومطلوبة. وفي منظوره، حان الوقت لـ ارتباطها. فالفتاة، بحسب الأعراف السائدة، "يجب أن تتزوج لتريح الجميع"؛ لتريح عائلتها من مسؤولية وجودها في المنزل، ولتبدأ حياتها "الحقيقية" كزوجة وأم.
وجدت أم ليلى في هذا الأمر بابًا جديدًا لتنغيص حياتها والضغط عليها. لم تتردد في الإيعاز إلى والد ليلى بضرورة إيجاد "حل" لابنتهما التي كانت ترفض كل من يتقدم لخطبتها. ليلى، بعقلها المستنير وشخصيتها القوية، كانت ترى دواعي رفضها منطقية وواضحة. كانت تبحث عن شريك يفهمها، يحترم طموحاتها، ويشاركها رؤيتها للحياة، وليس مجرد زوج تقليدي.
أما من حولها، فكانوا يرون دواعي رفضها أمورًا غير ذات أهمية، أو مجرد "تدلّع" غير مبرر. كانت عبارات مثل "قطار الزواج سيفوتكِ"، و"لا تجعلي الفرص تضيع من يدكِ"، و"لا يوجد رجل كامل" تنهال عليها من كل حدب وصوب، لتزيد من الضغط النفسي الذي كانت تعاني منه ليلى. كانت حربًا أخرى تُشن عليها، حربٌ لإجبارها على التخلي عن اختياراتها وقناعاتها من أجل إرضاء الآخرين.
الكآبة السوداء وطريق النجاح المرير
أنهت ليلى دراستها الجامعية بنجاح باهر، ونالت درجة البكالوريوس في تخصص علمي رائع، تخصص مكنها من العمل في مجالات خلاقة ومبتكرة، بعيدًا عن القيود التقليدية. وبدأت رحلة الدراسات العليا في نفس الوقت، مدفوعة بشغفها بالعلم ورغبتها في التميز.
لكن النجاح الأكاديمي والمهني لم يكن كافيًا لتبديد الغيوم التي كانت تحيط بحياة ليلى. فالضغوط لم تتوقف، بل استمرت من كل حدب وصوب. لم يقتصر الأمر على ضغط الأهل والمجتمع للزواج، بل امتد ليشمل العرسان المرفوضين الذين لم يتوقفوا عن محاولاتهم، مما أضاف عبئًا نفسيًا جديدًا. وفوق كل ذلك، تصاعدت حدة الخلافات المنزلية بين والديها، لتصبح الأجواء في البيت مشحونة بالتوتر والقلق.
كل هذه الضغوط المتراكمة، من الداخل والخارج، جعلت ليلى تدخل مرة أخرى في حالة من الكآبة السوداء. شعرت وكأنها محاصرة، وأن كل إنجازاتها لا تستطيع أن تمنحها السلام الداخلي الذي تبحث عنه. كان النجاح الذي حققته يبدو مريرًا، لأنه جاء على حساب صحتها النفسية واستقرارها العاطفي. ورغم كل ما وصلت إليه، كانت تشعر بالوحدة والإنهاك، وكأنها تسير في نفق مظلم لا ترى نهايته.
الرهان الأخير
لقد دفع كل ذلك الضغط المستمر، من صراع الدراسة والعمل، مرورًا بضغط الزواج، ووصولًا إلى الخلافات الأسرية المتصاعدة، ليلى إلى اتخاذ قرار بدا وكأنه أشبه بالانتحار من فرط اليأس والإرهاق. فبعد كل ما مرت به من تحديات وصراعات، وبعد أن أُنهكت روحها، اختارت ليلى أن تُقدم على خطوة لم تكن لتتصورها يومًا.
وافقت على الزواج من عريس صالونات، شخص لم يكن يتمتع بأي صفة من الصفات التي طالما حلمت بها في شريك حياتها. لا الفهم المشترك، ولا الاحترام المتبادل للطموحات، ولا حتى ذلك الشعور بالتقارب الروحي الذي كانت تبحث عنه. كان قرارًا مبنيًا على الإرهاق والإذعان، لا على الحب أو التوافق.
قالت ليلى لنفسها في لحظة يأس عميق: "من تحمل كل ما مررت به، لن يعيقه أي شيء بعد الآن. سأتمكن من إنجاح هذا الزواج، مهما كانت الظروف". كان هذا رهانًا أخيرًا على قدرتها على التحمل، ومحاولة أخيرة لإيجاد بعض السلام، حتى لو كان ثمنه التخلي عن جزء كبير من أحلامها وتطلعاتها الشخصية. كانت تؤمن بأن قوتها الداخلية التي صقلتها السنين كفيلة بتجاوز هذا التحدي الجديد، وأنها قادرة على صنع المستحيل حتى في ظل أصعب الظروف.
القدر يعيد الكرة.. والزوج نسخة طبق الأصل
والمدهش، بل والغير مفهوم حقًا، هو أن القدر، وكأنه يصر على وضع ليلى في مواجهة دائمة مع نفس التحديات، قد ساق لها زوجًا كان نسخة طبق الأصل من والدتها! لم يكن الأمر مجرد تشابه في بعض الصفات، بل كان تكرارًا مؤلمًا لنفس النمط السلوكي.
فزوجها، تمامًا كوالدتها، كان شخصًا نرجسيًا يرى نفسه محور الكون، ويلقي الحمل كله على عاتق ليلى. كل المسؤوليات، من إدارة المنزل إلى اتخاذ القرارات، ومن تحمل الأعباء المادية إلى العاطفية، كانت تقع على كاهلها وحدها. وفي المقابل، كان يجلس هو في موضع المتفرج الناقد، لا يقدم دعمًا ولا مساعدة، بل يكتفي بالتوجيهات واللوم والانتقاد، تمامًا كما كانت تفعل والدتها.
شعرت ليلى وكأنها عادت إلى نقطة الصفر، أو ربما إلى حلقة مفرغة لا نهاية لها. فبعد كل ما بذلته من جهد لتجاوز الماضي، وجدت نفسها تواجه نفس المعاملة، نفس الضغط، ونفس الشعور بالوحدة والعزلة داخل علاقة كان من المفترض أن تكون ملاذها. كان هذا التكرار الصادم يضع ليلى أمام تحدٍ جديد، تحدٍ يهدد بتحطيم ما تبقى من صمودها، ويجعلها تتساءل: هل قدرها أن تظل دائمًا في مواجهة مع هذه الشخصيات التي تستنزف طاقتها وتعيق حريتها؟
فقدان السند والبحث عن بصيص أمل
وكأن القدر لم يكتفِ بما ألقاه على كاهل ليلى، فقد زاد الطين بلة بأن فقدت والدها، الرجل الذي كان يمثل الداعم الوحيد لها في الحياة. كان هو السند والعون، مصدر التشجيع والحماية، وبفقدانه شعرت ليلى وكأن جزءًا منها قد اقتلع، وأنها أصبحت وحيدة في مواجهة طاحونة الحياة.
في خضم هذا الألم، رزقت ليلى بطفلتين هما أجمل ما في الوجود. كانتا بمثابة بصيص نور في نفق الكآبة الطويل. وبالرغم من خيبة أملها في زواجها وواقعها المرير، تشبثت ليلى ببناتها كطوق نجاة. نظرت إليهما وقررت أن تتحمل، أن تصمد، وأن تضحي بكل شيء من أجلهما.
في لحظة يأس، لكنها أيضًا لحظة إصرار، اعتبرت ليلى أن حصول طفلتيها على ربع أب أفضل من عدم وجود أب في حياتهما بالمرة. كانت هذه قناعة مريرة، لكنها كانت السبيل الوحيد الذي رأته لضمان الحد الأدنى من الاستقرار لطفلتيها. هذا القرار عكس عمق الألم الذي كانت تعيشه، ولكنه أظهر أيضًا قوة ليلى وصمودها الأسطوري من أجل فلذتي كبدها، فهما الآن محور حياتها ودافعها للاستمرار.
الهجرة، تحديات جديدة، وبخل يلاحقها
بسبب الضغوط المادية المتزايدة، وبخل زوجها الشديد الذي أرهقها، اتخذت ليلى قرارًا جريئًا بالبحث عن فرص عمل في الخارج. لم يكن الأمر سهلًا، لكن بفضل التقنيات المعقدة والحديثة التي كانت تنفذها ببراعة في مجال تخصصها العلمي المتميز، أهلتها كخيار مثالي لأحد المستشفيات الكبرى المرموقة في الخارج. لم تكتفِ ليلى بتأمين وظيفة لها، بل بذلت جهدًا كبيرًا لتجد عملًا لزوجها أيضًا في نفس الدولة، أملًا في بناء حياة أفضل ومستقبل أكثر استقرارًا لابنتيها.
سافرت ليلى إلى بلد جديد، وبدأت رحلتها في محاولة بناء بيت جديد لابنتيها، بيت يحمل الأمان والاستقرار الذي افتقدته طويلًا. لكن، وبعد كل ما بذلته من جهد وتضحيات، لم يتغير سلوك زوجها. فبدلًا من أن يقدر تضحياتها وسعيها لتوفير حياة كريمة للعائلة، كان ينظر فقط إلى الفارق الكبير بين راتبها وراتبه. هذا الفارق، الذي كان ينبغي أن يكون مصدر فخر وتقدير، تحول في عقله إلى شعور بالنقص.
لتعويض ما يشعر به من ضعف أو نقص، بدأ زوجها بمحاولة فرض قيود غير منطقية عليها وعلى الفتاتين. قيود تحد من حريتها، ومن خيارات الفتاتين، وتجعل حياتهن محاطة بأسوار وهمية. وكأن ليلى قد هربت من سجن لتجد نفسها في سجن آخر، هذه المرة خارج حدود وطنها، ومع شخص كان من المفترض أن يكون شريكها وداعمها.
عودة اضطرارية وحرب الدراما المستمرة
تحملت ليلى الكثير، وصمدت أمام كل الصعاب، ولكن القدر لم يمهلها كثيرًا هذه المرة. فقد اندلعت حربٌ في المنطقة التي كانت تعيش فيها بالخارج، مما جعل العيش هناك بالغ الصعوبة ومحفوفًا بالمخاطر. وجدت ليلى نفسها مجبرة على اتخاذ قرار العودة إلى بلدها الأصلي، تاركة وراءها الحلم الذي سعت لبنائه بجهد وعناء.
عادت ليلى إلى وطنها، وحملت على عاتقها مسؤولية رعاية ابنتيها. عملت جاهدة على إلحاقهما بمدرسة مناسبة تضمن لهما تعليمًا جيدًا، وبدأت في البحث عن عمل مناسب يمكنها من توفير حياة كريمة لهما في ظل الظروف الجديدة. كانت تواجه تحديات التكيف مع الحياة في بلدها بعد غياب طويل، بالإضافة إلى الأعباء المادية والنفسية المترتبة على العودة الاضطرارية.
لكن زوجها، وللأسف، لم يتوقف عن اختلاق المشكلات وصنع الدراما. حتى بعد العودة إلى الوطن، ومع كل الضغوط التي كانت تمر بها ليلى، استمر في سلوكه النرجسي، محاولًا إحكام قبضته والتحكم بها وبحياة ابنتيهما. كان كل يوم مع زوجها يمثل معركة جديدة، استنزافًا لطاقتها التي كانت تحتاجها لتربية ابنتيها والنهوض بحياتهما من جديد.
التخلي، الانفصال، وبداية جديدة
بعد سنوات قليلة من العودة إلى الوطن، والكثير من المشكلات التي لا حصر لها، وجدت ليلى بصيص أمل جديد. سنحت لها فرصة أخرى بمزايا لا يحلم بها أحد في الخارج، فرصة عمل استثنائية في مجال تخصصها. وبإصرارها المعتاد، وفرت مرة أخرى فرصة عمل مناسبة لزوجها، وعاودت الكرة، آملة أن تكون هذه المرة مختلفة.
لكن الأمل سرعان ما تبدد. ففي كل يوم، كان زوجها يتخلى عن مسؤولية جديدة من مسؤوليات الرجل، سواء كانت مادية أو معنوية أو حتى تلك المتعلقة بتربية الفتاتين. كانت ليلى تتحمل كل شيء في صمت، تواصل سعيها وجهدها، وتملأ الفراغ الذي يتركه زوجها، محاولة الحفاظ على استقرار الأسرة.
استمر هذا الوضع المنهك، حتى جاء اليوم الذي تسبب فيه أمر صغير، ربما كان القشة التي قصمت ظهر البعير، في اتخاذها قرارًا حاسمًا. هذا الأمر، الذي قد يبدو تافهًا للبعض، كان بالنسبة لليلى نقطة اللاعودة. قررت الانفصال بلا رجعة. لم تعد قادرة على تحمل المزيد من الأعباء النفسية والعاطفية، ولم تعد مستعدة للتضحية بسعادتها وسلامها الداخلي من أجل علاقة استنزفتها تمامًا. كان هذا القرار بمثابة تحرر، وبداية فصل جديد في حياة ليلى، فصلٌ ستكون هي فيه سيدة نفسها، ومسؤولة عن سعادتها وسعادة ابنتيها فقط.
الوحدة في الغربة وطمع الأقارب
بعد قرار الانفصال، استمرت ليلى في العمل الجاد ورعاية طفلتيها وحيدة في بلد غريب. كانت تواجه تحديات الحياة اليومية بمفردها، بالإضافة إلى مسؤولية تربية ابنتيها وتوفير كل احتياجاتهما. ورغم كل هذه الأعباء، لم تتوقف الضغوط الخارجية.
فعلى الرغم من علم أخويها بما تعانيه من ضغوط ومسؤوليات جسيمة، كانا يشعران - لسبب غير مفهوم - أن عليها توفير فرص عمل لهما والاستفادة من وضعها المادي الجيد في الخارج. وعلى الرغم من أن ليلى لم تتردد في مساعدتهما في الكثير من المرات، سواء بالمال أو بالبحث عن فرص لهما، إلا أن ذلك لم يزدهما إلا طمعًا. فقد تعودا على الأخذ، وأصبحا ينظران إلى ليلى كمصدر لا ينضب للمساعدة، دون تقدير لحجم تضحياتها ومعاناتها. كانت ليلى تشعر بالوحدة في غربتها، ليس فقط بسبب بعد المسافات، بل بسبب غياب الدعم الحقيقي من أقرب الناس إليها، الذين تحولوا إلى عبء إضافي على كاهلها
صراع خفي مع "منى"
لم تكن الفتاة المواطنة، التي التحقت بالعمل في المختبر، تدرك تمامًا عمق الموقف. اسمها منى. كانت ترى في الأمر فرصة لها، ربما بتوجيهات خفية أو واضحة من جهات عليا، لترتقي وتأخذ مكانًا في المختبر. لم تعِ منى أن ليلى ليست مجرد مقيمة، بل هي عمود فقري للمختبر، بخبرتها وتقنياتها المعقدة التي أسستها. لم تدرك حجم التضحيات التي قدمتها ليلى لتصل إلى ما وصلت إليه، ولا الأعباء التي تحملها كأم وحيدة في بلد غريب.
كانت منى تتبع التعليمات، وتتصرف أحيانًا بسذاجة، وأحيانًا أخرى بإصرار يعكس رغبتها في إثبات ذاتها والحصول على هذه الفرصة. لم تكن تحمل ضغينة شخصية، بل كانت مجرد أداة في يد سياسة أكبر. وهذا ما زاد من صعوبة الموقف على ليلى، فهي لم تكن تواجه عدوًا واضحًا يمكنها محاربته، بل كانت تواجه تيارًا مجتمعيًا وسياسيًا يسعى لتقييد حركتها وفرصها، مستخدمًا في ذلك أحيانًا أشخاصًا لا يعون تمامًا أبعاد ما يفعلون. كان عليها أن تواجه هذا التهديد لوجودها المهني بأقصى درجات الحكمة والصبر، مع الحفاظ على كفاءتها التي لا يختلف عليها اثنان.
العودة الأخيرة، والتركيز على المستقبل
عند حد معين، وبعد كل هذه المعارك والضغوط التي لا تتوقف، فقدت ليلى القدرة على المواصلة. لم يعد لديها طاقة لتحمل المزيد من الصراعات، سواء في عملها أو في حياتها الشخصية. اتخذت قرارًا حاسمًا بالعودة بابنتيها إلى بلدها الأصلي، هذه المرة بشكل نهائي.
لم تكن العودة استسلامًا، بل كانت إعادة ترتيب للأولويات. فور وصولها، عملت ليلى جاهدة على إلحاق ابنتيها بجامعة من أفضل الجامعات، مؤمنة بأن التعليم هو مفتاح مستقبلهما. لم تكتفِ بذلك، بل استمرت في تعليمهما القيم التي عانت الأمرين في حياتها من أجل إثباتها: قيمة الاستقلال، قوة الشخصية، أهمية العلم والعمل، وضرورة الدفاع عن الذات والطموحات. كانت تحرص على أن تغرس فيهما كل ما تعلمته من دروس قاسية، لتكونا أقوى وأكثر حكمة في مواجهة تحديات الحياة.
ليلى، التي كانت دائمًا في مواجهة مع الظروف والأشخاص، أصبحت الآن تركز كل طاقتها على بناء مستقبل أفضل لابنتيها، وعلى أن تكون لهما السند الذي افتقدته هي كثيرًا. كانت هذه العودة بمثابة بداية فصل جديد، فصلٌ عنوانه الأمل، والصمود، وبناء جيل جديد يؤمن بقيم المساواة والكرامة.
قصة ليلى... صمود بلا نهاية
وهكذا، اختارت ليلى أن تكون خاتمة قصتها نقطة انطلاق جديدة. لم تكن حياتها سلسلة من الأحداث العادية، بل كانت ملحمة من الصمود والتحدي. فمنذ ولادتها تحت سقف التوقعات المجحفة، إلى سنوات طفولتها المحملة بالمسؤوليات، مرورًا بمراهقتها التي شهدت صراعًا بين واجبات المنزل وشغفها بالمعرفة والفن.
لقد واجهت ليلى ضغوطًا لا تُحتمل في عامها الدراسي المصيري، ثم حربًا نفسية من والدتها، وزواجًا مريرًا مع شريك كان نسخة كربونية من الظلم الذي عاشته. حتى الغربة لم تكن ملاذًا آمنًا، فقد لاحقها التمييز وطمع الأقارب. ولكن في كل مرة، كانت ليلى تنهض من تحت الرماد، أقوى وأكثر إصرارًا.
في النهاية، لم تستسلم ليلى لليأس. عادت إلى وطنها، ليست لتتوارى عن الأنظار، بل لتكون السند والقوة لابنتيها. كرست حياتها لتعليمهما القيم التي دافعت عنها بشراسة: الاستقلالية، قوة الإرادة، وأهمية العلم والعمل. ليلى لم تكن مجرد امرأة عانت، بل كانت أيقونة للصمود، تروي قصتها لكل فتاة بأن الألم يمكن أن يصنع القوة، وأن النضال من أجل الذات هو أرقى أنواع الانتصارات.
قصة ليلى ليست مجرد سرد لأحداث، بل هي شهادة حية على أن الروح البشرية، حين تؤمن بنفسها، قادرة على تحويل الظلال الرمادية إلى فجر جديد.



#حنان_محمد_السعيد (هاشتاغ)       Hanan_Hikal#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دولة سارّاس
- عيد ميلاد الكونت دراكولا
- دكاكين ابليس
- القفص اللامرئي
- مشروع ما بعد الانسان: تعديل الجينات وزرع الغرسات الالكترونية
- حال المرأة في اليوم العالمي للمرأة
- كيف تحمين نفسك في وسط مجتمع يفتقر للشهامة؟
- الهستريا وبضع الفص .. أساليب قديمة ووسائل حديثة
- حيل الشخصية النرجسية للتهرب من المسؤولية
- إنهم يمتنون عليك بالأخذ
- بين مفهوم الستر ومفهوم التستر
- شنق الضحية وسياسة لوم الطرف الأضعف
- تحوّل من جاني إلى ضحية في ثلاث خطوات بتقنية DARVO
- القيم -المهزوزة-
- حلاق النزاهة ولانجيري الشفافية
- هل أنتِ ضحية للتلاعب العقلي Gaslighting؟
- مدرسة المخابرات الألمانية في التجسس على الشعوب
- البحث عن الرجولة المفقودة
- بيجاسوس وأخواته
- صائد الأرواح


المزيد.....




- -فتى الكاراتيه: الأساطير-.. مزيج من الفنون القتالية وتألُق ج ...
- مسرحية -أشلاء- صرخة من بشاعة الحرب وتأثيرها النفسي
- الجمعة.. انطلاق نادي السينمائيين الجدد في الرياض
- غدا.. اجتماع اللجنة الفنية للسياحة العربية بمقر الجامعة العر ...
- “مبروك لجميع الطلاب ” رابط نتيجة الدبلومات الفنية 2025 الدور ...
- مذكرة تفاهم رباعية لضمان التمثيل القانوني المبكر للأحداث بين ...
- ضحك طفلك طول اليوم.. تردد بطوط على القمر الصناعي لمتابعة الأ ...
- الياباني أكيرا ميزوباياشي يفوز بالجائزة الكبرى للفرنكوفونية ...
- كيف تحولت شقة الجدة وسط البلد إلى مصدر إلهام روائي لرشا عدلي ...
- القهوة ورحلتها عبر العالم.. كيف تحولت من مشروب إلى ثقافة


المزيد.....

- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حنان محمد السعيد - حكاية ليلى