أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حنان محمد السعيد - دكاكين ابليس















المزيد.....


دكاكين ابليس


حنان محمد السعيد
كاتبة ومترجمة وأخصائية مختبرات وراثية

(Hanan Hikal)


الحوار المتمدن-العدد: 8376 - 2025 / 6 / 17 - 14:03
المحور: الادب والفن
    


دكاكين إبليس
في يوم قائظ من أيام يونيو، استيقظ إبليس. لم يكن استيقاظه كبشر، بل كان أشبه بتجمع لظلال متناثرة في زوايا وعيه، تلاها شعور خانق بالحرارة. "اللعنة على جهنم!" تمتم بصوت بدا كخشخشة جمر متبقٍ. كانت حرارة الصباح في عالمه السفلي تذكره على الدوام بالحر الأعظم الذي ينتظره، لا هو، بل البشر.
نظر إبليس في شاشته الكونية المظلمة، التي تعرض مشاهد متفرقة من عالم البشر. رأى صخب الشوارع، وجوهًا عابسة تعاني من حر الصيف في القاهرة، وأخرى ضاحكة لا تدرك المصير. تنهد تنهيدة عميقة، لو كان للشياطين رئة تتسع للتنهدات. "يا لهم من مخلوقات تافهة!" فكر بغضب مصطنع، "لماذا يستحقون كل هذا العناء مني؟ أنا المطيع، الذي عرف قدر الإله وقوته، أنا من رفض السجود لهم إجلالًا لعظمة الخالق لا عصيانًا". كانت تلك حجته الأزلية التي يكررها لنفسه كلما راوده شعور بالظلم.
لقد كان إبليس يرى نفسه ضحية هذا الأمر برمته. هو لم يعصِ الله؛ بل أطاع أمره بعدم السجود إلا له. كيف يمكن أن يكون هو، الذي أدرك عظمة الخالق حق الإدراك، من يدفع ثمن خطايا هؤلاء البشر الذين لا يفقهون شيئًا؟ كانت هذه الفكرة تؤرق كيانه الشيطاني منذ الأزل.
خطة إبليس الكبرى
في أعماق وعيه الشيطاني، حيث تتماوج ذكريات الجمر والرماد، استقر قرار إبليس. "لن أكتفي بالشكوى بعد الآن!" زمجر، وصوته كان صريرًا لأبواب الجحيم تُفتح. "لقد حان الوقت لأثبت للعليّ الأعلى أن هؤلاء البشر لا يستحقون حتى أن يُعذبوا. إنهم قادرون على تعذيب أنفسهم، بل وتدميرها، دون أي تدخل مني."
كانت خطته خبيثة، متقنة، وتستغل أكثر ما يحبه إبليس في طبيعة البشر: الأنانية والوهم. لن يُغوي البشر بالطرق التقليدية بعد الآن، بل سيصنع لهم أوهامًا، "دكاكين" لكل رغبة، "عروضًا" لكل حلم.
"سأصنع لهم دكانًا لكل شهوة، عرضًا لكل طموح!" ارتسمت على ملامحه الغائرة ابتسامة خبيثة. "عندما يصدقون تمامًا أنهم أصبحوا ما يحلمون به: الليبرالي المتحرر، المتدين القوي، الإمبراطور العظيم... سيجدون أنفسهم في النهاية يعملون في خدمتي ويحققون أهدافي."
لكن إبليس لم يكتفِ بهذا. كان يعرف نقطة ضعف البشر الأزلية، الشرارة التي يمكن أن تشعل نيرانًا لا تُطفأ: العنصرية والطائفية. "هاتان الصفتان الجميلتان!" تمتم ببهجة شريرة، "سأجعلهما وقودًا لخطتي. سأوقد نيران الفرقة والكره بينهم، وسأجعلهم يمزقون بعضهم البعض، بينما يظنون أنهم يدافعون عن الحق أو العرق أو الدين."
تخيل إبليس البشر، وهم يتدافعون في دكاكينه الوهمية، كل منهم يشتري وهمًا عن عظمته، تفوقه، نقائه. الليبرالي سيُغرق في بحر من الحرية المطلقة التي تفقده كل قيد، والمتدين سيُشدد على نفسه وعلى من حوله حتى يكاد يختنق، والإمبراطور سيُغرق في طموح لا نهاية له. وفي النهاية، عندما يظنون أنهم بلغوا قمة المجد، سيجدون أنفسهم مسوخًا مضحكًا، خدمًا لإبليس نفسه، يؤدون رقصة الفوضى والدمار التي خطط لها.
لقد قرر إبليس أن ينزل إلى عالم البشر، لا ليُغويهم بالمعنى التقليدي، بل ليُشعل فيهم شرارة الوهم الذاتي، ليجعلهم يتصارعون بناءً على هوياتهم الزائفة. الهدف ليس إرسالهم إلى الجحيم، بل إثبات أنهم جحيم أنفسهم.
الدكان الأول: لباس التقوى المزيف
قرر إبليس أن أول دكان سيفتحه في عالم البشر سيكون الأكثر جاذبية للنفوس، والأسهل لإشعال نيران الفرقة والتعصب: دكان "التقوى" المزيّفة. سيتخفى في وجوه يثق بها البشر، أولهم رجل الدين.
لقد أدرك الشيطان أن البشر، بطبيعتهم، يبحثون عن دليل ومرشد. وأي مرشد أفضل من رجل يرتدي ثوب التقوى ويقتبس من الكتب المقدسة؟ لن يتدخل إبليس في العقيدة الأساسية، بل سيُحرّف البوصلة، يُغيّر الأولويات، ويُضيّق الرؤية. سيُنسي الناس جوهر الدين الذي يدعو إلى التعاطف، العمل، رعاية الضعفاء، البناء، التأزر، وطلب العلم. بدلاً من ذلك، سيُركز على القشور: شكل الملابس، التنكيل بالنساء وتغطيتهن، والتهديد بالويل والثبور على كل تفصيل صغير في المظهر والسلوك.
لتحقيق ذلك، التقط إبليس شابًا متحمسًا، يدعى أحمد. كان أحمد شابًا متدينًا، يحضر الدروس الدينية بانتظام ويقرأ كتب الرصيف التي تُباع بأسعار زهيدة، تلك التي تُهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور كل من رفع عينه لامرأة أو كل امرأة ظهرت من رأسها شعرة. كان أحمد يمتلك حماسًا وغيرة على الدين، لكنه كان يفتقر إلى البصيرة والعمق، وهذا ما جعله الفريسة المثالية لإبليس.
تسلل إبليس إلى عقل أحمد، ليس بوسوسة مباشرة، بل بتضخيم مخاوفه وتوجيه تركيزه. بدأ يهمس لأحمد بأن النجاة تكمن في التشدد في المظاهر، وأن صلاح الأمة يبدأ من تغطية النساء بالكامل. أخذ أحمد يتحدث في دروسه الصغيرة عن أهمية اللباس الشرعي، وكيف أن كشف المرأة لشعرة واحدة كفيل بجلب غضب الله. تحول حديثه عن الأخلاق الحميدة إلى هوس بالشكل، وعن التعاون والتراحم إلى اتهامات متبادلة بالتقصير في الدين.
لم يدرك أحمد أنه في كل مرة يُركز فيها على هذه القشور، كان يُبعد الناس عن جوهر دينهم، ويُشعل فتيل الانقسام بينهم. لم يكن يدرك أنه، دون قصد، أصبح مجرد أداة في يد إبليس، يُحقق خطته بجعل البشر مسوخًا مضحكًا، يتصارعون على تفاصيل هامشية بينما تضيع القيم الحقيقية.
الدكان الثاني: وهْم العدالة المزيّفة
بينما كانت بذرة الفرقة تنمو في حقول التدين الشكلي بفضل الشاب المتحمس أحمد، كان إبليس يُعدّ "دكانه" الثاني، هذا الدكان الذي يستهدف طبقة أخرى من البشر: أولئك الذين يرتدون رداء التحضر ويطالبون بالعدالة والمساواة، وهم في الحقيقة يبحثون عن المجد الشخصي تحت ستار المبادئ.
اختار إبليس هذه المرة صحفيًا شابًا ومتحمسًا يُدعى نور. كان نور يمتلك موهبة فذة في الكتابة والخطابة، وكانت شعاراته عن الاستحقاق والأهلية، ومحاربة الواسطة والفساد تتردد في أروقة الصحافة وتلامس قلوب الكثيرين. كان يرى نفسه فارسًا يحارب الظلم، ويؤمن بأن الكل يجب أن يخضع للقانون دون تمييز.
ظهر إبليس لنور في صورة رئيس تحرير لمؤسسة صحفية ضخمة. لم يكن شيطانًا صريحًا، بل كان تجسيدًا لأحلام نور الكامنة: الاعتراف، الشهرة، والتأثير. تحدث رئيس التحرير المزعوم بنبرة أبويّة، مفعمة بالتقدير والثناء على موهبة نور، ووعده بالمال والمنصب الذي طالما حلم به.
"أنت موهوب يا نور، وتمتلك بصيرة نادرة!" قال رئيس التحرير، وعيناه تلمعان بنظرة حادة، "مكانك هذا يتمناه آلاف غيرك ممن هم أكثر استحقاقًا وأكثر مرونة ." لم تكن "المرونة" كلمة عابرة، بل كانت مفتاح العرض الشيطاني.
تابع رئيس التحرير بلهجة هادئة ولكنها حاسمة: "ولكن... يجب أن يكون لديك نظر . الأمور لا تسير دائمًا بالطريقة التي نُخطط لها على الورق. الحقيقة لها وجوه كثيرة. ربما تحتاج إلى تخفيف لهجتك قليلاً، وتحسين أسلوبك ليكون أكثر قبولاً للجميع. أحيانًا، الكلمة الحادة تخسر قضيتها، بينما الكلمة اللينة تفتح الأبواب."
لم يُدرك نور أن هذا لم يكن اقتراحًا لتحسين أسلوبه، بل كان دعوة للتنازل عن مبادئه. الوظيفة المرموقة، المال، والشهرة التي تلوح في الأفق كانت إغراءً لا يُقاوم. بدأت مقالات نور تفقد حدتها شيئًا فشيئًا. أصبحت انتقاداته للمحسوبية والفساد أكثر "اعتدالاً"، وأخذ يتجنب الإشارة إلى أسماء بعينها. تحولت شعاراته عن "العدالة للجميع" إلى "فهم الواقع المعقد".
بينما كان نور يعتقد أنه أصبح صحفيًا "أكثر حنكة وذكاء"، كان إبليس يرى دمية جديدة تُحرك خيوطها. لقد تحول نور من محارب للفساد إلى أداة تُجمل صورته، أو على الأقل، تُخفف من وطأة نقده، بينما كان يوهم نفسه أنه ما زال يُناضل من أجل العدالة، لكن بطريقة "أكثر واقعية". لقد أصبح نور أضحوكة أخرى في مسرح إبليس الكبير، يخدم أجندته دون أن يدري، ويروج لوهم العدالة الانتقائية.
الدكان الثالث: وهم القيادة الثورية
بينما كانت خطة إبليس تتكشف، محوّلة رجال الدين والصحفيين إلى أدوات تُساهم في تفتيت النسيج المجتمعي، كان الدور قد حان للشريحة الثالثة، الأكثر حساسية وقدرة على التأثير الجماهيري: القيادات السياسية.
وجد إبليس فريسته المثالية في شابٍ طموح، كان يُدعى كريم. منذ أيام الجامعة، كان كريم يتمتع بكاريزما طاغية وقدرة على الإقناع. لقد نجح في حشد زملائه حوله، مُقنعًا إياهم بأنه صوتهم الصادق، منقذهم الذي سيُحسن ظروفهم ويُحارب الظلم. كانت كلماته تلهب الحماس، وتُشعل جذوة الأمل في قلوب الشباب.
لكن عيون إبليس الثاقبة، التي ترى ما وراء الأقنعة، رأت في كريم شهوة جامحة للسلطة والاعتراف، استعدادًا للتنازل عن أي مبدأ لتحقيق أهدافه. لم يلبث كريم كثيرًا حتى التقطته أيادي الأمن. لم يأتِ الأمن كتهديد، بل كعرض مغرٍ. دعموه بالمال، بالفرص، وبالوعد بمستقبل سياسي باهر، مقابل أن يُصبح عينهم وأذنهم داخل الحركات الطلابية، يكشف لهم عن كل من يُعتبر "ضد النظام".
لقد كان اختبارًا سهلاً لكريم. لم يتردد طويلاً في تقديم الكثير من زملائه، أولئك الذين آمنوا به وبشعاراته، كبش فداء على مذبح قبوله لدى السلطة. برر لنفسه ذلك بأنه "ضرورة سياسية"، وأن التضحيات الصغيرة ستؤدي إلى انتصارات أكبر في المستقبل.
بعد أن أثبت "ولاءه" و"براغماتيته"، انضم كريم إلى حزب سياسي. لم يكن هذا الحزب معارضًا بالمعنى الحقيقي، بل كان مجرد "دكان" آخر لإبليس، يدّعي المعارضة ويُمارسها بالقدر الذي يريده النظام. كانت مهمة هذا الحزب، وكريم داخله، هي إضفاء مظهر الديمقراطية والتعددية، وإيهام الناس بأن هناك أصواتًا معارضة تُسمع، بينما في الحقيقة، كل شيء كان مُتحكمًا به، ومُوجهًا لخدمة أجندة خفية.
أصبح كريم، الذي كان يومًا يُمثل الأمل لجيل كامل، واجهةً بارعة في هذا المشهد السياسي الزائف. يلقي الخطب الحماسية، ويُندد بالفساد في العلن (بطريقة لا تُهدد الكبار)، ويدعو إلى الإصلاح (بحدود لا تُغير الواقع). كان إبليس يراقب بسخرية وهو يرى كيف أن كريم، الذي بدأ كـ"صوت" للناس، قد أصبح بوقًا للنظام، يُضلل الجماهير ويُقوي شوكة العنصرية والطائفية من خلال تقسيم المجتمع إلى مؤيد ومعارض، مخلص وخائن، وكل ذلك تحت غطاء "العمل الوطني" و"حماية الوطن".
ليلة وسط البلد: شرارة الصراع
في ليلة صيفية خانقة من ليالي القاهرة، على أحد مقاهي وسط البلد العتيقة، حيث تختلط رائحة القهوة بالسجائر وضجيج الشارع، اجتمع ثلاثة رجال. لم يدركوا، وهم يتجاذبون أطراف الحديث، أن الخيوط التي جمعتهم قد نسجها إبليس بنفسه، وأن كل منهم كان بيونقاً في مسرحه الكبير.
كان أحمد، الشاب المتدين، يجلس متصلبًا، نظراته حادة كحد السيف، يطلق سهام أحكامه على كل ما يراه خروجًا عن "الصراط المستقيم". قبالته، جلس نور، الصحفي اللامع، الذي كانت كلماته الرصينة تخفي وراءها تذبذبًا متزايدًا في مبادئه، يبتسم ابتسامة باهتة لا تصل إلى عينيه. وعلى مقربة منهما، كان كريم، السياسي الواعد، الذي تمكن من تخدير الجماهير بوعوده، يتحدث بلباقة مصطنعة، بينما يراقب المشهد بعينيه اللامعتين، باحثًا عن أي فرصة لتعزيز موقفه.
بدأ النقاش هادئًا، ثم سرعان ما ارتفعت وتيرته.
"المشكلة يا إخوة،" بدأ أحمد بصوت جهوري، "أننا نُضيّع الجوهر ونُلاحق السراب. كيف لنا أن نصلح حال الأمة ونسائنا يتبرجن في الشوارع، وشبابنا يتجاهل أبسط فروض الدين؟ التقوى تبدأ من البيت، من المظهر، من الالتزام!"
هنا تدخل نور، بابتسامة خفيفة: "مع احترامي لك يا شيخ أحمد، لكن التقدم لا يأتي بالتركيز على المظاهر. الحريات الشخصية خط أحمر. العدالة الحقيقية هي في مساواة الجميع أمام القانون، بغض النظر عن لباسهم أو معتقداتهم. الفساد هو العدو الحقيقي، والمحسوبية التي تنهش في جسد المجتمع هي ما يجب أن نحاربه."
لم يمهله كريم حتى يكمل، بادر قائلاً: "كلاكما يُمسك طرفًا من الحقيقة، لكن الصورة أكبر. الحقيقة يا سادة أننا في مرحلة حساسة تتطلب منا التكاتف. علينا أن ندعم مؤسسات الدولة، وأن نُعطي الفرصة لمن يعملون جاهدين لرفعة الوطن. الاستقرار هو الأساس، وبدونه لا يمكن لأي مجتمع أن يتقدم أو يُصلح حاله. القضايا التي تثيرونها مهمة، لكن يجب أن تُطرح في إطار يحفظ الأمن القومي."
تبادل الثلاثة النظرات. أحمد يرى في كلام نور وكريم انحلالاً وتهاونًا. نور يرى في حديث أحمد رجعية، وفي كلام كريم تبريرًا للفساد. وكريم، يرى في كليهما عائقًا أمام "وحدته الوطنية" المزعومة.
"أمن قومي؟!" صاح أحمد بغضب، "هل صار الدين خطرًا على الأمن القومي؟ وهل الحشمة هي ما تُهدد استقرار البلاد؟ هذا فكر علماني ليبرالي يريد أن يُبعد الناس عن دينهم!"
"وهل الدعوة لحرية المرأة ومحاربة الفساد تُعد انحلالاً؟!" رد نور بحدة، "أنتم تريدون أن تُعيدوا المجتمع قرونًا إلى الوراء، تضعون قيودًا على العقول والأجساد، وتتجاهلون حقوق الناس الأساسية تحت ذريعة الدين!"
تدخل كريم بلهجة أكثر صرامة: "الجميع يريد الخير للوطن، لكن يجب أن نفهم أن هناك أولويات. لا يمكننا أن نسمح لأصوات متطرفة، سواء كانت دينية أو ليبرالية، أن تُشعل الفتنة وتقسّم المجتمع. الوطنية هي فوق كل اعتبار!"
ازداد صوت النقاش حدة، وتداخلت الاتهامات، واختلطت المفاهيم. كل منهم كان يعتقد أنه يُمثل الحقيقة المطلقة، وكل منهم كان يُطلق حكمه على الآخر بناءً على الوهم الذي زرعه إبليس في عقله. كان إبليس يراقب المشهد من بعيد، ابتسامة شيطانية تُزيّن وجهه. لقد بدأت خطته تؤتي أكلها، وبذور العنصرية والطائفية التي زرعها بدأت تُزهر في قلوب هؤلاء الرجال، مُهيّئة التربة لصراع أكبر.
تأجيج النيران: صراع الهويات
لم تكن كلمات أحمد ونور وكريم مجرد آراء فردية تُلقى على طاولة مقهى. فلكل منهم، كما أدرك إبليس بخبث، معجبون وأتباع مخلصون يؤمنون بهم ويصدقونهم ويعتبرون أن كلمتهم حق واجب الاتباع. لقد زرع الشيطان بذرة الوهم في قلوب هؤلاء الأتباع: أن من يعارض قائدهم هو شخص يريد إلغاءهم هم أنفسهم، والتجني على حقوقهم وهويتهم.
وهذا ما كان إبليس ينتظره. بعد تلك الليلة الحامية في وسط البلد، تمسك كل من أحمد ونور وكريم بمنبره بقوة أكبر، مستخدمين الكلمات كوقود لإشعال نيران التحريض.
أحمد، في دروسه التي تزداد حضورًا يومًا بعد يوم، لم يعد يكتفي بالحديث عن أهمية الحجاب أو اللباس الشرعي. لقد بدأ يصور من يدعو إلى الحريات الشخصية والتفكير النقدي على أنهم "عملاء للغرب"، "أعداء للدين"، و"خونة يريدون نزع هويتكم الدينية". كان يشدد على أن أي انتقاد لطروحاته هو هجوم مباشر على "المتدينين" وتضييق عليهم، مستخدمًا كلمات مثل "حرب على الإسلام" و"استهداف للثوابت".
نور، من خلال مقالاته التي أصبحت أكثر انتشارًا وتأثيرًا بفضل دعم رئيس التحرير الشيطاني، بدأ يستهدف المتدينين المتشددين بشكل خاص. لم يعد يكتفي بالدعوة للحرية، بل بدأ يُصوّر المتدينين على أنهم "رجعيون"، "متخلفون"، و"أعداء للتقدم". كل دعوة للتمسك بالمظاهر الدينية أصبحت تُفسر على أنها محاولة لقمع الحريات وتكميم الأفواه، وكل انتقاد للفصل بين الدين والدولة يُعد "ظلامية" تهدد المدنية. شعار "العدالة للجميع" تحول إلى "العدالة لنا فقط، ضد الظلاميين".
أما كريم، الذي كان يرتدي قناع "الوطنية"، فقد استغل المناخ المشحون ليعزز موقفه. في خطبه، لم يعد يتحدث عن الإصلاح العام، بل بدأ يركز على "توحيد الصف الوطني" ضد "الفرقة"، مُلمحًا بأن هناك "خلايا" و"أصواتًا" (يقصد بها أتباع أحمد ونور) تسعى لزعزعة الاستقرار. كان يُصوّر من يعارضه أو يُشكك في منهجه على أنه "عدو للوطن"، "مثير للفتنة"، و"عميل لأجندات خارجية"، مُستخدمًا ورقة "الأمن القومي" ليُكمم الأفواه ويُقسّم الناس إلى موالٍ وخائن.
لقد زاد هذا التحريض المتبادل من حالة الاحتقان والغضب والتحفز بين الناس بدرجة كبيرة. أصبح المجتمع منقسمًا بشكل علني: "المتدينون ضد الليبراليين"، "أنصار الوطنية ضد دعاة الحرية"، وهكذا دواليك. كل مجموعة ترى الأخرى عدوًا وجوديًا، وكل فرد يرى نفسه مهددًا في هويته وحقوقه إذا انتصر الطرف الآخر.
ابتسم إبليس بخبث، فخطته تسير على ما يرام. لقد نجح في تحويل البشر إلى مسوخ مضحكة، تتصارع على هويات زائفة، وتلتهم بعضها البعض بدافع الوهم الذي زرعه في قلوبهم. لم يعد بحاجة للقيام بالكثير، فالشرارة قد اشتعلت، والنار بدأت تنتشر بين الجميع.
عاصفة الخراب: سقوط الأقنعة وصرير الدبابات
كان إبليس يراقب المشهد بابتسامةٍ باردة، فخطته تجاوزت أعتى أحلامه الشريرة. لم يعد الأمر مجرد نقاشات حادة أو تحريض خفي، بل تحول إلى صراع يتأجج يومًا بعد يوم. القوى التي زرعها، من رجال دين متشددين وصحفيين متنازلين وسياسيين متسلقين، تحولت إلى بؤر جاذبة تُفرخ الكراهية وتُقسم المجتمع إلى جزرٍ متناحرة.
وبينما كانت النار تشتعل في الداخل، كانت الجهات الدولية الخارجية، بعيونها التي لا ترى سوى المصالح، تُراقب عن كثب. انخرطت تلك الجهات في اللعبة الشيطانية دون أن تدري، أو ربما وهي تُدرك جيدًا، فبدأت تُقدم الدعم لهذه الجهة أو لتلك، تُشعل الفتن، وتُغذي الانقسامات تحت شعارات زائفة كـ"دعم الديمقراطية" أو "حماية الأقليات". كل تدخل خارجي كان يُصبّ الزيت على النار، ويُزيد من حالة الاحتقان، ويُقوّي شوكة كل طرف ضد الآخر.
المقالات التحريضية لـنور أصبحت بيانات حربية، وخطب أحمد الدينية تحولت إلى فتاوى تكفيرية متبادلة، ووعود كريم السياسية باتت مجرد إشارات لإشعال المزيد من الفوضى لتعزيز سلطته. لم يعد أحد يسمع صوت العقل أو التعاطف. كل طرف رأى في الآخر عدوًا يجب اجتثاثه، مدفوعًا بوهم النقاء والتفوق الذي زرعه إبليس في القلوب.
وفي يومٍ بدا حارًا كبداية القصة، اندلعت الشرارة الأخيرة. لم تكن حادثة كبيرة بالضرورة، ربما مجرد اشتباك صغير في مظاهرة، أو شجار فردي تطور إلى صدام جماعي. لكنها كانت كافية لإطلاق العنان للغضب المكبوت. تحولت الشوارع إلى ساحات حرب، وتصاعدت حدة الاشتباكات بين أتباع الفصائل المختلفة.
انتهى الأمر بـثورة ضخمة، ليست ثورة مطالب، بل ثورة صراعٍ أعمى. تهاوت أركان الدولة، وتداخلت الأصوات بين هتافات الغضب وصيحات الاستغاثة. سقط عدد كبير من الناس قتلى، الأبرياء قبل المذنبين، والضحايا قبل الجلادين. أُعلنت حالة الطوارئ، لكنها جاءت متأخرة جدًا.
مع سقوط الضحايا، سقطت الأقنعة التي لطالما ارتداها الجميع. سقط وهم "المتدين القوي" الذي لم يبق منه سوى التعصب، وسقط وهم "الليبرالي المتحرر" الذي تحول إلى فوضى، وسقط وهم "الرئيس الملهم" الذي قاد الجميع إلى الهلاك. عمّ الخراب في كل مكان، البنايات المدمرة، الأحلام المحطمة، والأرواح المهشمة.
لم يعد هناك صوت يعلو فوق صوت البنادق، ولا قرار يُتخذ إلا بتهديد السلاح. تحول المجتمع، الذي كان يومًا يتصارع على الأوهام، إلى كومة من الركام تسيطر عليها القوة الغاشمة. خُرست جميع الأصوات، وأصبح الجميع ضحية للقمع، فلم يعد صوت يعلو على صوت الدبابة التي تجوب الشوارع، تُعلن نهاية الوهم وبداية عهد جديد من الظلام.
نظر إبليس إلى هذا المشهد، ضحكته هذه المرة لم تكن صرير جمر، بل دويٌ جهنميٌّ يُزلزل الأرجاء. لقد أثبت للعلي الأعلى ما أراد إثباته: هؤلاء البشر ليسوا بحاجة إلى جحيم يُعذبهم، لأنهم قادرون على خلق جحيمهم الخاص، والوقوع فيه بأيديهم. لقد أصبحوا حقًا مسوخًا مضحكة، يرقصون على أنقاض ما بنوا، في خدمة أهداف لم يدركوها قط.
نهاية الوهم: عرش إبليس والمسوخ
وبعد أن خمدت أصوات المدافع، وسكن غبار الخراب، وسادت سكون المقابر على الأطلال، جلس إبليس على عرشه العتيق، الذي يتلألأ ببريق الشر المنتصر. لم يكن عرشًا ماديًا بقدر ما كان تجسيدًا لوهمه، لسلطته المطلقة على النفوس التي أضلها. كانت ابتسامة النصر تعلو وجهه، تتسع لتكشف عن أنياب حادة، بينما نمت أظافره لتصبح مخالب طويلة، تُشير ببطء، وكأنها تلوّح بانتهاء العرض.
شاهد إبليس "رعاياه" الجدد يعبرون من أمامه، في مسيرة مهينة. لم يعودوا رجال دين، ولا صحفيين، ولا سياسيين. لقد تحولوا إلى ما خطط له تمامًا: مسوخًا مضحكة.
مر أحمد، الذي كان يومًا يظن نفسه حاميًا للدين، مطأطئ الرأس، لا يرى أمامه سوى قدميه. لقد أصبح مجرد خادمٍ أعمى، يتبع الأوامر دون تفكير، يُحرّك الآخرين نحو التعصب دون أن يدرك أن النار التي أشعلها التهمت روحه أولاً.
تلاه نور، الصحفي الذي كان يدعي الليبرالية ويدافع عن العدالة. كان يمشي ببطء، خطواته متثاقلة، وقد ذبلت عيناه اللتان كانتا تلمعان بالحماس. لقد خسر كل شيء: مبادئه، شرفه، وحتى قدرته على تمييز الحق من الباطل. لم يعد يكتب سوى ما يُملى عليه، وأصبح بوقًا أجوفًا لأهداف سيده الجديد.
وأخيرًا، مر كريم، الرئيس الملهم الذي وعد الجميع بالخلاص. لقد فقد كاريزمته تمامًا، وتحول إلى ظل باهت لقوته السابقة. كان ينظر حوله في ذهول، لا يصدق أن طريقته في "الحفاظ على الأمن القومي" قد قادته هو ومن معه إلى هذا المصير. لقد أصبح أداة للقمع الذي زرعه بيديه.
مروا جميعًا، كل واحد من "دكانه" الخاص، من الوهم الذي ابتكره إبليس ليلتهم أرواحهم. كانوا يعتقدون أنهم قادة، أو مثقفون، أو حماة، لكنهم في النهاية أصبحوا مجرد بيادق في لعبة شيطانية، خدمًا بلا إرادة، ضحايا لحروب لم يفهموا أسبابها الحقيقية.
أشار إبليس بإصبعه الطويل نحوهم، إشارة صامتة بالنصر، وكأنه يقول: "هؤلاء هم البشر. لا يحتاجون إلى جحيمي. لقد صنعوا جحيمهم بأنفسهم."



#حنان_محمد_السعيد (هاشتاغ)       Hanan_Hikal#          



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القفص اللامرئي
- مشروع ما بعد الانسان: تعديل الجينات وزرع الغرسات الالكترونية
- حال المرأة في اليوم العالمي للمرأة
- كيف تحمين نفسك في وسط مجتمع يفتقر للشهامة؟
- الهستريا وبضع الفص .. أساليب قديمة ووسائل حديثة
- حيل الشخصية النرجسية للتهرب من المسؤولية
- إنهم يمتنون عليك بالأخذ
- بين مفهوم الستر ومفهوم التستر
- شنق الضحية وسياسة لوم الطرف الأضعف
- تحوّل من جاني إلى ضحية في ثلاث خطوات بتقنية DARVO
- القيم -المهزوزة-
- حلاق النزاهة ولانجيري الشفافية
- هل أنتِ ضحية للتلاعب العقلي Gaslighting؟
- مدرسة المخابرات الألمانية في التجسس على الشعوب
- البحث عن الرجولة المفقودة
- بيجاسوس وأخواته
- صائد الأرواح
- المحرمات في زومبيستان
- التطور الغير طبيعي للجان الإلكترونية
- بين شرع .. وقانون .. ضاعت حقوقها


المزيد.....




- براد بيت اختبر شعورا جديدا خلال تصويره فيلم -F1-
- السويد.. هجوم جديد بطائرة مسيرة يستهدف الممثلية التجارية الر ...
- -البحث عن جلادي الأسد-.. فيلم استقصائي يتحول إلى دليل إدانة ...
- تقرير رويترز 2025: الجمهور يفضل الفيديو والصحافة البشرية وهك ...
- هكذا تصوّرت السينما نهاية العالم.. 7 أفلام تناولت الحرب النو ...
- بعد أسابيع من طرح الفيلم ونجاحه.. وفاة نجم -ليلو وستيتش- عن ...
- ابتكار ثوري.. طلاء -يعرق- ليُبرّد المباني!
- كيف يساهم تعليم العربية بكوريا الجنوبية في جسر الفجوة الثقاف ...
- بالتزامن مع تصوير فيلم -مازيراتي: الإخوة-.. البابا لاوُن الر ...
- -الدوما- الروسي بصدد تبني قانون يحظر الأفلام المتعارضة مع ال ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حنان محمد السعيد - دكاكين ابليس