|
|
دور الوعي العام في نبذ العنف من المجتمع
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 22:44
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"الاستبداد لا ينبغي أن يقاوم بالعنف" عبد الرحمن الكواكبي.
الملخص يهدف البحث إلى إبراز دور الوعي العام في وضع حد لسيطرة العنف داخل مجتمعاتنا، وبصورة خاصة دور ما نسميه "النخبة الوطنية" في إعادة تكوين وعي عام رافض للعنف على نحو مبدئي. ويخلص إلى أن العلاقة بين سيادة ممارسة العنف في المجتمع، وبين سيادة نظرة في الوعي العام تعطي العنف قيمة عليا ليس فقط بوصفه السبيل الوحيد للخلاص، بل بوصفه وسيلة للانتقام والثأر وإظهار التفوق، هي علاقة تغذية متبادلة من شأنها تأبيد سيطرة العنف في المجتمع، وأن كسر هذه العلاقة يبدأ من نبذ العنف في الوعي العام وتقييد العنفيين بدلاً من احتضانهم وجعلهم أصحاب القرار. لا بد من جعل أهل العنف محكومين للسياسيين لا حاكمين بذاتهم، فلا يتسق مع المنطق أن ننتظر من العنفيين، مهما كانت ميولهم السياسية والفكرية، أن يعملوا على نبذ العنف من المجتمع، فالعنف هو بيئتهم الحيوية، كما هي الماء بيئة السمك. يعتمد البحث المنهج التحليلي النقدي، وينشغل بسؤال أساسي هو كيف يمكن تحرير المجتمع من سيطرة العنف السياسي، من أين البدء وما دور النخب الوطنية فيه؟
أولاً. مقدمة المشكلة المزمنة التي نتناولها هي تحكم العنف في إدارة بلداننا وشؤون حياتنا العامة، وهذه المشكلة لا تكمن فقط في الضرر الذي يلحقه العنف ذاته بالأرواح والثروة، بل أيضاً والأهم في أن استخدام العنف يخلق ويديم أسباب استخدامه، فيبدو كما لو أن حلقة العنف المتكررة قدر محتوم علينا. من الملاحظ أنه في البلدان الديموقراطية، وبسبب العلاقة المنفتحة بين السلطة والمجتمع، تكون الصراعات مرئية وأكثر بروزاً ولكنها أقل عنفاً منها في البلدان غير الديموقراطية. في البلدان الأخيرة تنظر السلطة السياسية إلى ذاتها على أنها تجسيد للصواب، وتُنسب بالتالي كل حركة احتجاج إلى الضلال أو إلى دوافع "مشبوهة"، وهكذا يجري تسويغ إخمادها بمختلف أشكال العنف. ما يستوقف في الدول الديموقراطية هو عدم تطور الصراعات فيها إلى عنف مفتوح، حتى لو غابت التسوية بين طرفي الصراع، وفشل الاحتجاج في تحقيق المطالب التي خرج من أجلها عبر أشكال التعبير والضغط المعروفة. ما يبين أن أطراف الصراع في هذه البلدان تدخل الصراع بذهنية سياسية، أي إنها تستبعد العنف وتستخدم الوسائل المتاحة للضغط على الحكومات وللتأثير في الوعي العام من أجل كسبه لصالح المطالب. في هذه الأنظمة يكون الرهان على كسب الرأي العام هو الرهان الأول من قبل جميع الأطراف. وعلى اعتبار أن الوعي العام في هذه البلدان غير متقبل للعنف، وهذا تطور أساسي لم نبلغه في مجتمعاتنا بعد، فإن هذا يفرض على الأطراف المتصارعة الالتزام تحت طائلة الرفض العام. وبذلك تبقى القنوات السالكة في العلاقة بين السلطات والجمهور قادرة على استيعاب التوترات الدائمة فلا تصل إلى الانفجار العنيف. من الخطأ الاعتقاد أن عدم تقبل العنف في الوعي العام في البلدان الديموقراطية ينبع من طابع ثقافي معين، إنه بالأحرى ينبع من توفر سبل غير عنيفة لبلوغ الأهداف أو تحقيق المطالب. من الملحوظ أنه حتى في الدول الديموقراطية، يغزو العنف الاحتجاجات الشعبية أكثر، كلما تعاملت السلطات مع الاحتجاجات السلمية بتجاهل وإهمال أكثر. وتبرز، على نحو متزايد، قناعة تقول إن الحكومات الديموقراطية لا تهتم بمطالب المحتجين ما لم يتخلل الاحتجاجات أعمال تخريب وتكسير. غياب القنوات السالكة بين السلطة والمجتمع، كما هو الحال في الأنظمة السياسية العربية، يساهم في تعزيز الميول والمقدمات التي لا تبرر العنف في الوعي العام فقط بل وتدعو إلى الإعلاء من شأنه، باعتباره السبيل الوحيد للتغيير، الأمر الذي يشل فاعلية الرأي والفكر والسياسة. من الطبيعي أن التأثير متبادل بين شكل الحكم السياسي المفروض، وطبيعة الثقافة العامة في المجتمع. حين تغيب الآليات السلمية لحل الصراعات، ومن ضمن ذلك وعي أطراف الصراع للأرضية المشتركة بينهم، ولحدود الصراعات والتزامها بها، لا يمكن تصور حل الصراعات السياسية وصراع المصالح، بغير العنف. من المفهوم، في هذه الحال، أن يسود العنف والمبدأ الإقصائي وحتى الإبادي، وأن يسيطر الطرف الأعنف والأكثر قدرة، ومن المفهوم أن يصبح الوعي السياسي عاملاً ثانوياً وتابعاً يصوغه ويتلاعب به "المنتصر" حسب ما يجد مصلحة له. وهكذا لا يكون العنف وسيلة حكم فقط، بل يكون أحد أهم العناصر المساهمة في تشكيل، قل في تشويه، الوعي العام والأخلاق العامة أيضاً. سيطرة العنف في حل الصراعات لا تؤدي إلى التخريب فقط، بل أيضاً تجعل الصراعات عدمية لا ينتج عنها تطوراً تراكمياً يفيد المجتمع، ويجعل كل تقدم تحققه سلطة العنف، عرضة للانهيار في جولات عنف قادمة بلا ريب. والأهم أن السلطة التي تنتج عن الصراعات العنيفة تكون سلطة قمع عنيف أيضاً. يبقى السؤال هو كيف يمكن أن تتوضع إذن الآليات السلمية للحكم، فلا يُكبت الصراع بالعنف ولا يتحول الصراع حين ينفجر، إلى مدخل لتعميم العنف؟ ثانياً. حين يكون العنف هو السياسة التغذية المتبادلة بين سيادة العنف والقوة العسكرية من أجل السيطرة في المجتمع، وبين سيادة الوعي العام المتقبل للعنف وللقوة، تسوغ السؤال عن نقطة التحول التي تجعل الثقافة العامة رافضة بالفعل أن يكون العنف سبيلاً إلى الشرعية العامة، التحول الذي يجعل الوعي العام سداً فاعلاً في منع تطور الصراعات إلى العنف، ومنع اعتبار الأقوى عسكرياً هو صاحب الحق في إدارة وتقرير الشأن العام. هنا يبرز السؤال: كيف تتحول الثقافة العامة إلى حاجز في وجه استخدام العنف لحسم الصراعات العامة؟ بكلام آخر، كيف ينتصر الوعي العام لنفسه بأن لا يكون تابعاً للأقوى وللأعنف، فيسود أصحاب الوعي على أصحاب السلاح؟ المعضلة هي أن خروج الناس ضد القمع والعنف المزمن من طرف الطغم الحاكمة، كما حدث في الثورات العربية الأخيرة، ليس له إلا أن يأخذ أحد خيارين، أن يخمد أو أن يتحول، بتأثير العنف المفرط للسلطات، إلى صراع عنيف. وكان من شأن هذا أن كرس في الثقافة العامة تقدير العنف "الثوري" بوصفه الوسيلة الوحيدة لصد العنف "الرسمي". هكذا، مع احتدام الصراع، لا يغدو العنف مقبولاً فقط بل يغدو مهماً وله تقدير واسع كما لدى أنصار السلطات القمعية كذلك لدى مناهضيها، ويصبح العنيف سيداً على السياسي، على اعتبار أنه من يحمي ويدافع ويضحي وينتصر. في سوريا مثلاً، قادت هذه الآلية، على ضفة نظام الأسد بعد 2011، إلى إعطاء قيمة وشعبية للزعران والشبيحة الذين كان الناس يخافونهم ويحتقرونهم من قبل، ثم تحولوا بعد ذلك في نظر هؤلاء الناس أنفسهم إلى أبطال وحماة، وبات لعنفهم ولاستعدادهم الإجرامي وظيفة مفيدة لمواجهة "المحتجين" الذين يهددون النظام الذي يخشون زواله . الآلية نفسها أنتجت ظاهرة رفع البوط العسكري إلى مصاف عليا لدى جمهور نظام الأسد، التقدير الذي ظل أصحابه يكذبون على الناس أو على أنفسهم بأنه دعم ومناصرة للمؤسسات العمومية وتقدير للجيش الوطني، وهو في العمق تواطؤ أو انسياق عفوي مع نزوع غير وطني يساند التسلط ويجافي العدالة، ويجد أساسه في الميل العام المحافظ أو في عصبية طائفية تتوتر بين الخوف والسيطرة. وفي الوقت نفسه، كان من شأن التحول العنيف في الصراع أن همّش السياسيين المعارضين وجعلهم تابعين لقادة الفصائل العسكرية في الجهة المقابلة لنظام الأسد. وكان لافتاً كيف تلاشت المؤسسات السياسية للمعارضة مع تلاشي نظام الأسد، وكيف أكملت الفصائل العسكرية المواجهة لقوات الأسد، ما بدأته من تولي السياسة بنفسها، فيكون العسكري هو السياسي نفسه، أي تكون الفصائل العسكرية مصدراً للعنف وصانعة للسياسة في آن. في هذا استمرار لتاريخ طويل من سيطرة الجيش على السياسة في بلداننا. دائماً كان السياسي القائد هو العسكري القائد نفسه وقد ارتدى بدلة رسمية، أو حتى دون أن يرتديها. من الحركات اللافتة لهؤلاء القادة أنهم في اللحظات العصيبة التي تمر بها أنظمتهم، كانوا يخلعون البدلة المدنية ويرتدون الزي العسكري، كنوع من التذكير بالمؤسسة التي قدموا منها، وكنوع من التذكير أيضاً بأن القوة جاهزة وأنها وحدها ما ينفع في الحكم. نذكر أن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين راح بعيداً في هذا المنحى حين كان يفرض على جميع الوزراء في الحكومة العراقية ارتداء الزي العسكري. في سوريا كان من أهم تحضيرات توريث الجمهورية، إدخال الوريث (الأسد الابن) في الجيش حتى لو كان ذا مهنة مدنية في الأصل. وفي مصر، قطع الجيش رئاسة الرئيس المدني المنتخب محمد مرسي، واستعاد منصب رئيس الجمهورية لصالح الجيش، كما كان الحال دائماً. وفي السودان كان الوعي المدني في أفضل حال، قياساً على بقية التجارب العربية الأخرى، وقد فرض نفسه على الجيش إلى حد لا بأس به، تضمن تشكيل حكومة مشتركة برئاسة مدنية، قبل أن ينفجر معسكر القوة هناك في مواجهة عنيفة بين الجيش وقوات الدعم السريع، وتندلع بينهما حرب داخلية دمرت كل تقدم مدني جرى تحقيقه منذ الإطاحة بحسن البشير في ربيع 2019. وشهدنا في سوريا أيضاً نسخة جديدة من تبعية السياسة للعنف بعد الثامن من كانون الأول/ديسمبر 2024. هنا لم يتول انقلابيون من الجيش السلطة، كما كان التقليد السائد، بل فصائل مسلحة، أنجزت، بالاستفادة من توافق دولي وإقليمي، ما يشبه الانقلاب في سرعته وتحولاته. وكما يبدل الجنرالات الانقلابيون لباسهم العسكري حين يصلون إلى المركز السياسي الأول في البلاد، كذلك، بعد تلاشي نظام الأسد في سوريا، دخل الفصائلي العنيف في البدلة الرسمية كي يختفي الفارق بين العنف والسياسة كما يختفي الفارق بين السلطة والدولة، وتصبح السياسة هي العنف والعنف هو السياسة. ثالثاً. من خضوع السياسة للعنف إلى خضوع العنف للسياسة يتوقف كسر حلقة العنف المتوالدة على بروز وعي فاعل يقيد استخدام العنف، أي يجعل العنف تابعاً وليس سيداً. والمدخل الأهم من أجل تجاوز سيادة العنف هو المدخل القانوني والأخلاقي الذي ينحاز إلى حقوق الإنسان الأساسية وإلى القيم الإنسانية العامة، ويجعل لهذه الحقوق والقيم وزناً مؤثراً في المجال السياسي. قد يبدو هذا القول رومانسياً، غير أنه فعال إذا ما ترافق بالالتزام والمبدئية، وتقوم فعاليته على حقيقة تقول إنه لا يمكن للعنيف وصاحب القوة أن يسيطر في أي مجتمع، ما لم يتحقق له درجة واسعة من القبول العام أو الرضوخ العام. وقد شهدنا دائماً أن صاحب القوة يحوز بسهولة على رضوخ عام وقبول عام في مجتمعاتنا لدى النخب الثقافية كما لدى الجمهور العام، وهذه مشكلة عميقة في مجتمعنا. فنحن نشهد اتساع ظاهرة النفاق وتبديل المواقف وفقاً لتبدل صاحب القوة، ما يعطي هذا الأخير الانطباع بأنه مقبول ومرحب به، الأمر الذي يجعله يطلق يده في قمع وإسكات الأصوات المحتجة والتي هي غالبا ما تكون قليلة وذات عمق إنساني ووطني، الأمر الذي يزيد في تغليب العنف على الوعي. الحقيقة أن التراخي الأخلاقي والحقوقي العام أمام العنف لا يقود إلى إدامته فحسب، بل وإلى نسف الدور التحرري للعنف، حين يمكن أن يكون له دوراً كهذا، فتضيع الفروق بين العنف الساعي إلى التحرر من الطغم التسلطية والعنف التسلطي نفسه. نقول ذلك رغم وجاهة التساؤل، هل يوجد عنف تحرري، إذا وضعنا جانباً مقاومة الاستعمار والتحرر منه؟ أو بكلام آخر، هل يمكن للعنف أن يؤسس لنظام سياسي تحرري يقوم على المساواة والعدالة؟ حين نقول العمل للوصول إلى رفض عام للعنف، فإننا نقصد النجاح في نبذ فكرة العنف بصورة عامة، ولاسيما العنف المنفلت الذي لا يحترم أي حقوق بما في ذلك الحق في الحياة. ونقصد نبذ العنف بوصفه وسيلة لحل النزاعات. يشمل ذلك العنف الهوياتي وعنف الميليشيات، وأيضاً عنف الدولة حين يتجاوز حدوده في حماية المجتمع، فتعريف الدولة لم يعد مقتصرًا، نظريًا ووفق مقتضيات الواقع وتطوراته، على حماية المجتمع عبر احتكار العنف الشرعي ، لأن وظائف أخرى باتت متوقعة من الدولة، وأهمها ما له صلة بالشرعية والمواطنة . ومهمة كهذه تقوم بها النخب الثقافية النزيهة في التزامها القيم الأخلاقية العامة والمبادئ الأساسية للعدالة، أكثر مما تقوم بها الأحزاب ذات المصالح السياسية التي قد تحرفها عن احترام العدالة والأخلاق العامة، وقد تصل بها إلى تأييد العنف ومناصرته. الرفض المبدئي للعنف بصرف النظر عن لونه السياسي أو غاياته المعلنة أو غير المعلنة، سابق في أهميته على أي تنظيم، الوعي العام الرافض للعنف هو الرهان الأول. رابعاً. وهم الرهان على العنفيين لا يمكن للعنف المتجرد عن الحق والأخلاق أن ينتزع العنف من المجتمع. وفي الوقت نفسه يصعب الرهان على العنفيين في احترام الحق والأخلاق، فالعنفيون في الغالب فئويون، ليس لأنهم ضيقو الأفق أكثر من غيرهم فحسب، بل لأن العنف يتغذى على العصبية، والمنبع الأسهل للعصبية داخل المجتمع هي الفئوية. من المفهوم إذن أن يحمل العنفيون انحيازاً مضاداً للحق وللأخلاق. لذلك فإن الأساس في نزع العنف من المجتمع هو أن يكون الوعي العام واحترام القيم العامة رقيباً على القوة وضابطاً لها، بدلاً من أن تكون القوة العسكرية صاحبة اليد العليا. ولا يتحقق ذلك بصورة مستدامة إلا باجتماع قوة حضور الوعي العام المضاد للعنف، مع وجود دولة قانون تفتح قنوات سالكة وفعالة بين الجمهور والسلطات، بحيث تسود قناعة عامة بأن سبل العدالة مفتوحة للجميع، وأنه يمكن للأفراد وللجماعات تحصيل حقوقهم بآليات سلمية ومتوفرة وكريمة. على هذا، لن يكسر العنفيون حلقة العنف المتوالدة، إنهم بالأحرى الأكثر مصلحة في إدامة هذه الحلقة. وهو ما يجعل العنفيين مضادين لدولة القانون التي من شأنها أن تحد من دورهم ومن تسلطهم. وهذا ما يجعلهم حلفاء طبيعيين لأصحاب المصلحة في نخر المعنى العمومي للدولة وتحويلها إلى بيئة فاسدة تناسب مصالحهم على حساب المصلحة الوطنية. ولكن من الصعب ولادة وعي عام ينبذ العنف دون بروز مركز عام (دولة) يغذي الوعي غير الفئوي ويتغذى عليه. يضعنا هذا أمام معادلة تشبه معادلة الأسبقية بين البيضة والدجاجة. كيف يولد مركز عام أو دولة عمومية بدون وعي عمومي تستند إليه، وكيف يولد وعي عمومي في وسط وعي فئوي سائد دون وجود دولة عمومية؟ يبدو لنا أن الجزء الأهم من مسؤولية تجاوز هذه الحلقة المغلقة يقع على عاتق المثقفين غير الفئويين، ما يمكن أن نسميه الفئة أو النخبة الوطنية التي لا تنجرف بعيداً عن القيم الوطنية والأخلاقية العامة بتأثير إغراءات القوة والعنف والتحيزات الفرعية. ليست مهمة هذه النخبة فقط أن تحافظ على وعي عمومي ينحاز بصورة جذرية إلى القيم الوطنية العامة ضد كل مظاهر الوعي الفئوي، بل أن تجعل هذا الوعي العمومي مؤثراً، في أن تؤسس نواة للوعي الوطني أو للعمومية، تمارس فاعليتها من خلال عمل نشيط وفق الأشكال المتاحة في النشر والتعبئة والنقد، الأمر الذي يمكن أن ينتج تياراً اجتماعياً مضاداً للعنف بصورة عامة وللعنف الفئوي بصورة خاصة، ويمكن أن يندرج عنف الدولة نفسها في العنف الفئوي، ذلك أن عصب الدولة في بلداننا تغلب عليه الفئوية غير الوطنية. يبدو لنا أن الأولوية في كسر وتجاوز حلقة العنف الفئوي المتوالدة هي للوعي، وهو ما يطرح تحدياً صعباً، إذ كيف يمكن للوعي أن يقف في وجه القوة وأن يتفوق عليها ويسخرها لخدمة الصالح العام؟ الطاقة التي تخدم فاعلية الوعي الوطني العام بوصفه سلاحاً ضد العنف في هذه البلدان، مستمدة ليس فقط من انسجامه مع العقلانية والصالح العام الذي يمزقه الوعي والعنف الفئويين، بل أيضاً من انسجامه مع الأخلاق العامة التي يجري تهميشها لصالح "أخلاق" فئوية تحيل أبناء البلد إلى أعداء فيما بينهم. وهكذا يسود لدى كل طرف "أخلاق" تنزع الصفة الإنسانية عن الخصم تمهيداً للاستخفاف بكرامة أبنائه وأرزاقهم وأرواحهم أيضاً، وتغلق على نفسها باباً من أنانية مدمرة. لا يمكن أن يبني الوعي المضاد للعنف نفسه إلا على أرضية الصالح العام والأخلاق العامة. ولكن ما يحدث في الصراعات العنيفة، هو أن كل طرف من الأطراف المتصارعة يرى في سلوكه، مهما كان فئوياً وأنانياً وإجرامياً، خدمة للصالح العام وانتصاراً للأخلاق العامة، فيعزل الآخرين كي يرميهم في خانة مضادة للصالح العام. واللافت أن كل طرف يكون على قناعة تامة بما يقول، أي إن الأمور تبدو له بالفعل كذلك، ولا يستطيع نقد ذاته أو رؤية المشهد العام للصراع بعين منصفة. وتكون قدرته شبه معدومة على سماع ما يعاكس قناعته، إلى حد الاستعداد لاستخدام السلاح الذي يجيده ضد منتقديه، وهو العنف المعنوي أو المادي. خامساً. كيف تسود الثقافة العنفية في الصراعات العسكرية الداخلية، ولاسيما الصراعات التي يطول أمدها، تزدهر الثقافة "العنفية" على ضفتي الصراع، ومضمونها هو تمجيد العنف، مهما بلغت وحشيته، بوصفه وسيلة للتفوق ولاستئصال العنف الوحشي المقابل . يترافق ذلك بصورة أكيدة مع انكماش أخلاقي ضمن الثقافة العامة يصل إلى حدود التساهل مع ممارسات فظيعة بل إبادية. على هذا تنشأ "لعبة المرايا"، حسب تسميه تقترحها سلوى إسماعيل، في كتابها عن الحكم العنيف في سوريا، حيث يتحول الضحايا إلى مجرمين والعكس، في تبادلية أدوار تجعل من الصعب على المراقبين تحديد هوية القتلة بيقين. تقول إسماعيل فيما يخص الصراع في سوريا، "وصف المجازر المنسوبة إلى قوات الأمن والجيش والميليشيات المناصرة للنظام أو إلى المعارضة المسلحة (بشكل أساسي الفصائل الإسلامية) يظهر تشابهات وملامح مشتركة ... التشابه في الممارسات وطرق القتل لا تنبع فقط من رغبة في الانتقام وإلحاق الأذى بالآخر بقدر مكافئ، بل ثمة أهمية قصوى لطريقة التنفيذ ولإخراج الفعل" . ليس من شأن هذا فقط أن ينزع من الصراع معناه السياسي والحقوقي والأخلاقي، ويجعل المجال العام محلاً لعنف متبادل معناه الوحيد هو الصراع على السلطة، بل من شأنه أيضاً أن يزكي العنف ويعزز حضوره في الوعي العام ويعطيه قيمة بوصفه عنفاً محضاً مستقلاً عن الأغراض السياسية. وقد شهدنا بعد سقوط نظام الأسد مفاعيل هذا الوعي العنفي خلال المجازر التي شهدها الساحل السوري، رغم أن الضحايا كانوا في غالبيتهم متقبلين ومرحبين بقوات العهد الجديد. وشهدنا كيف أن من يشغل مواقع رسمية في الدولة كان متساهلاً مع هذا العنف المحض الذي لا تستدعيه أي عوامل أمنية محيطة، بل تغذيه ميول عنفية ثأرية يتمتع أصحابها في تحقيقها، في غياب كامل لأي مقاومة. وقد أنتج هذا "مجازر تامة"، فيها جناة تامون وضحايا تامون، أي ليس فيها جريح واحد بين الجناة (غياب المقاومة) ولا جريح واحد بين الضحايا (التمكن الكامل). لا يعدو هذا أن يكون صورة في المرآة لمجازر سبق أن ارتكبها نظام الأسد ومحيطه الإجرامي العنيف بحق مدنيين عزل يشغلون في المخيلة الأسدية موقع العدو. أمام الخوف من انفلات العنف، يصبح الوعي العام أكثر ميلاً للأخذ بالقول الشائع "حاكم ظلوم خير من فتنة تدوم". وتصبح مشروعية الحاكم مستمدة من أنه يضبط المجتمع ويمنع انفلات العنف وإن كان يقوم بذلك بأساليب عنيفة ويتجاوز على حقوق الناس الأساسية. في استطلاع رأي نفذه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع المركز العربي لدراسات سورية المعاصرة، نشر في 31 من آب/أغسطس الماضي، أفاد 56% من المستطلعين أن الأمور في سوريا تسير في الاتجاه الصحيح، رغم أن العنف هو السمة الأبرز منذ استلام الإدارة الجديدة. لا يوجد في الثقافة العامة موقف مبدئي مضاد للعنف، ولا يوجد فيها ما يمنع أن يكون صاحب العنف قائداً وزعيماً. جزء من عمل هذا الصنف من الزعماء هو استخدام البطش الدموي الفظيع بحق الناس لدى الشعور بأي تهديد، بطريقة تشحن الذاكرة القريبة بالخوف واليأس ما يجعل الناس يقعدون عن الاحتجاج. وهو الهدف النهائي للعنف السلطوي. العنف إذن ليس فقط ممارسة مادية تهدف إلى تحطيم قدرات الخصم دون احترام لأي من القيم الأخلاقية والإنسانية، بل هو، في الوقت ذاته، صياغة للوعي والمشاعر بطريقة تولد الطاعة والاستكانة في المحكومين. غير أن هذا الوعي وهذه الذاكرة والمشاعر نفسها التي تدعو إلى الخضوع والطاعة، هي نفسها التي تتحول إلى وقود لعنف مضاد حين ينفجر الصراع في لحظة ما، وحين تسمح الظروف للضحية بممارسة دور الجلاد، في لعبة مرايا تغلق الطريق على بناء سياسي لا يقوم على العنف، وتعيد فتح الباب أمام بناء "حكم العنف". الحلقة الثابتة التي تحتاج إلى تفكيك هي أن الثقافة العنفية المكرسة في مجتمعاتنا، والتي تغذي العنف في كل دورة صراع، قابلة، إذا ما حسم الصراع، للتحول إلى ثقافة قبول بالمنتصر وخضوع له، إنها ثقافة تنطوي على بذرة العبودية للقوي. سادساً. فكرة السيطرة بوصفها مولد أساسي للعنف في سوريا تزدهر فكرة السيطرة الفئوية في المجتمعات ذات التنوع الديني أو القومي أو العرقي، حين يفشل المجتمع في تأسيس نظام سياسي يقوم على قدر معقول من التشارك والعدل، وهو ما لا يمكن لحكم ديني أن يحققه في مجتمع متعدد الأديان، كما هو الحال في سوريا بعد سيطرة الإسلاميين على الحكم. فالحكم الديني هو بالضرورة حكم سيطرة فئوية، ذلك أن الدين التوحيدي يحوز على ثقة مطلقة بتفوقه الديني والأخلاقي، ولذلك فإنه لا يستبعد العنف المادي ولا المعنوي من علاقاته مع الأديان الأخرى. وينزع نموذج الحكم الديني التوحيدي "إما إلى الدمج القسري للعناصر التي لا تعترف بالعقيدة الرسمية وإما إلى لفظها خارج حدود المجتمع السياسية" . على أن الحكم الفئوي الطائفي لا يقتصر على الحكم الديني، فقد يتخذ لباساً غير فئوي يخلط بين العلمانية والمرجعية الدينية ويستند في الوقت نفسه على عصبية فئوية طائفية. وحين يكون الحكم فئوياً، أي يقوم على التمييز الداخلي لصالح فئة ويستند إلى عصبية هذه الفئة في حماية الحكم الذي يعطي هذه الفئة الشعور بالسيطرة، فإن بقية الفئات سوف تشعر بالظلم وتحلم بالسيطرة أكثر من حلمها بالعدل. في المخيلة سوف يتحرك الصراع على السلطة بغاية محفزة هي كسب السيطرة وإخضاع الآخرين، ما يحرم الحق والعدالة والمساواة من الطاقة المؤثرة. الكلام عن السيطرة هنا لا يعني ما هو سائد في الأدب السياسي، ولاسيما الماركسي منه، من سيطرة طبقة ما على المجتمع من خلال حماية القوانين المصاغة بما يخدم مصالح هذه الطبقة واستمرار سيطرتها، بل يعني بالأحرى تجاوز القوانين الموضوعة والالتفاف عليها أو دوسها حين تقف في وجه أصحاب القوة. حكم العنف والقوة الذي نتحدث عنه هو الحكم الذي لا يعترف بالقانون حتى لو كان أهل الحكم هم أنفسهم من وضع القانون. الفارق كبير بين أقوياء يحكمون من خلال سن وإنفاذ القوانين التي تناسبهم، وأقوياء يحكمون وفق مشيئتهم من خلال تهميش القانون وتجاوزه. هؤلاء يقللون من قيمة القوانين ويجعلون السلطة وحيازة القوة هما محور الصراع، أما الأولون فإنهم يكرسون في المجتمع فكرة القانون، ويجعلون الصراع في المجتمع يدور حول صياغة القوانين، ما يعطي للقانون معنى وقيمة مهمة في الوعي العام. هذا الفارق هو ما يولد القصص الطريفة التي تبرز حين يتناول الناشطون الحقوقيون الغربيون مشاكل الحكم في مجتمعاتنا، مثل دأب منظمات حقوق الإنسان على المطالبة بمحاكمة المعتقلين السياسيين، ظنا منها أن هناك محاكم مستقلة ونزيهة سوف تنصفهم، فيستجيب الحاكم بأن يجعل محاكمة المعتقل عقوبة إضافية له. ذلك أنه لا شيء عندنا يلزم الحاكم مثلاً بالإفراج عن المعتقل عند انتهاء مدة الحكم التي تكون عادة وفق مشيئة الحاكم نفسه، ولا يكون من شأن المحكمة إلا أن تسيء للمعتقل بما تتضمنه من تبعات مثل التجريد من الحقوق المدنية والفصل من العمل ... الخ. المبدأ العام هو إنه حيث تحكم القوة من العبث البحث عن حماية القانون. من أهم عناصر نبذ العنف في المجتمع هو تنظيف الوعي العام من فكرة السيطرة بالقوة والتغلب، ولاسيما حين تتخلل المجتمع انقسامات هوياتية قسرية (أديان، أعراق، قوميات ...)، كي تكف الدولة عن كونها وسيلة للتمييز ولتعزيز عصبيات فئوية تختبئ في ثنايا الدولة وتنسف عموميتها. من شأن هذا أن يُغرّب المحكومين عن الدولة ويحطم فكرة الدولة في أذهانهم، ومن شأنه أيضاً أن يبث في المجتمع مشاعر رفض فئوية الطابع تشكل مخزوناً معنوياً هائلاً للعنف، ويقيد السياسة إلى صراعات فئوية لا تنتج سوى المزيد من التفكك، وتجعل المجتمع جاهزا للانفجار العنيف على الدوام. هناك ترابط وثيق بين سيادة الحكم بالعنف وبين سيادة مبدأ السيطرة الفئوية، ذلك أن عدم قيام الحكم على أرضية من قبول عام مستند إلى مؤسسات، كما هو الحال في بلداننا، يجعل الركيزة الأساسية للنظام هي ركيزة أمنية، ويدفع الحاكم للبحث عن ركيزة صلبة لحكمه فلا يجدها إلا في تحفيز واستغلال عصبيات فئوية تقسيمية. يكون ذلك عبر ممارسات تمييزية داخل أو عبر جهاز الدولة، وعبر تفعيل خطوط الانقسام الهوياتي في المجتمع. حاجة الحاكم بالعنف إلى العصبية الفئوية هي حاجة أمنية بالدرجة الأولى وفي الأساس. الغرض هو ضمان ولاء أجهزة العنف في الدولة، فبعد كل شيء، يبقى استمرار الحكم الذي لا يحوز على شرعية سياسية مؤسساتية، مرهون بقدرته على فرض نفسه بالقوة، فتكون فترة هذا النوع من الحكم، مهما طالت، مشغولة أساساً بمعالجة درجات الرفض المختلفة عبر القمع المستمر، أي فترة حرب أهلية مستمرة بشدة منخفضة أو عالية، حرب تتدرج من التخويف والترهيب بالاستدعاءات الأمنية والاعتقالات ومحاربة الناس بلقمة العيش، وصولاً إلى المجازر.
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دور الوعي في نبذ العنف من المجتمع 2
-
التناقض بين الدين والإيمان
-
عن الفكرة الانتصارية المنتشرة في سوريا
-
المجزرة ترضي الجمهور
-
سوريا، شعب طيب ومسؤولون أشرار
-
عيد الشارع
-
الاستباحة تغطي صراعاً في سوريا
-
حدث سياسي فاصل وانعكاسات نفسية متحركة
-
رفع العقوبات و-الممانعة- الجديدة في سوريا
-
التصورات الطائفية تدمر الدولة السورية
-
لماذا يتراجع الوطنيون السوريون؟
-
نجاة سوريا في التضامن الأهلي
-
سوريا، أوقات مسحورة ولكنها واقعية
-
مسؤوليتنا في أحداث الساحل السوري
-
إدمان على الاستبداد
-
الحقيقة ليست مزاراً، عن جدوى النقاش
-
سورية ملونة وليست ألواناً
-
الخطر الجاري الذي يهدد مستقبل سوريا
-
درس علوي في سورية يجدر تأمله
-
مخاطر الانتقال إلى سوريا جديدة
المزيد.....
-
حصريا لـCNN: بريطانيا تعلق التعاون الاستخباراتي مع أمريكا بش
...
-
مستوطنون إسرائيليون يشعلون حريقا في بلدة بالضفة الغربية مع ت
...
-
الحزب الشعبي الإسباني يعقد أول اجتماع له في مليلية ويقول إنه
...
-
إسبانيا: مطالب بمساءلة الحكومة حول -مركزي احتجاز مهاجرين- في
...
-
دراسة مموّلة من ألمانيا: الجيش الموريتاني -شديد التسييس- ودو
...
-
الشرع في واشنطن.. الغولف بعد السلة؟
-
الجيش الإسرائيلي يعتقل مستوطنين بعد هجمات واسعة على قرى فلسط
...
-
رئيس كولومبيا: أمرت أجهزة استخبارات إنفاذ القانون بتعليق جمي
...
-
حقوقيو تونس يطلقون -صرخة فزع- بعد تعليق نشاط 17 منظمة
-
إيران تفكك شبكة تجسس مرتبطة بالولايات المتحدة وإسرائيل
المزيد.....
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
المزيد.....
|