أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - راتب شعبو - إدمان على الاستبداد














المزيد.....

إدمان على الاستبداد


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 8277 - 2025 / 3 / 10 - 16:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


استغرق الأمر أكثر من عقد من حكم حافظ الأسد، حتى دخلت إلى اللغة الموالية في سوريا عبارة "سيد الوطن". اجترح هذه العبارة في أواسط ثمانينات القرن الماضي، رجل يعرّف نفسه بأنه شاعر حلبي، وكان يشغل مقعداً في مجلس الشعب ويكني نفسه "أبو الطيب" إعجاباً بالشاعر المعروف. لم يجد النائب، ولا من نوَّبه، ضيراً في هذه العبارة التي بدت وكأنها اكتشاف يرقى باللغة إلى مستوى "القائد" الذي قلما يجود الزمن بمثله. راحت العبارة بعد ذلك تتردد في الكتابات وعلى الألسنة، إلى جانب العبارات الأخرى التي لا تكف قريحة الموالين عن ابتكارها (كلمة موالي في سوريا ليست، في أساسها، سوى تعبير سياسي رقيق لتغطية حالات شعورية ونفسية متعددة يولدها القمع السياسي المعمم في عموم الناس وخصوصهم، مثل النفاق والاستلاب والصغار والمازوخية ... الخ)، مثل "الرئيس المفدى" و"الأب القائد" و"القائد الملهم" ... الخ. وقد بلغ الأمر باللغة الموالية أن وضعت صحيفة البعث، بعد آخر "بيعة" لحافظ الأسد، صورة ملونة له تشغل نصف الصفحة الأولى، تعلوها كلمة واحدة بخط أحمر عريض: "العظيم". هكذا، مع طول أمد الحكم الذي يسحق المجتمع، تتطور لغة موالية مسحوقة تضع الزعيم فوق الوطن وفوق الناس وتنحو باتجاهات تأليهية بدأت تظهر أيضاً في هتافات مبتذلة مثل (يا الله انزل حلك، يقعد حافظ محلك) أو في أحاديث لا تقل تهافتاً، مثل الحديث الذي سمعه كاتب هذه السطور من أحد أعضاء مجلس الشعب في تسعينات القرن الماضي، فقد قال النائب الذي كان يحمل شهادة جامعية مرموقة، إنه حين سلم على الرئيس لدى استقباله أعضاء مجلس الشعب في دورة جديدة، لاحظ إن وجهه منور، ثم جعل النائب على وجهه ملامح خجل، واستدرك قائلاً "أعرف أن هذا غريب ومن حقكم أن لا تصدقوا، ولكن أقسم بالله إني رأيت على وجهه هالة من نور".
مات الشخص الذي اخترعت لأجله عبارة "سيد الوطن" ولكن العبارة لم تمت بانتظار "سيد" جديد. وحين ورث الابن رئاسة "الجمهورية" من أبيه، كانت اللغة الموالية قد اغتنت واكتنزت خلال العقود الثلاثة الماضية، وتنتظر الاستخدام. أراد الابن، الذي سبق له أن مكث في بريطانيا سنتين استخدمتا لوصفه بأنه صاحب ثقافة غربية، أن يرش شيئاً من البهارات الغربية على حكمه، فأمر بعدم رفع صوره أو لصقها أو تعليقها في كل مكان، كما كان الحال مع أبيه، وسمى مرحلته باسم "الإصلاح والتحديث"، قبل أن ينتبه إلى أن كلمة "الإصلاح" توحي أن ما سبقها كان فاسداً، فغيرها إلى "التطوير والتحديث". رغم ذلك، سرعان ما انتشرت مظاهر "الولاء" في اللغة كما في الصور. ولم يستغرق الأمر سوى شهور قليلة حتى صار الابن "رئيساً مفدى" و"سيداً للوطن". وبما أن اللغة كائن يتطور، بدأت اللغة الموالية تأخذ مع الابن منحى جديداً، عاطفياً هذه المرة، فلم تعد تكتفي بالتعبير عن العظمة والسيادة والإلهام القيادي ... الخ، بل دخلت في المشاعر، وفي الحب تحديداً. ولم تعد اللغة الفصحى كافية للتعبير عن "عفوية" المشاعر تجاه "القائد"، فدخلت اللغة المحكية بحرارتها على الخط وامتلأت الساحات والمفارق والحيطان والزوايا بصور الابن مع الكلمة إياها "منحبك".
ثم كان أن فر "المحبوب" بعد أن لم يسعفه الحب ولا الحرب، ووجدت اللغة الموالية نفسها يتيمة مهملة على الرف، وهي تحاول اليوم أن تستقر على "أب" جديد بمعونة "محبين" جدد ومخضرمين. مع طول أمد التسلط والقمع المعمم، يقتنع الناس أن يتركوا الأمر لأولي الأمر، ويتعود المجتمع ويتطبع مع الاستبداد وربما يتطلبه، بطريقة تغري أي سلطة جديدة مهما كانت، بملء، ليس فقط فراغ السلطة، بل أيضاً الفراغ الذي تركه الاستبداد السابق، وهو فراغ نفسي لدى الجمهور، يشبه الإدمان على المضار، أو يشبه الحاجة التي تتطلب التلبية. شيء يذكر بقصة الجني الذي وضعوه في قمقم فغضب وثار ووعد بمكافأة من يخرجه من القمقم، وبعد مضي زمن طويل عليه في القمقم، استكان وهدأ واعتاد وراح يهدد ويتوعد من يحاول إخراجه من القمقم. هكذا يتوافق ميل السلطة، أي سلطة، إلى التفرد والاستبداد مع إدمان الناس على الخضوع للسلطة وتعظيمها، لما في هذا من راحة التخلي عن ثقل الحرية ورمي المسؤولية على كتف "العظماء".
من نافل القول إنه لا يكفي سقوط نظام تسلطي مزمن كي يتحرر المجتمع، لا سبيل إلى ذلك إلا أن يتحرر التصور العام المتأصل عن السلطة من الاستلاب، وأن يتعلم الناس النظر إلى السلطة بندية، وأن يتذوقوا طعم هذه الندية، وإلا فإن المجتمع سوف يستأنف علاقة الاستلاب نفسها مع السلطة الجديدة، أكانت السلطة الجديدة وليدة انقلاب أو ثورة أو استعمار أو أي شكل من أشكال تغير السلطات.
الاستعداد المجتمعي النفسي لقبول التسلط والسيطرة، هو الظل الذي يتركه الاستبداد المديد في المجتمع ويظهر على شكل رهبة من السلطة وتعظيم لصاحب السلطة يصل إلى حدود مبتذلة. ليس من شغل السلطات إسقاط ظل الاستبداد، على العكس، هذا الظل يشكل لكل السلطات رأسمالاً ثميناً لا تريد له الزوال. إنه شغل القوى المجتمعية المستقلة عن السلطة، القوى التي تتولى صيانة حقوقها في وجه السلطات، كما أنه شغل المهتمين بالشأن العام، أو المثقفين العامين، في نشاطهم النقدي وفاعليتهم الثقافية التي من المفروض أن تعيد الحاكم إلى الأرض بوصفه أعلى "موظف" في الدولة، وليس بوصفه مصدراً للسلطة.
الفجوة التي تبتلع جهود التغيير في مجتمعاتنا تكمن في أن هذه الجهود تنصب ضد المستبدين بوصفهم التجسيد المباشر لشرور الاستبداد، أكثر مما تتوجه ضد الاستبداد بوصفه علاقة خضوع للسلطات. الخضوع مبني على تصور عام "يتعبد" للسلطة، ويبرر لها شرورها لأنها "تعلم ما لا تعلمون". على هذا ينوس الموقف من السلطة بين الكفر بها أو تمجيدها، ينطبق هذا على العموم والخصوص معاًُ، وكأن الموقف من السلطات عندنا يتحدد بآلية نفسية أكثر منها سياسية. والنتيجة هي أن الاستبداد يبقى سليماً ويواصل عمله في صناعة المستبدين.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحقيقة ليست مزاراً، عن جدوى النقاش
- سورية ملونة وليست ألواناً
- الخطر الجاري الذي يهدد مستقبل سوريا
- درس علوي في سورية يجدر تأمله
- مخاطر الانتقال إلى سوريا جديدة
- عن مظاهرات السوريين العلويين
- هل انتصرت الثورة في سوريا؟
- الموالون وتلاشي نظام الأسد
- عن سورية والتطورات الأخيرة
- نزوع الضحية إلى السيطرة
- انتصارات إسرائيل الخاسرة
- عن اللوثة الطائفية في سوريا
- التكيّف مع الاحتلال
- تحول حزب الله من المقاومة إلى الردع
- نحن والاحتجاجات في إسرائيل
- عن انقسام عقيم يلازم السوريين
- أفكار في النقاش السوري العام
- سأبقى أذكر ذلك المساء المختلف في السجن
- غزة، التنافر بين الحق وتمثيله
- دروس قاسية تنتظر الفرنسيين


المزيد.....




- رمسيس يرقص وتوت عنخ أمون في السماء…كيف احتفل المصريون قبيل ا ...
- الوداد والرجاء في المغرب: كيف بدت الأجواء في آخر ديربي بين غ ...
- لغة جسد ترامب وشي وسط معركة المعادن النادرة
- أحمد الشرع.. غضب من إعلاميين مصريين بعد مقارنته نجاح دول خلي ...
- سودانيون يروون قصصا مؤلمة عن الفظائع التي تعرضوا لها عقب سيط ...
- سرقة اللوفر: ما جديد التحقيقات في القضية؟
- إسرائيل تشن غارات على غزة وخان يونس رغم وقف إطلاق النار
- جامعة الأزهر تستأنف عملها لتصبح أول جامعة تبدأ التدريس في غز ...
- العلاقات الفرنسية الجزائرية : النواب يصادقون على مشروع قرار ...
- مجلس الأمن الدولي يدين هجوم قوات الدعم السريع السودانية على ...


المزيد.....

- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - راتب شعبو - إدمان على الاستبداد