راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 8038 - 2024 / 7 / 14 - 18:47
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
وعدت في مقالي السابق الذي ندمت فيه على السلوك تجاه مخبر في السجن، أن أتحدث عن سلوك ثان يحرض الندم أيضاً، وها أنا أفي بوعدي.
كانت العلاقة إشكالية دائماً بين اليسار واليمين في سجون "سورية الأسد". مصدر الإشكالية هو أنهما خصمان يجدان نفسيهما في موقع واحد، خصمان تجمعهما السجون ولا توحدهما. وهكذا فإن الصراع السياسي الممنوع عليهم في الخارج، يتحول إلى صراع شخصي في الداخل، أدواته مفردات الحياة اليومية المسحوقة تحت ثقل سلطات ثلاث: سلطة المكان المحصور الضيق، وسلطة الحاجة ونقص المواد والموارد، وسلطة الشرطة "الشمولية". يضاف إلى هذه السلطات، سلطة داخلية لا تقل أهمية، هي سلطة العداء المتوارث والمتبادل المتربع على عرش من ضيق الأفق ومن الرضى الذاتي الذي يُقعد المرء عن التفكير وعن التأمل سوى فيما يعزز رضاه عن نفسه، ويؤكد له صحة ما هو عليه.
أذكر أني قرأت في إحدى روايات دوستويفسكي قوله إنه حين يتوسع في الدفاع عن فكرة معينة فإنه يوشك أن يقتنع بنقيضها. لا يوجد أجمل من هذا العقل القلق المتسائل الباحث، غير أن مثل هذا القلق لا وجود له عند الحزبيين. الحزبي بالتعريف هو الشخص غير القلق، الشخص المطمئن إلى أفكاره، والذي لا يوجد ما يغيظه أكثر من معاشرة بشر لا يشاركونه هذه الأفكار، وكل همه هو جذب الناس إلى أن يصبحوا مثله. وفي كل حال، إذا افترضنا أن الشيطان تمكن أن يلعب بعقل حزبي ضعيف الحزبية، وراوده شيء من التساؤل حيال قناعاته، فإن جماعته سوف تتكفل برده إلى جادة الصواب، بالإقناع الودود السلمي الذي يخفي خلف ظهره سلاح النبذ والعزل والمقاطعة.
يوحي تعبير "جادة الصواب" بأن هناك صواب واحد له جادة واحدة، ولكن الحقيقة التي يمكن أن تغيب عن الذهن الكسول هي أن لكل جماعة "جادة صواب" خاصة بها. بكلام آخر، على القارئ أن لا يخلط بين جادة الصواب وبين "الصراط المستقيم"، فإذا كان هذا الأخير واحداً وله رب واحد يحدده، فإن جادة الصواب متعددة بتعدد الجماعات المتحزبة. هناك أرباب حزبيون كثر، وكل منها يحدد "جادة الصواب" الخاصة به. وإذا كانت الجادات في المدن هي جزء من شبكة طرق مفتوحة على بعضها البعض، فإن الجادات في التحزبات تشبه المستقيمات المتوازية التي يمكن أن تمتد إلى اللانهاية دون أن تلتقي، ودون أن تنفتح على بعضها البعض، على العكس، هذه الجادات يمكن أن تفرّخ جادات جديدة تتوازى مع الأخريات وتمضي إلى اللانهاية أيضاً دون أن تلتقي بغيرها، وتبتعد بشكل خاص عن الجادة الأم التي أنجبتها.
اليمين في سجون "سورية الأسد" هو كناية عن الإسلاميين أو إنه لا يفيض كثيراً عنهم، واليسار كناية عن الشيوعيين ولا يفيض كثيراً عنهم. حتى القوميين، أقصد الجناح اليساري من حزب البعث الذي بقي أميناً "للقيادة السابقة" التي بقيت في السجون، اتجهوا صوب الماركسية مقتربين من الشيوعيين. غير أن هؤلاء "الأخوة الأعداء"، من إسلاميين وشيوعيين، كانوا ملونين في اتجاهات سياسية وفكرية عدة، وكانوا ملونين بوصفهم أفراداً أيضاً. قد تجد هنا وهناك أفراداً يرغبون أو لا يمانعون في سماع ومناقشة كلام من يعتبرونهم خصوم أو حتى أعداء، ولكن غالبية الأفراد من الطرفين كانوا مطمئنين إلى قناعاتهم ويريحهم أن يحبسوا أفراد الطرف الآخر في دائرة مرفوضة يحرصون على حراسة أسوارها.
موقفنا الرافض لفكر الإسلاميين "الرجعي" ترجم في بداية السجن إلى رفض الشراكة معهم، وكان هذا يشمل الطعام. فكنا نقتسم ما يصلنا من طعام، ثم تتدبر كل مجموعة "سياسية" شؤونها الطعامية. لا شك أن هذا الحال كان يروق أيضاً لمن يرى من الإسلاميين أن مشاركة "الكفار والأنجاس" أمر مرذول.
في مساء يوم خريفي كنت غارقاً في نقاش حول طبيعة الكيان الصهيوني مع أحد الشيوعيين المنتمين إلى لون آخر غير اللون الذي وجدت نفسي عليه. كان رجلاً هادئاً ويكبرني بما يزيد عن عقد من الزمن، وكنت أسعى بما أستطيع من القوة لإقناعه بأن المجتمع الإسرائيلي غير طبيعي. لم يوافق الرجل على رأيي، والحقيقة لم يكن هذا رأيي بل رأي الحزب الذي كان، بصورة تلقائية، رأيي. كما أني في تلك الفترة كنت أرى أن النقاش في أي موضوع يشبه العمل على حل مسألة رياضية، ولا بد أن تكون نتيجة الحل واحدة، فلا يحتمل الأمر رأيان. وهكذا حين قال لي الرجل بعد نقاش طويل، "لا بأس، عرضت لك رأيي وعرفت وجهة نظرك"، تفاجأت، ذلك لأن المسألة لم تحل ولا بد إذن من متابعة النقاش حتى إثبات خطأ أحد الرأيين.
تدخل القدر حينها لإنقاذ جليسي من إلحاحي على مواصلة النقاش، فقد فُتح باب المهجع فجأة ونودي علي، فخرجت لأرى أحد العناصر يسلمني صينية كبيرة مغطاة وتفوح منها رائحة شهية. "هذه من أخيك"، قال الشرطي بسعادة، أو هكذا شعرت. تمكن أخي، من خلال معرفته بأبي عيد، رئيس مفرزة السجن، أن يرسل هذه الهدية التي كانت في ظروف معيشتنا التعيسة تلك وانقطاع الزيارات، لا تقدر بثمن.
دخلت المهجع وأنا أحمل هذا الكنز الغذائي المفاجئ الذي لم أعرف بعد ما هو بالضبط. وضعت الصينية على المصطبة وسط دهشة وترقب الجميع. تحولت الأنظار كلها إلى الصينية التي تكشفت حين رفع الحجاب عنها، عن أربع فراريج مشوية في الفرن ولا تزال ساخنة، الشيء الذي كان يشبه الأعجوبة. ارتفعت معنويات الشباب، ثم توالى الشكر الغيابي لأخي، وقال الرجل الهادئ الذي كان جليسي منذ قليل: لا تنسوا توجيه الشكر إلى زوجة أخيه، فلا شك أنها هي من أعدت هذه الصينية.
- العجيب أن يقبل أبو عيد إدخالها، والأعجب أن لا يصادر منها فروجاً واحداً على الأقل. قال عدنان
- من قال لك إن أخاه أرسل صينية واحدة؟ قال وائل ضاحكاً
الفكرة الحارقة التي اخترقت مفاجأتي وفرحي كانت: ماذا عن الإسلاميين؟ توجهت إلى برهان، وكان أحد عناصر السخرة ذلك اليوم، واتفقنا: اثنان لنا واثنان لهم، فهذا وضع استثنائي. على الفور عمل برهان على تنفيذ ما اتفقنا عليه، ولكنهم رفضوا بإصرار، ولم تجد معهم كل المحاولات.
في نظري كان ذلك بمثابة عقاب لنا على رفضنا الشراكة وتقليص العلاقة معهم، وفي نظر آخرين إنهم وقعوا تحت تأثير أكثرهم تطرفاً ممن يرفضون شراكتنا أكثر مما نرفض شراكتهم. مهما يكن الأمر، فإن تلك اللحظة تبقى حية في نفسي وتثير بي، كلما تذكرتها، شعوراً مختلطاً من الحرج والأسف. يبقى العزاء أن مثل هذه الذكريات تدفع المرء إلى الارتفاع بالعقل فوق العتبات الضيقة التي تستطيبها النفس.
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟