أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - الأبواب الحديدية















المزيد.....

الأبواب الحديدية


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 7946 - 2024 / 4 / 13 - 15:43
المحور: الادب والفن
    


لا أستطيع أن أحدد سبب كرهي للأبواب الحديدية، ولاسيما المسمطة منها. قد يكون من الأفضل أن أقول إنني أخافها بالأحرى، ولعل هذا هو سبب كرهي لها. توجد علاقة وثيقة بين الخوف والكره. يمكنني أن أقول إنني لا أكرهها فقط لأنها ثقيلة وذات صرير حاد وخالية من أي جانب لطيف يمكن أن يلامس الروح، بل هناك ما هو أعمق، إنه شعوري الثابت أنه إذا أغلق عليك باب حديدي فإنه لن يفتح ثانية.
الحديد رمز السجن الذي أكل أعمارنا. أن تقول وراء القضبان يعني أن تقول السجن، ولا حاجة أن تضيف إلى القضبان صفة "الحديدية"، فالقضبان، في الذهن، حديدية دائماً إلى حد يسمح بالاستغناء عن الوصف. ولكن القدر، وكما لو برغبة صادقة في مناكدتي، جعل حياتي مليئة بالحديد وبالأبواب الحديدية.
للأبواب الحديدية، مع ذلك، فضائل أحياناً، فهي تطلق عند فتحها، طقطقة وصريراً حاداً ينبه السجناء إلى دخول عناصر مفرزة السجن. ولكن لم يستطع صرير الأبواب الحديدية أن يتغلب على دهاء "أبو عيد"، رئيس مفرزة سجن "الشيخ حسن" في دمشق.
كان يتوجب فتح بابين حديديين قبل الوصول إلى باب المهجع، وهكذا كان يسبق الوصولَ إلى باب المهجع ضجيجُ الحديد مرتين. ولكن "أبو عيد" استطاع أن يلتف على هذا التنبيه، وأن يخدع المساجين. فقد استعان على صوت الصرير بما "لا يرحم ولا نقدر عليه"، نعم، استعان على الصرير بالزمن، أو يمكن القول إنه استخدم الزمن لكتم صوت الصرير.
كان أبو عيد، حين يقرر غزو المهجع وضبط المخالفات، يبدأ بفتح الباب الحديدي الذي يفصل المفرزة عن ممر التنفس. نسمع الطقطقة والصرير ونخفي على الفور كل ما هو ممنوع (كتاب، قلم، ورقة ... الخ) وكل ما يمكن أن يصادره حين يكون مزاجه متعكراً (شطرنج محلي الصنع، ورق لعب أو ما شابه) ونستعد، منتظرين الصوت الثاني، وهو صوت الباب الحديدي الذي يفتح على ممر الزنازين الذي ينتهي بباب المهجع. في الغالب يعقب فتح هذين البابين خارج وقت توزيع الطعام، وخارج أوقات التنفس، استدعاء أحد السجناء للتحقيق أو للزيارة، أو جولة تفتيش من المفرزة أو ربما زيارة من أحد ضباط الفرع لتفقد السجن وإلقاء نظرة على "البضاعة" المخزونة فيه.
في تلك الفترة كان لدى أحد ضباط الفرع هواية تفقد أحوال السجناء، لا لكي يستمع ويستجيب لمطالبهم بل كي يشبعهم نظرات استخفاف وازدراء، وكي يرد على كل كلام نقوله بنظرات الازدراء نفسها لأنه يرى في كل ما يمكن أن نقوله أكان شكوى أو مطلب لا يستحق الرد، وأنه سخافة وتجاوز للحد المسموح لنا، ووقاحة بوصفنا ناكرين للجميل وبوصفنا أعداء، كما قال صراحة حين شعر أن لا تكشيرته الدالة على القرف ولا نظراته المزدرية، جعلتنا نكف عن المطالبة بتحسين شروط السجن. ورغم كل شيء، ثابر هذا الضابط على هوايته.
المهم أن دهاء أبو عيد يكمن في أنه يفتح الباب الأول ولا يدخل، بل يعود إلى مكتبه لوقت غير محدد. وهكذا ننسى أمر التنبيه الأول ونسترخي ونعود إلى الأنشطة الممنوعة. ثم يفتح الباب الحديدي الثاني المفضي إلى ممر الزنازين الذي يقود مباشرة إلى باب المهجع، ويكرر الفعل الأول بأن يعود إلى مكتبه، ونكرر نحن أيضاً استنفارنا ثم استرخاءنا. وهكذا في لحظة غفلة تامة نفاجأ به على باب المهجع يراقبنا من خلال الطاقة الموجودة في الباب الحديدي للمهجع، ويضبط مخالفاتنا دون أن يفسح لنا فرصة للتملص.
في إحدى المرات سمعنا صوت طقطقة وصرير الباب الأول ثم جاء صوت الباب الثاني دون تأخير، أخذنا كل الاحتياطات. ثم بعد جلبة غامضة وزمن قصير يكافئ زمن قطع ممر الزنازين الذي لا يتجاوز أربعين متراً، فتح باب المهجع مباشرة دون أي مخاطبة لنا عبر الطاقة الموجودة في الباب، كما يفعل عادة أبو عيد. وها هو الرجل الذي خلق كي يكون شرطياً، يقف في الباب. لا وجود لخديعة هذه المرة. هناك إذن أمر أكبر من مناكدة المساجين ومصادرة الممنوعات. مسح أبو عيد المهجع بعينين باردتين ثم بالعينين نفسهما مسح الوجوه المتسائلة، قبل أن يقول بنبرة أرادها أن تكون في غاية الجدية:
- كل جماعة الرابطة لبرا. (يقصد رابطة العمل الشيوعي في سورية)
نظرنا إلى بعضنا البعض، لا ندري هل في الأمر خير أم شر. وبينما نحن نخرج واحداً إثر الآخر، جاء صوت أحد السجناء اليساريين وهو مسترخ في قعدته:
- حركة إفراج، مفهومة، الله ييسر! قال بتهكم صريح، وأثار بعض الهمهمة والتعليقات المتضاربة في المهجع.
ما أراد قوله هذا الرجل هو تعبير عن تصور شاع عند البعض وهو أن معارضة "الرابطة" لسلطة الأسد شكلية وربما كانت مجرد مسرحية، ومن الطبيعي بالتالي أن تفرج السلطة عن أعضاء الرابطة قبل غيرهم من المعارضين "الجديين" أمثاله. ولكن هذا حديث سياسي ليس مكانه هنا.
حين خرجنا رأينا في منتصف ممر الزنازين كرسي يقف بجواره عنصر وفي يده ماكنة حلاقة يدوية (tondeuse)، وكان عدد من عناصر المفرزة متجمعين في نهاية الممر. كانت وجوه العناصر جافة وفي الجو ترقب يزيد من ثقل مشهد الممر الذي تحده الزنازين من الجانبين بأبوابها الحديدية المسمطة المغلقة.
كان صفوان أول الواصلين منا إلى جوار الكرسي، أجلسه العنصر الحلاق على الكرسي بجلافة وحلق شعره على الصفر، ثم قاده عنصر آخر باتجاه مكان تجمع بقية العناصر. وبعد لحظات كان صراخه وأصوات الجلد تملأ الممر. مع هذه الأصوات دخل إلى ممر الزنازين الضابط نفسه الذي يهوى تفقد المساجين لإشباعهم بنظرات الاحتقار، وفي يده خيزرانة يضرب بها على جانب ساقه ضربات خفيفة.
ما يجري أمام أعيننا، كان أمراً غريباً وغير مألوف. ولم يتفوه أبو عيد أو أي أحد من العناصر بما يمكن أن يساعدنا على حل هذا اللغز. لم يكن تحقيقاً، ذلك أن أحداً لم يوجه لنا أي سؤال. وإذا كانت هذه عقوبة، فما السبب؟
فقط حين قال الضابط من خلال تكشيرة الاحتقار المستقرة على فمه، "هكذا إذن يا عرصات، توزعون مناشير تتهجمون فيها على سيادة الرئيس"، أدركنا أن الأمر هو عقوبة لكل من هم في السجن بتهمة "الرابطة" بسبب منشور وُزع في الخارج. الحقيقة أن العقوبة لم تطل الجميع، فربما بسبب كثرة عددنا أو ربما لأن المبادرة إلى العقوبة كانت من هذا الضابط وحده وليست من رئاسة الفرع، فقد توقفت الحلاقة والجلد بعد تنفيذها على عدد قليل منا، واستبدلت بمحاضرة من الضابط ذي التكشيرة الذي راح يهددنا وكأننا نحن من كتب ووزع المنشور في حين كنا مقطوعين عن العالم الخارجي.
حين عدنا إلى المهجع مروعين، وقد أدرك الجميع ما جرى لنا، اعتذر صاحب التعليق المتهكم تحت ضغط الشعور بالحرج. والطريف، أنه بعد فترة وجيزة أفرج عن هذا الرجل في سياق حركة إفراجات فردية كانت تتم كل شهر واستمرت حوالي السنة، حتى بات أحد السجناء الظرفاء يتساءل مع انقضاء الشهر: ترى من ستشمله "العادة الشهرية" هذه المرة؟ ولأن تلك "العادة" لم تشمل أحداً من جماعة "الرابطة"، فقد بقينا سنوات طويلة وراء الأبواب الحديدية بعد ذلك.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الثقافة بوصفها خديعة
- في معنى استمرار الثورة السورية
- حين تصبح الهوية عبئاً (المثال السوري)
- غزة بوصفها مرآة عصرنا
- عن احتجاجات المزارعين في فرنسا وأوروبا
- -أبناء التهمة- الإسلامية
- ليس دفاعاً عن الإسلاميين
- النظام التسلطي المحض وسبل تفكيكه - 1
- النظام التسلطي المحض وسبل تفكيكه - 2
- في الشخصية السياسية لرياض الترك
- الفعل الجنسي بوصفه دينمو خفي لتغذية دونية المرأة
- اللغة لا تسعف غزة
- عن غزة و-الأخلاق- الحديثة
- في مفارقات المجزرة
- القتل للفلسطينيين والتضامن مع اليهود
- يدفعون إلى العنف ويدينونه
- تأملات بمناسبة -طوفان الأقصى-
- من يمتلك -الحق- في الإجرام / حياة الفلسطينيين العارية على خط ...
- اللاعودة في انتفاضة السويداء
- اليسار السوري، هامش واسع في الحياة السياسية


المزيد.....




- أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك..  تردد قناة توم وج ...
- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...
- الإعلان الثاني.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 158 على قناة الفجر ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - الأبواب الحديدية