أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - راتب شعبو - النظام التسلطي المحض وسبل تفكيكه - 1















المزيد.....


النظام التسلطي المحض وسبل تفكيكه - 1


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 7860 - 2024 / 1 / 18 - 15:57
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


قلما يجري التمييز في الكتابة السياسية المتداولة بين النظام المستبد أو التسلطي "authoritarian" وبين النظام الشمولي "totalitarian". غياب الحريات الأساسية وحظر الأحزاب المعارضة ومركزية السلطة السياسية وثقل وطأتها على المجتمع وعدم الفصل بين السلطات، تكفي لاستخدام واحدة من الصفات السابقة، وهي صفات مترادفة في اللغة السياسية الدارجة. حتى في الترجمة إلى العربية لا يجري التمييز في بعض الحالات، فيمكن أن تترجم "authoritarian" إلى "شمولية" على أنها رديف لصفة "تسلطية". يعود ضعف التمييز إلى غلبة أو شيوع الكتابة السياسية على الكتابة النظرية، ولكن بالتدقيق تتضح الحدود بين هذه الصفات وتصبح أقرب إلى المفاهيم.
غالباً ما نفهم من وصف نظام سياسي ما بأنه شمولي، أن هذا النظام يسيطر على كامل الأنشطة في المجتمع، وأن النظام "يشمل" كل شيء بسلطته ويسيطر على المجال العام ويحتكره. من أجل بلوغ هذا النوع من السيطرة على المجتمع، يحتاج النظام الشمولي، أو النظام الذي يسير على طريق الشمولية، إلى ما هو أكثر من القوة المادية، إنه يحتاج إلى قوة إقناع، إذ لا بد من "إقناع" المجتمع، فالنظام الشمولي لا يولد فجأة. النظامان الشموليان النموذجيان (الشيوعي والفاشي) لم يصلا إلى حكم البلاد بانقلاب مفاجئ، بل في سياق أزمة مجتمع أوصلت إلى السلطة (عن طريق ثورة مرة وعن طريق انتخابات مرة أخرى) نخبة تحمل مشروعاً سياسياً خلاصياً يحوز على مقبولية. عندئذ سوف تبدو القوة المادية، قوة أجهزة السلطة، معبرة عن إرادة واسعة في المجتمع، وستبدو السلطة مفوضة من المجتمع المأزوم. هكذا فإن الطريق إلى الشمولية تتطلب قضية يؤمن بها المجتمع بغالبيته، وتسندها قوة الدولة بوصفها الممثل والحامل الأساس لهذه القضية. وينبغي أن تكون القضية كبيرة وتنطوي على وعود مغرية، إلى حد يبرر للسلطة أمام المجتمع حجمَ القوة التي تسندها، ومقدار البطش الذي تمارسه الدولة ضد كل من يقف في طريقها، بوصفه عقبة في طريق تطور وتحرر المجتمع.
يضاف إلى ذلك أن القضية التي يتبناها أو ينبني عليها النظام السياسي المتجه نحو الشمولية، تتصف أولاً بأنها تحمل وعداً مؤجلاً بالرفاه للمجتمع الخاضع لسلطة هذا النظام، وثانياً بأنها تتجاوز حدود هذا المجتمع وتنطوي على بعد أو امتداد عالمي.
على هذا فإن الشمولية تنطوي على بعدين، الأول هو السيطرة الشاملة على مجمل الأنشطة والمستويات في المجتمع المحدد، فلا يبقى أي محل لفعالية مستقلة أو معارضة أو حتى لرأي معارض فيه، والثاني هو العالمية، أي قيام النظام الشمولي على فكرة أو نظرة تشمل العالم، فالنظام الشمولي لا يقتصر على المجتمع المحدد، بل "يشمل" العالم، إنه ينشد الشيوع والتمدد على نطاق عالمي، انطلاقاً من تصور يرى إلى ذاته على أنه يحمل الخير للعالم الحالي البائس الذي ينبغي، لذلك، تغييره. النظام الشمولي، والحال كذلك، هو نظام توسعي، وهو لذلك ينطوي بالضرورة على ميول صدامية وحربية.
في كتابها "منابع الشمولية" ، تؤكد حنة أرنت، وهي من بين أبرز المنظرين في هذا الموضوع، على البعد العالمي الملازم للنظام الشمولي، فتقول إن "الصراع من أجل السيطرة التامة على كل سكان الأرض، والتخلص من كل قوة غير شمولية منافسة، هو أمر في صميم النظام الشمولي نفسه. إذا لم يجعل هذا النظام من حكم العالم ككل هدفاً نهائياً له، فالغالب أنه سوف يخسر كل سلطة سبق أن حاز عليها". الحقيقة أن ما تقوم به أرنت هو استقراء تجربتين محددتين هما النظام الشيوعي في روسيا والنظام النازي في ألمانيا، وبناء على ما تقدمه أرنت لم ينشأ، بعد سقوط هذين النظامين، أي نظام شمولي.
التسلطية في النظام الشمولي وسيلة لمشروع عالمي
إذا اعتمدنا تعريف حنة أرنت، يعتبر البعد العالمي في النظام الشمولي عنصراً جوهرياً، إلى حد اعتباره مبرر وجود النظام نفسه. فلا يتشكل نظام شمولي ما لم ينشأ على تصور "شامل" عن تغيير العالم، يجعل البلد الذي يقع تحت سيطرة النظام مجرد منطلق جغرافي، والمجتمع الذي يحكمه النظام مجرد منطلق اجتماعي لمسار "طليعة" ذات تطلع عالمي. هكذا تكون التسلطية، أو الشمولية الداخلية، إن جاز القول، هي مجرد مرحلة في سياق عالمي ووسيلة للشمولية العالمية أو من أجل شمول العالم. فلكي يتمكن النظام الشمولي من تغيير العالم يحتاج إلى أن يمسك بكل مفاصل المجتمع الذي يسيطر عليه، وإلى أن تكون الدولة ممسوكة جيداً فلا يعيق عملية تغيير العالم أي صراع داخلي مع قوى منظمة أو مع أحزاب سياسية أو مع حركة شارع. لا يمكن لنظام شمولي أن لا يكون تسلطياً، ولكن التسلطية مستقلة عن الشمولية، وإن كانت هذه تعطيها أبعاداً جديدة وتمضي بها إلى حدود إجرامية قصوى توازي عظمة القضية التي ينهض بها النظام الشمولي.
حتى حين اعتمدت التجربة البلشفية في روسيا فكرة الاشتراكية في بلد واحد، لم يكن في ذلك تخل عن البعد العالمي، ولم يكن بالإمكان فهم ذلك إلا في سياق استراتيجية اشتراكية عالمية تتطلب من الفروع الاشتراكية في أرجاء العالم، أن تخدم، ما استطاعت، بناء الاشتراكية في بلد واحد، ليكون منطلقاً راسخاً، على اعتبار أن في ذلك خدمة لتغيير العالم باتجاه الاشتراكية.
هكذا نفهم من فكرة "الاشتراكية في بلد واحد" أن السيطرة "الشمولية" على المجتمع تهدف إلى إنجاز التحول الداخلي، أي في الاتحاد السوفييتي، أولاً كمقدمة للانطلاق في عملية تغيير العالم، وهكذا فإن هناك عمليتي تغيير داخلي وخارجي متمايزتين نسبياً، بحيث يمكن فصلهما. ومعروف أنه وجد في مسار التجربة الاشتراكية السوفييتية تيار مثله ليون تروتسكي (1879 – 1940) ينتقد هذا الفصل ويرى أن نجاح التجربة مرهون باقتران العمليتين معاً، مع إعطاء الأولوية للتغيير العالمي، فوق ذلك، نظراً إلى أن التوسع العالمي، وليس الانكفاء، هو ما يمكن أن يحمي المشروع الاشتراكي العالمي، بما في ذلك اشتراكية البلد الأول. "منذ عام 1917 لم ينفك (تروتسكي) يردد أنه لا يسع روسيا لوحدها بلوغ الاشتراكية ... لم يكن من الممكن إنجاز السيرورة الثورية في روسيا إلا عن طريق تحويلها إلى سيرورة ثورية أممية".
على ما بين النظامين الشموليين البارزين في التاريخ العالمي الحديث، نقصد النظام الشيوعي والنظام النازي، من فروقات كبيرة لا يمكن إهمالها، وعلى رأسها عنصرية النازيين مقابل الرؤية الإنسانية للشيوعيين، فقد ترافق فشلهما مع فشل البعد العالمي لكل منهما. في التجربة النازية تجلى الفشل في الخسارة العسكرية لألمانيا النازية في الحرب العالمية الثانية، وفي التجربة السوفييتية تجلى في انحسار الموجة الاشتراكية وركود النظام الاشتراكي وضمور بعده التغييري العالمي، ما وضعه على سكة الفشل التدريجي التي قادت إلى فشله وتفككه تلقائياً دون حرب مباشرة، ولكن الحرب الباردة أرهقت، بلا ريب، النظام السوفييتي وساهمت في تفككه.
البعد العالمي في الأنظمة الشمولية يقود إلى أنها مرشحة للظهور في بلدان ذات تأثير عالمي، هكذا هو حال روسيا وألمانيا، ومن غير الممكن بروزها في بلدان قليلة الشأن عالمياً إلا كتوسع أو امتداد لشمولية أصلية.
بين التسلطية والتسلطية المحضة
الأنظمة السياسية التسلطية لا تختلف من حيث السبل والوسائل والوحشية وعبادة الفرد عن النظام الشمولي، نقطة الخلاف هي أنها مجردة من البعد العالمي، أي أنها أنظمة محلية دون تطلع عالمي .
مع ذلك فإن غياب البعد العالمي لا يجعل الأنظمة التسلطية واحدة. هناك أنظمة تسلطية دون بعد عالمي ولكنها ذات مشروع محلي يستند إلى تصورات نظرية وسياسية محددة، تعتقد أنها يحرر البلد من التخلف أو التبعية وتضعه على طريق التنمية ... الخ. في هذه الحال يكون في وعي نخبة الحكم أن التفرد في الحكم أو "الديكتاتورية" هي وسيلة لتحقيق مشروع في مصلحة البلاد. بصرف النظر عن صحة أو خطأ هذا الاعتقاد أو عن السياسات المتبعة أو المآلات التي انتهت إليها هذه الأنظمة، المهم هنا هو أن ما تراه نخبة الحكم لم تصل إلى حد تسخير مقدرات الدولة لغاية واحدة هي استمرارها في الحكم وتجميع الثروة الشخصية وتعزيز العصبيات غير الوطنية. ومن الملحوظ غياب النزوع التوريثي أو السلالي لدى أرباب هذه الأنظمة، على خلاف ما سنراه في النموذج التسلطي المحض. على هذا يصح وصف هذه الأنظمة بأنها أنظمة تسلطية ذات نزوع استقلالي، مثالها نظام مصر عبد الناصر، ونظام الجزائر هواري بومدين، ونظام كمال أتاتورك في تركيا.
وهناك، من ناحية أخرى، أنظمة تسلطية مشروعها الذي يعلو على أي مشروع آخر هو تأبيد سيطرتها، بحيث تكون كل سياسات النظام وتوجهاته محكومة إلى نقطة مركزية واحدة هي الاستمرار في الحكم، مع إغلاق محكم للباب أمام أي آلية سلمية لتغيير السلطة. تتشابه سياسات هذه الأنظمة مع النظام الشمولي في علاقتها مع المجتمع، وفي احتلالها المجال العام، ولكن تبقى الغاية من هذه الوسائل "الشمولية" الحفاظ على السلطة ومراكمة الثروة والسيطرة ولو على حساب سلامة ووحدة البلد أو على حساب أمان وحياة المحكومين.
التسلطية هنا هي وسيلة الاستمرار في السلطة التي تغدو غاية ذاتها، وتتحول اللغة السياسية القومية أو التحررية أو التنموية التي تستخدمها هذه الأنظمة إلى وسيلة أيديولوجية لإدارة وتبرير السيطرة "الأبدية" على البلد. هذا لا يعني أن هذه الأنظمة لم تحقق إنجازات اقتصادية تنموية وتعليمية ... الخ، والحقيقة أن هذه الأنظمة، ولاسيما في بداياتها، حققت تحديثاً للبلد لا يمكن إنكاره ، لكن ما تمتعت به من سيطرة على المجتمع الراضي إلى حد غير قليل بهذا التحديث الذي جاء به انقلاب عسكري على النظام القديم، كما هو حال الأنظمة التي نتكلم عنها، أغراها بأن ترى إلى نفسها على أنها صاحبة البلد وسيدته . ومع الوقت وتعزز السيطرة صار كل "إنجاز" عام يمكن أن تحققه هذه الأنظمة، يُستخدم لتعزيز استمرار السلطة "الأبدية" تقتل المسافة بين السلطة والدولة، فيغدو استمرار السلطة ضرورة لاستمرار الدولة. صار البلد ككل، وليس فقط "الإنجازات"، مهدداً بالدمار إذا ما تهدد سلطة الطغمة الحاكمة.
ومن السهل ملاحظة أن الأنظمة التسلطية المحضة، تهتم، بطرق شتى، ومن منطلق حرصها على ديمومتها، بحيازة رضا الدول ذات الثقل المقرر في العالم، ولو على حساب مصالح البلد ورضا المحكومين. القوة العسكرية والأمنية التي تراكمها هذه الأنظمة التسلطية، فضلاً عن تغلغلها "الشامل" في كل مفاصل المجتمع، تجعل من الصعب جداً على المجتمع التخلص منها، وهو ما تدركه الطغم الحاكمة، وما بينته الثورات العربية في العقد الماضي، لذلك تميل هذه الأنظمة إلى إرضاء الخارج القوي بوصفه الجهة الوحيدة القادرة على خلعها. هكذا فإنها تحكم الداخل وترضي الخارج، أو تحكم الداخل بما يرضي الخارج.
إذا كانت الأنظمة التسلطية ذات مسعى استقلالي عن مراكز السيطرة في العالم، فإن الأنظمة التسلطية المحضة ذات مسعى انصياعي غايته حيازة القبول العالمي المتمثل في الولايات المتحدة الأميركية أساساً. حتى حين يظهر تعارض أو احتكاك ما مع الدول الكبرى فإنه يبقى ضمن حدود محسوبة لا تستعدي هذه الدول جدياً. لا يعني ذلك أن المسعى الاستقلالي أو أن استعداء الدول الكبرى، هو بحد ذاته سياسة محمودة، لكن الفارق حاسم بين الاندماج في العالم من منظور الأولوية الوطنية أو من منظور تنموي، وبين الاندماج فيه من منظور أولوية استمرار السلطة. المنظور الأول يمكن أن يدفع إلى التنمية، أما المنظور السلطوي المحض فإنه يقود إلى الانصياع ويرهن البلاد ومستقبلها باستمرار السلطة "الأبدية".
وقد شهدنا كيف أن هذا النمط من الأنظمة التسلطية تميل إلى توريث الحكم، فالتوريث أو تكريس مَلَكية بلا مؤسسات، هو الترجمة المباشرة لانشغال النظام "الجمهوري" بديمومته بالدرجة الأولى، وفوق أي شيء آخر. يوازي هذا الميل السلالي ميل إلى المحسوبيات ومحاباة الأقارب ونشوء سلطات غير رسمية فوق أي قانون وأي محاسبة، وتستند، ضمنياً وعملياً، إلى سلطة الدولة ومتحررة في الوقت نفسه من أي اعتبار "دولتي". سميت هذه الظاهرة في سوريا "الشبيحة" ولها تسميات مختلفة في البلدان الأخرى. الأمثلة على هذا النوع من الأنظمة نجدها في العراق صدام حسين، وسوريا حافظ الأسد، وليبيا معمر القذافي ومصر حسني مبارك. وقد عرض علينا هذا القرن، من سقوط بغداد في 2003 إلى ما تلا الثورات العربية التي انطلقت في 2011، كيف انتهت البلدان المذكورة إلى خراب واسع حين أُسقطت هذه الأنظمة أو حين وجدت نفسها مهددة بالسقوط.
هذا النوع من الأنظمة يمكن وصفها بأنها أنظمة تسلطية محضة (pure) حيث يكون التسلط وسيلة للاستمرار في الحكم، وليس للمضي في مشروع يعتقد المتسلطون إنه في مصلحة البلاد، وتصبح مقدرات الدولة كاملة مسخرة لحماية السلطة التي تبدو، والحال هذه، كأنها تستعمر الدولة. وكأن هذه الشعوب خرجت من مهمة تحرير البلاد من استعمار خارجي لتجد نفسها أمام مهمة أكثر تعقيداً هي تحرير الدولة والبلاد من استعمار داخلي. هذا ما يشكل أساس اعتبار هذا النمط من الأنظمة "غير وطنية"، أي لا تضع مصلحة البلاد أولوية لها، أو بكلام آخر لا تبدو مصلحة البلاد لها إلا من خلال موشور مصلحة طغمة الحكم. وقد كان النموذج السوري (نظام الأسد) توضيحياً حين عرض على العالم كيف يقود جعل مصلحة الطغمة الحاكمة فوق مصلحة البلد إلى الدمار والخراب .
رغم الممارسات التسلطية المتشابه بين هذا النوع من الأنظمة التسلطية وبين الأنظمة التسلطية الوطنية، إلا أنه يجب حفظ الفارق بين النوعين، ذلك أن هذا الفارق الذي أشرنا إليه أعلاه، له أثر على حاضر ومستقبل البلاد. الأمر يتعلق في أن الأنظمة التسلطية المحضة، على خلاف النمطين الآخرين (الشمولي والتسلطي الوطني)، في جعل السلطة بذاتها أولوية، تجد نفسها مضطرة للاستناد إلى عصبية ضيقة من طبيعة طائفية أو عشائرية أو مناطقية للاستثمار في النزوع القبَلي الوافر في مجتمعاتنا، بطريقة تحيل كل صراع مع السلطة إلى صراع أهلي يهدد البلاد بالانقسام والدمار، كما شهدنا مثلاً في سوريا وليبيا واليمن.
عرض علينا التاريخ التباين الواسع بين النهايات السلمية إلى حد لا بأس به، للأنظمة الشمولية الشيوعية، وبين ما قادت إليه الأنظمة التسلطية المحضة من دمار على المجتمع حين سقطت هذه الأنظمة أو تهددت بالسقوط. كل ما سبق يؤكد ضرورة وضع تصنيف خاص لهذه الفئة من الأنظمة التي ينتمي إليها النظام السوري.
هل من شرعية للأنظمة التسلطية المحضة؟
الحقيقة أنه لا محل للكلام عن شرعية في ظل أنظمة تسلطية. الشرعية تقتضي آلية سلمية لإنتاج السلطة واستبدالها، أي آلية لإنتاج الشرعية، وهذه الآلية لا تتوفر سوى في البلدان الديموقراطية حيث يوجد تداول في السلطة. في غياب آلية ديموقراطية لإنتاج الشرعية تصبح الشرعية منوطة بالقناعات أو بالعقائد، مثل أن يقتنع الناس أن الشرعية ذات مصدر "إلهي" لا شأن فيها للبشر، أي مفروضة على البشر فرضاً إلهيا وينبغي التسليم بها، وهو ما يدافع عنه فريق من الإسلاميين من أمثال أبو الأعلى المودودي وسيد قطب الذي يقول "إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها الثورة الشاملة على حاكمية البشر ... إن الحكم الذي مرد الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر" . وهناك تيار إسلامي واسع أكثر "حداثة"، يمثله الشيخ يوسف القرضاوي، فهو لا يكفر الديموقراطية، بل يعتبرها من الإسلام، بنفس الآلية التي سبق أن اعتبرت الاشتراكية في زمان عزها، من الإسلام، لكن لا يجد القرضاوي حرجاً في القول، في فتوى شهيرة له "فليس يلزم من المناداة بالديموقراطية رفض حاكمية الله للبشر" .


ويمكن أن تكون الشرعية تسلطية، أي بحكم الأمر الواقع، ثم يسوغها لاحقاً وعي وقناعات معينة، من مثال القول "سلطان غشوم ظلوم خير من فتنة تدوم" ، أو من نمط قناعة سيئة لها حضور واسع في الوعي، تقول إن شعوبنا لا تُحكم إلا بيد حديدية، وإن وجود الأنظمة التسلطية واستمرارها يجد سببه في طبيعة شعوبنا التي لا تليق بها الديموقراطية ولا تستحق سوى القمع. في أدبنا يوجد بيت شعر شهير يقول:
شعب إذا ضرب الحذاء برأسه
قال الحذاء بأي ذنب أضرب
وهو منسوب إلى نزار قباني، أحد أكثر شعرائنا رقة، ولكنه هنا، إذا صحت نسبة البيت إليه، يعبر بفظاظة عن هذه القناعة.
الصراع السياسي هو ما يستوجب التأسيس لشرعية سياسية، غير أن النظام التسلطي لا يطيق فكرة الصراع في المجتمع، فينكر الصراع الطبقي ويتكلم عن مجتمع الطبقة الواحدة الذي تشغل الطغمة المتسلطة فيه دور قيادة كلٍ منسجم. وهذا يستبطن القول إن الصراع في المجتمع انتهى في لحظة وصول الطغمة إلى الحكم، الوصول الذي غالباً ما تحقق بالقوة العارية عبر انقلاب عسكري. من البديهي أن حدوث الانقلاب يشير إلى وجود صراع تم حسمه بانقلاب أوصل النخبة الانقلابية إلى الحكم. على هذا فإن الصراع الذي قاد إلى الانقلاب كان يحركه خلل وحيد هو أن السلطة السياسية في يد النخبة "الخطأ"، وحين استلمت النخبة "الصحيحة" السلطة عبر الانقلاب، فإن محرك الصراع الاجتماعي توقف وبات المجتمع بالتالي كلاً منسجماً، يعمل بتكامل الجسم العضوي. وغالباً ما يكون تصور النخبة التسلطية عن "دولتها" أنها دولة تضامنية (corporatist) ذلك أن هذا المفهوم "يرفض الصراع الطبقي والتعددية الليبرالية في آن معاً ... إذ إن الدولة التضامنية التسلطية تتصور المجتمع بأنه كتلة عضوية تنفذ مختلف الجماعات الوظيفية فيها مهمات معينة تحت قيادة الحكومة". مفهوم (corporatism) مشتق من الكلمة اللاتينية (corpus) التي تعني الجسم، هذا المفهوم يدل إذن على التكامل والانسجام بدلاً من الصراع.
يهدف هذا التصور إلى توفير شرعية ما لنخبة الحكم في النظام التسلطي المحض، باعتبار أن هذه النخبة حققت الانسجام في المجتمع وخلصته من الصراعات . القمع الذي تمارسه الأنظمة التسلطية هو سعي مستمر لكبت الصراع بما يفرض على الواقع الاجتماعي الانسجام مع التصور المذكور. والمفارقة هي أن إنكار الصراع وتعدد المصالح وتضاربها في المجتمع، واستخدام جهاز الدولة لخدمة مصالح قلة ولكبت صوت الكثرة وإخماد الصراع بالقوة، هو ما يمنع المجتمع من أن يكون جسماً (corpus) طبيعياً، أي إن النخب التسلطية تحرض في المجتمع احتدام الصراع الذي تنكر وجوده، وتدفع العلاقات باتجاه التأزم ولا تجد لديها وسيلة للتعامل مع الصراع سوى القمع، فتنسف بذلك إمكانية ظهور وتكامل آلية متسقة داخل المجتمع لحل الصراعات، أي تنسف ما تؤكد عليه وتستند إليه في تبرير وجودها، وهو أنها جعلت المجتمع كياناً عضوياً منسجماً. الدولة التسلطية تبتلع المجتمع دون فائض، فلا يبقى متسع لما يسمى في الأدبيات المجتمع المدني. الدولة التسلطية تطرح نفسها على أنها سلطة ومجتمع مدني في الوقت نفسه، فلا وجود لما هو مستقل عن الدولة التي تتحول إلى مستعمرة للطغمة التسلطية.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- النظام التسلطي المحض وسبل تفكيكه - 2
- في الشخصية السياسية لرياض الترك
- الفعل الجنسي بوصفه دينمو خفي لتغذية دونية المرأة
- اللغة لا تسعف غزة
- عن غزة و-الأخلاق- الحديثة
- في مفارقات المجزرة
- القتل للفلسطينيين والتضامن مع اليهود
- يدفعون إلى العنف ويدينونه
- تأملات بمناسبة -طوفان الأقصى-
- من يمتلك -الحق- في الإجرام / حياة الفلسطينيين العارية على خط ...
- اللاعودة في انتفاضة السويداء
- اليسار السوري، هامش واسع في الحياة السياسية
- قمصان زكريا، لمنذر بدر حلوم عن الموت الذي يضمر الحياة
- عن توبيخ السوريين العلويين المتجدد
- نقاش مع كتاب -سؤال المصير- لبرهان غليون
- عن مشكلة الرموز في سورية
- أهمية حركة 10 آب في سوريا
- ماذا ينتظر سورية في المستقبل
- ظاهرة الموالين الغاضبين
- البكالوريا السورية ضحية الغش العام


المزيد.....




- فيصل بن فرحان يعلن اقتراب السعودية وأمريكا من إبرام اتفاق أم ...
- إيرانيون يدعمون مظاهرات الجامعات الأمريكية: لم نتوقع حدوثها. ...
- المساندون لفلسطين في جامعة كولومبيا يدعون الطلاب إلى حماية ا ...
- بعد تقرير عن رد حزب الله.. مصادر لـRT: فرنسا تسلم لبنان مقتر ...
- كييف تعلن كشف 450 مجموعة لمساعدة الفارين من الخدمة العسكرية ...
- تغريدة أنور قرقاش عن -رؤية السعودية 2030- تثير تفاعلا كبيرا ...
- الحوثيون يوسعون دائرة هجماتهم ويستهدفون بالصواريخ سفينة شحن ...
- ستولتنبرغ: -الناتو لم يف بوعوده لأوكرانيا في الوقت المناسب.. ...
- مصر.. مقطع فيديو يوثق لحظة ضبط شاب لاتهامه بانتحال صفة طبيب ...
- استهداف سفينة قرب المخا والجيش الأميركي يشتبك مع 5 مسيرات فو ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - راتب شعبو - النظام التسلطي المحض وسبل تفكيكه - 1