أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - قمصان زكريا، لمنذر بدر حلوم عن الموت الذي يضمر الحياة















المزيد.....

قمصان زكريا، لمنذر بدر حلوم عن الموت الذي يضمر الحياة


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 7748 - 2023 / 9 / 28 - 20:51
المحور: الادب والفن
    


منذ الخطوات الأولى في رواية "قمصان زكريا" لمنذر بدر حلوم (مؤسسة ميسلون للثقافة والترجمة والنشر، استنبول. الطبعة الأولى تموز/يوليو 2023) تجد نفسك محاطاً بعالم منسوج من خيطين يحاول كل منهما التحرر من الآخر، خيط الطيبة والحب والخير وخيط التسلط والعنف والإكراه. في الرواية لا يخالط أي من هذين الخيطين الآخر، وإن كانا سيشكلان معاً نسيج الرواية. كأن الكاتب، لشدة رفضه التسلط والشر، ولشدة تقديره الحب والخير، لا يستطيع قبول أن يدخل شيئاً من هذا إلى ذاك، فشخوص الرواية مندوبة بالكامل لهذا أو ذاك.
يحرص حلوم على أن يحشد، منذ البداية، وبكثافة، العناصر التي ترسم معالم مجتمع تستبيحه سلطة خفية وصريحة في الوقت نفسه. حين تهم الدخول إلى الرواية تواجهك كلمة واحدة (يختفون)، إنها الكلمة الأولى، وهي بصيغة الفعل المضارع الذي يعطي للأحداث سخونة التتالي ويحرض في القارئ التوتر. وقبل أن تفتح أول أبوابها، تقرأ (ماتت سلافة). باختفاء سلافة تبدأ الرواية، وسلافة تختفي على يد الموت، المُخفي الأعظم. الاختفاء يملأ الرواية، هو مصير التلميذة الجميلة ذات الجديلتين التي سخرت أمام معلمها من الكلام عن وجود الحاكم "عوف" على وجه القمر، وهو مصير معلمها أيضاً. وهو مصير بعض رجال العلم الذين رأوا خللاً في بناء السد (سد عوف) وخطراً في وضعه فوق المدينة وسوءاُ في تنفيذه ورداءة في مواده، ومن لم يختف منهم ارتسمت ابتسامة بلهاء على وجوههم إلى أن ماتوا. وكان الاختفاء مصير لينا ومصطفى وفادي أولاد حسين الذي كان معلم "عوف" في المدرسة، قبل أن يصبح هذا حاكماً للبلاد وقبل أن يستقر في القمر، بحسب الرواية. هكذا "يختفون"، اختفاء ملتبس على يد سلطة خفية، واختفاء صريح بالموت.
ثم تتلاحق العناصر السوداء: حمامة حية منتوفة الريش ملقاة على شرفة بيت زيدون، الأستاذ الجامعي النزيه الذي اضطر أن يستقيل من الجامعة تحت ضغط فضيحة جنسية مدبرة لا علاقة له بها. قطعة لحم مسمومة تودي بحياة بازو، كلب زيدون وصديقه الوفي. مداهمة بيت اخته سلافة في الفجر، الأمر الذي ينتهي بموتها، ليس في غرفة التحقيق في الجامعة إلى حيث استدعيتْ، بل على الأريكة في بيتها "بعد غصة وشهقة" عقب الاستدعاء. إنهم يقتلونك حتى إذا لم يقتلوك.
لا يحتاج القارئ إلى البحث أو التساؤل عمن يقوم بمثل هذه الأفعال "الشريرة". القارئ في بلداننا يعرف تلقائياً أنهم "هم"، والكاتب يكتفي بالإشارة إليهم بضمير جمع الغائب الذي يعود إلى جهة واضحة بقدر ما هي خفية. "طلبوا سلافة لمراجعتهم"، "ألقوا للكلب بقطعة لحم مسمومة"، "إذا كانوا سيرفضون منحي الدرجة بسبب دعوتي لك، فهذا وسام شرف لي"، ... ضمير جمع الغائب معروف الدلالة هنا، إنه ضمير غائب ولكن ثقل حضوره يقض مضاجع الحاضرين، تماماً كما يتفاهم الناس في الإشارة إلى مرض السرطان دون استخدام اسمه.
تنطلق الرواية من صراع لا يحتاج في مجتمعنا إلى نقطة بداية، إنه صراع ثابت إلى حدود البداهة، ولا يحتاج إلى شرح، صراع بين محكومين مغلوبين وبين حاكم مستبد لا يتورع عن فعل شيء لقهر محكوميه وتطويعهم. هذه خلفية ثابتة في وعينا العام، ذلك أن بلداننا لم تعرف في تاريخها سوى الاستبداد، أكان على يد أجنبي أو على يد أبناء البلد. استبداد أبناء البلد هو هاجس مقيم لدى صاحب "أولاد سكيبة"، ففي معظم أعماله تجد انقلاب متسلق السلطة انقلاباً جذرياً على أهله ومجتمعه وتنكره للصداقات والقيم المشتركة التي تنظم الحياة والكرامات بين الأهالي. على هذا تكون أجواء أعمال حلوم ثقيلة على القارئ، ولا يمكن اعتبار قراءة رواياته نزهة ترويح عن النفس أو قضاء وقت جميل ورائق، إنها تحفيز على الفهم وإثارة القلق بالأحرى، كما يلاحظ بحق الشاعر منذر مصري، صديق كاتبنا، في تعليقه على رواية حلوم الأولى "سقط الأزرق من السماء". لنلاحظ مثلاً، في روايتنا، هذا الوصف الذي يثقل على القلب، "هبط الضباب وسكن الهواء واختفى الحمام وملأت سماء المدينة الغربان وليل شوارعها الجرذان".
تنفتح في الرواية العوالم على بعضها البعض، عوالم الناس والجان، البشر والحيوانات، الأحياء والأموات. الكثير من الناس يختفون على يد رجال "عوف"، وهكذا يتحول المختفون إلى فئة جديدة في الواقع، إن لهم أسماء في سجلات النفوس، ولا وجود ظاهراً لهم. قد يكون هذا ما دفع حلوم إلى المضي أبعد. وربما اقتبس من ظاهرة المختفين الذين يوجدون بين الموت والحياة، هذه الظاهرة التي نمت إلى حد فظيع في سنوات ما بعد ثورة 2011 في سوريا، فكرة فتح السبيل بين عالمي الموت والحياة عير التقمص وعبر الحلول والأحلام.
البطش الرهيب يحيل الناس إلى فئتين، مختفين أو خائفين، ولذلك يؤكد زكريا في حديثه مع زيدون "ما عاد أحد يستطيع قول الحقيقة سوى الأموات"، زكريا الذي يفكر، على نحو غريب، بانطلاق ثورة أموات. ورغم أن الرواية تتوسع في الحديث عن الأموات وعن قوانين عالمهم وعن الانتقال المستمر بين العالمين، إلا أن في الرواية ما يدعو للاعتقاد أن حلوم يستخدم الموت للدلالة على نقيضه. حين يتحول الأحياء إلى "موتى على الدروب تسير"، فإن من يرفض هذه الحياة و"يموت" يكون أكثر حياة. هذا ما يمكن فهمه من قول زكريا إنه يبحث "عن طريقة لجعل الموتى يحلون في الأحياء". ألا يعني هذا أنه يريد أحياء أكثر حياة؟ الفكرة نفسها تظهر في الرواية في غير مكان، منها ما يرد في فصل "ثورة الموتى"، حين يتقاطر الموتى عبر الشوارع من أطراف المدينة "حاملين فروعاً أخذوها يابسة ميتة مثلهم فاخضرت في أيديهم". إنه الموت الذي يبعث الحياة إذن.
هل يختار حلوم لشخصيته الرئيسية اسم زكريا اعتباطاً؟ زكريا هو إسماعيل وقد عاد بعد الموت بقميص جديد، فهل للأسماء مدلول؟ لا نعتقد أن حلوم اختار الأسماء اعتباطاً. إسماعيل هو جد العرب، إنه إذن الكناية عن قوم بلغ بهم الضعف والانحطاط والتشتت كل مبلغ، وزكريا هو الكاهن الذي تحققت له بشارة الملاك، ورزق، رغم شيخوخته وعقم زوجته، بولد "لم نجعل له من قبل سميا". فكان اسمه يحيى، مشتقاً من الحياة. كأن في اختياره الأسماء، يؤكد كاتبنا على الضوء الكامن في قلب العتمة، فيقول أن ما يبدو مستحيلاً (ولادة العاقر) سوف يتحقق، وما يبدو موتاً إنما يكتنف الحياة ويضمرها.
تخترع "قمصان زكريا" عالماً يجمع العوالم، كما أشرنا، عالماً لا يطابق ما نألفه من العالم، ولكن عالم الرواية يحافظ، في الوقت نفسه، على ما يطابق عالمنا المعاش، وعلى ما يشكل عصب الرواية، نقصد لا محدودية الشر الذي يجسده "الحاكم" والسلطة المستبدة، ولا محدودية الحب في قلوب الناس. سيلاحظ القارئ كيف يتغلغل الحب في كل مفاصل الرواية، وكيف ينتصر الكاتب للحب بلغة وإحساس عاليين.
يصل الشر إلى حدود القضاء على فقراء المدينة بطوفان ناجم عن انهيار سد عوف، ومحو حارة الجورة، حي الفقراء الذين "جمعهم الفقر خارج مللهم وطوائفهم وعشائرهم". ولكن قسوة عوف ورجاله وتمادي شرورهم، لا تتمكن من الحب، فيبقى ضوءاً ثابتاً يخفف من كثافة ما يشتمل عليه واقع الرواية من أجواء قاتمة.
ورغم القدرة اللافتة لكاتبنا على رصد وتصوير جوانب القسوة والبؤس المتراكم في واقعنا، فإن الرواية يملأها الإيمان بقدرة الحب على اختراق الظلم مهما تراكم، تماماً كقدرة الضوء على اختراق العتمة مهما أظلمت. يعبر هذا الإيمان عن ذاته في العبارات الأخيرة في الرواية حين يرقص المشلولون و"السنديان ينشر الضوء بلا نار، والصنوبر يرسل رائحة البخور إلى بيوت الأهلين، والنارنج يوقظ حنينهم ... وأيوب يخرج من مزاره، ويعبر عتبة مقامه، نحو شروق الشمس".



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن توبيخ السوريين العلويين المتجدد
- نقاش مع كتاب -سؤال المصير- لبرهان غليون
- عن مشكلة الرموز في سورية
- أهمية حركة 10 آب في سوريا
- ماذا ينتظر سورية في المستقبل
- ظاهرة الموالين الغاضبين
- البكالوريا السورية ضحية الغش العام
- السجن يتسلل إلى نفوسنا
- أجراس بعيدة وكتل سياسية في المنفى لقاء برليني مع راتب شعبو/ ...
- الغضب المعزول في فرنسا
- عن قلق المسلمين في الغرب
- هل المثقف السوري طائفي؟
- -حانة الأقدار-
- التحليل السياسي الماورائي
- العزلة هي الشرط الأنسب لنظام الأسد
- عالم الزنازين
- النجاح والفشل في الثورة
- القوات الموازية وتحطيم الدولة في السودان
- الحياكة الناعمة في -أطباق المشمش-
- هل يجرؤ النظام في دمشق على الانفتاح؟


المزيد.....




- اللبنانية نادين لبكي والفرنسي عمر سي ضمن لجنة تحكيم مهرجان ك ...
- أفلام كرتون طول اليوم مش هتقدر تغمض عنيك..  تردد قناة توم وج ...
- بدور القاسمي توقع اتفاقية لدعم المرأة في قطاع النشر وريادة ا ...
- الممثل الفرنسي دوبارديو رهن التحقيق في مقر الشرطة القضائية ب ...
- تابع مسلسل صلاح الدين الايوبي الحلقة 22 .. الحلقة الثانية وا ...
- بمشاركة 515 دار نشر.. انطلاق معرض الدوحة الدولي للكتاب في 9 ...
- دموع -بقيع مصر- ومدينة الموتى التاريخية.. ماذا بقى من قرافة ...
- اختيار اللبنانية نادين لبكي ضمن لجنة تحكيم مهرجان كان السينم ...
- -المتحدون- لزندايا يحقق 15 مليون دولار في الأيام الأولى لعرض ...
- الآن.. رفع جدول امتحانات الثانوية الأزهرية 2024 الشعبتين الأ ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - راتب شعبو - قمصان زكريا، لمنذر بدر حلوم عن الموت الذي يضمر الحياة