أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - راتب شعبو - النجاح والفشل في الثورة















المزيد.....



النجاح والفشل في الثورة


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 7600 - 2023 / 5 / 3 - 13:24
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


هل تفشل الثورة؟
في المجتمعات، كما في المادة، لا شيء يفنى. لا يبقى المجتمع، بعد أي حركة احتجاج اجتماعية، كما كان قبلها، سواء أنجحت الحركة في بلوغ ما خرجت إليه أم لا. في كل حال تودع الثورة في المجتمع حمولة مفيدة للمستقبل.
الكلام عن فشل أو نجاح الثورة فيه قدر من التعسف، فقد تكمن في النجاح بذور فشل تتكشف خلال وقت قصير وتحيل النصر المفترض إلى هزيمة في عيون من خالوا أنفسهم منتصرين. وبالمقابل، قد ينطوي التعثر والفشل على بذور نجاح تهيء، إذا حسن استغلالها، إلى نصر لاحق منفتح الآفاق.
على هذا، يبقى الكلام عن فشل ثورة، كلاماً جزئياً أو لنقل إنه لا يمكن أن يعكس الحقيقة إلا جزئياً، لأنه يغفل ما فعله "فشل" الثورة في المجتمع، وما أودعت الثورة "الفاشلة" في تضاعيف المجتمع من تغييرات سوف تتكشف وتظهر طبيعتها في المستقبل. شيء يشبه القول الشهير لنيلسون مانديلا: "أنا لا أخسر أبداً، أنا أربح أو أتعلم".
بناء على ما سبق، ليس من الخطأ، ولا من باب تعليل آمال المغلوبين، أن نقول هذا القول الواسع في عموميته: إن الثورة لا تفشل في شحن طاقة التغيير في المجتمع. على أن الثورات غالباً ما تكون مكلفة وباهظة الخسائر. ربما لو كان التاريخ يخضع لإرادة واعية من البشر لاختار هؤلاء أن يكون التقدم أكثر سلمية وأقل كلفة بشرية.
لكن كل حركة اجتماعية تضيف إلى وعي الناس وتكشف لهم ما لا تكشفه الحياة المستقرة. كل حركة احتجاج أو تمرد اجتماعي هو تعبير عن خلل تنام عليه الحياة المستقرة وتخفيه. لا يكشف الاحتجاج فقط الخلل الذي تستره الحياة المستقرة حين توحي بأن كل شيء على ما يرام، بل يكشف، إلى ذلك، مدى ملاءمة أو نجاعة سبل مواجهة وتصحيح الخلل المقصود. هكذا تكون حركة الاحتجاج قد أحدثت أثراً مزدوجاً في المجتمع، الأول، هو إبراز زيف "الاستقرار". حتى لو عادت الأمور إلى سابق عهدها، فإن الاستقرار اللاحق لن يكون "بريئاً" كما كان من قبل، بل سيكون، في وعي جزء أوسع من الناس، استقراراً على الخلل الذي أظهره الاحتجاج. والثاني، هو درس الاحتجاج نفسه، أي شكل الاحتجاج ووسائله وطريقته في معالجة الخلل. في حالة النجاح كما في حالة الفشل سيشكل الاحتجاج تجربة محددة وعيانية ومصدراً للتعلم، لا يغني عنه أي مصدر تعلم آخر. فالمرء يتعلم من كيسه، كما يقال، لأنه لا يمكن لأي تجربة خارجية، مهما دُرست أن تغني عن التجربة المباشرة والمحسوسة للمجتمع المحدد. فوق ذلك يمكن القول إن النجاح، أو ما يعتبر نجاحاً، لا يشكل، بحد ذاته، درساً مفيداً لأصحابه، وربما أخفى الكثير من العيوب التي قد يتم النظر إليها لاحقاً على أنها مزايا لأنها كانت جزءاً من تجربة ناجحة. الفشل، والحال هذه، أكثر قدرة على التعليم وإعطاء الدروس.
هل ينجح الاحتجاج على يد أعدائه؟
المطالب التي يخرج الناس من أجلها في احتجاجات أو ثورات، تتحول في الواقع، حين "تفشل" الاحتجاجات، إلى ما يشبه المهام المطروحة على المجتمع وينبغي إيجاد حل لها، أو على الأقل معالجتها بشكل يخفف الوطأة على المحكومين. بكلام آخر، الاحتجاجات، حتى حين تتعرض للقمع وتعجز عن بلوغ مطالبها، تفرض على السلطات القائمة أن تعالج ما خرج الناس لأجله، لكي تحافظ هذه السلطات على سيطرتها، فالاحتجاج هو مؤشر على خلل وصل إلى حد غير محتمل، ومن مصلحة السلطات أن تعالجه. صحيح أن معالجة السلطات القائمة ستكون أقل عمقاً وجذرية مما يريد أهل الاحتجاج، ولكن تبقى الاستجابة المفروضة على السلطات، وما ستقدم عليه من "إصلاح"، إحدى ثمار الاحتجاج وإن جاء على يد السلطات التي يحتج الناس ضدها، أي هو نجاح نسبي للاحتجاج ولكن على يد أعدائه. في هذا ما يدعم الرأي الذي يقول إن الثورة لا تفشل بصورة تامة.
يلفت فوكوياما النظر إلى هذه الحقيقة في كلامه عن ثورات 1848 في أوروبا، حين يقول "أثبتت العقود التي تلت عودة النظام المحافظ، مباشرة بعد 1848، أنها العقود الأكثر تحولاً اقتصادياً واجتماعياً في التاريخ الأوروبي (...) فاندلاع الثورة، والخوف من احتمال تكرارها، بقيا في أذهان كل القادة الاستبداديين في القرن التاسع عشر، ووضعا أجندة التغييرات السياسية التي تكشفت لاحقاً في الجيلين التاليين" .
حتى حين تكون المطالب عالية ولا يمكن "للأعداء" تطبيقها، كما هو حال الثورات العربية التي طالبت بإسقاط النظام، فإن "النظام"، إلى جانب الارتداد العنيف ضد المحتجين، سوف يسعى أيضاً إلى نزع ما يستطيع من أسباب الاحتجاج عن طريق تقديم "إصلاحات" تعالج العيوب التي دفعت إلى الخروج ضد النظام. وحين نقول "ما يستطيع" نقصد أن الموضوع يتوقف على قدرة النظام على الاستجابة دون أن ينهار، أكثر مما يتوقف على الرغبة أو الإرادة. لكل نظام حدود بنيوية لا يستطيع التجاوب خارجها، على أن تكرار التجاوب تحت ضغط الحاجة والاحتجاجات من شأنه أن يدفع إلى تعديلات عميقة تطال البنية الأساسية للنظام.
حتى البلدان العربية التي لم تشهد احتجاجات شعبية مهمة، تأثرت بالحركة الشعبية الواسعة التي شهدتها البلدان الأخرى، وقد حاولت السلطات في معظم البلدان العربية استباق بروز احتجاجات ممكنة، برفع بعض المظالم وتحسين حال الناس، ولاسيما من خلال رفع الرواتب والأجور، الأمر الذي شهدناه في المرحلة الأولى من احتجاجات الربيع العربي.

محدودية استجابة النظام السوري
كانت قدرة النظام السياسي في سوريا على الاستجابة للشارع محدودة بطبيعة الحال، بسبب محدودية قاعدته السياسية، ذلك لأنه لا يمتلك مشروعية سياسية، فهو نظام أمر واقع (نظام انقلابي أسس لنفسه بالقوة واستمر يؤسس لأبديته القائمة على قهر إرادة الناس، بدلاً من تأسيس آلية لإنتاج شرعية سياسية مستمدة من إرادة الشعب الحرة التي لا تتوافق مع أبدية أي نظام). كما أن النظام الأسدي لا يمتلك مشروعية تنموية لأنه نظام يستهلك طاقته في الانشغال الأمني لحماية الذات، ويقوم لذلك على النهب والفساد كوسيلة للحفاظ على تلاحم وتجديد دائرته الضيقة (النومنكلاتورا) ، ما يجعل النظام السياسي عبئاً على الاقتصاد الوطني ويؤدي إلى ضعف اقتصادي مستمر وزيادة في اللامساواة. إلى جانب الضعف الاقتصادي الذي ينعكس سلباً على حياة السوريين، فإن الفساد الذي يغرق فيه أهل النظام ولاسيما الدائرة العائلية القريبة من رأس النظام ومحاسيبها، إضافة إلى ظاهرة التشبيح (اغتصاب حقوق الناس من قبل زعران تابعين لأذرع رسمية أو غير رسمية للنظام، وبحماية ودعم من أجهزة الدولة) وهو أحد مظاهر "خصخصة الدولة"، نقول إن ذلك أفقد نظام الأسد أي سند أخلاقي يمكن أن تجده تجاه أنظمة مستبدة أخرى، لا يقوم استبدادها على النهب بل يقوم على تصورات سياسية عامة حول تطوير المجتمع، دون أن تحتوي على ظاهرة إثراء ومحاباة عائلية ومحسوبيات.
هكذا فإن محدودية القاعدة السياسية للنظام السوري تجعل من تحرير المستوى السياسي، وهو المطلب أو المحرك الأول للاحتجاجات، نهاية محتومة له. لا يجد النظام والحالة هذه أمامه سوى مواجهة الاحتجاجات بالعنف. وعلى اعتبار أن أي ممارسة عنيفة تحتاج إلى تغطية إيديولوجية سياسية، فقد اعتمد النظام في ذلك على خطاب معلن يقول إن هناك مؤامرة على الدولة السورية، محاولاً الاستثمار فيما للفكرة الوطنية من رصيد لدى السوريين. واعتمد خطاباً مستوراً موجهاً إلى الداخل، يقوم على إثارة الانقسامات الهوياتية بين أبناء المذاهب والأديان والقوميات وتغذيتها والاستثمار من التفكك الذي تنتجه، وخطاباً آخر موجهاً إلى الخارج، يقوم على إبراز الجوانب الإسلامية في الاحتجاجات للاستثمار في حساسية الغرب من الإسلام وما ارتبط به، ولاسيما منذ بداية القرن الحالي، من أعمال إرهابية ضد الغرب.
ولكن، إلى جوار العنف، وضمن هذه القدرة المحدودة، استجاب النظام، مع ذلك، بإجراءات مثل زيادة الرواتب وتجنيس مئات آلاف الكرد الذين كانوا حتى ذلك الوقت محرومين من الجنسية السورية، وتعديل الدستور السوري وإلغاء المادة الثامنة الخاصة باعتبار حزب البعث قائداً للدولة والمجتمع، وإلغاء قانون الطوارئ وحل محكمة أمن الدولة العليا ... الخ، هذه الخطوات كانت مسعى من النظام لامتصاص ضغط الحراك الشعبي، وهو ما يمكن اعتباره "نجاحات" للحراك ولكن على يد أعدائه، أي على يد النظام الذي خرج المحتجون لإسقاطه. ومن المفهوم أن تكون هذه "المكاسب" خاضعة دائماً لقوتين، قوة الميل الاستبدادي الذي تفرضه بنية النظام في دفاعها الذاتي ضد التغيير، وقوة التحرر التي تستمد نسغها من سعي الناس للخلاص من التبعات السياسية والاقتصادية لبنية الاستبداد المكرسة. على هذا، رأينا أن ما "قدمه" النظام للمحتجين، في مسعى لامتصاص طاقة الاحتجاج، تبخر مع تعثر الثورة، وازداد حال السوريين سوءاً.

التفسيرات المتداولة لتعثر الثورة السورية
كتب الكثير في تفسير المصير الذي انتهت إليه الثورة السورية، وكانت المسارات العامة للتفسير تتراوح بين تيارين عامين، الأول هو التأثير الخارجي ودوره في "فشل" الثورة، سواء من جهة دور الدعم في تخريب الثورة، أو من جهة موقف الخارج من تغيير النظام. والثاني هو تأثير الداخل السوري، سواء لما يحوي من تنوع وقابلية للانقسام على أساس هوياتي يفوق ويعرقل انقسامه على أساس سياسي، أو لتأثير طبيعة المعارضة السورية من حيث تشتتها وتنافر عناصرها أو من حيث خياراتها السياسية.
1. العلاقة مع الخارج والتأثير الخارجي
يقول التفسير إن المشكلة تكمن في الدعم الخارجي، لأنه ربط الثورة بشروط "خارجية" قيدتها، ورهنت تطورها بحلقة صراع مصالح إقليمي ودولي، وجعلت من الممثلين السياسيين للثورة، ولاسيما "المجلس الوطني" ثم "الائتلاف الوطني"، أدوات في يد الخارج "الداعم" وليس في يد الثورة. وهكذا فإن التشكيل الذي يفترض أنه يمثل الثورة، لم يكن "صوته من رأسه"، ولذلك فشل في القيادة وفي حيازة قيمة اعتبارية ثورية كما في الداخل كذلك في الخارج. انتهى الأمر بالتالي إلى الإضرار بصورة الثورة وذهاب ريحها.
يطرح على هذا التفسير أسئلة مهمة: لماذا لم يتطور تمثيل الهيئات التمثيلية التي بقيت في الداخل؟ وإذا كانت هذه الهيئات الداخلية غير جديرة بالثقة، لماذا لم تنشأ تمثيلات داخلية أخرى تملأ فراغ التمثيل الذي نجم عن انفكاك العلاقة بين الثورة وتمثيلها "الخارجي"؟ في الواقع امتلأ هذا الفراغ في الداخل ولكن ليس ببروز تمثيل ديموقراطي من طينة الثورة، إنما ببروز تمثيلات إسلامية بالتوازي مع التحول العسكري واللاديموقراطي للثورة. أي إن ملء هذا الفراغ سار مع انزياح قيم الثورة إلى الهامش أكثر فأكثر، وعزز انفكاك التمثيل الخارجي عن جسد الثورة، سنعود لاحقاً إلى هذه الفكرة.
يتوسع هذا التفسير إلى القول إن سخاء الدعم الخارجي أدى في تضاعيفه، ليس إلى دعم الثورة بل بالأحرى إلى فساد الهيئات التي جرى الاعتراف الدولي بها بوصفها ممثلة للثورة، فأصيبت هذه الهيئات مبكراً، وقد جرى المال السهل بين أيديها، بمرض السلطات المفروضة على الشعب والبعيدة عن الرقابة وعن المحاسبة (الفساد)، وهذا ما زاد، في الواقع، من انفصالها عن القضية التي يفترض أنها تتولى تمثيلها. يبقى السؤال مع ذلك، كيف يمكن لهيئة تمثل ثورة، أي تمثل أقصى حالات الحضور الشعبي المباشر في المجال السياسي، أن تكون فاسدة؟ كيف نفسر فشل الثورة في أن تسقط العناصر الفاسدة من الهيئة السياسية التي يفترض أنها تمثلها؟
كما قد يقال إن مشكلة الدعم الخارجي هي أنه كان شحيحاً بالسلاح، وأن التردد الخارجي في موضوع السلاح النوعي (مضادات الدروع ومضادات الطيران)، إضافة إلى امتناعه عن فرض مناطق حظر جوي، هو ما أفشل الثورة وحرمها من إمكانية إسقاط النظام الذي بقي متفوقاً في الميدان العسكري، ولاسيما في سلاح الجو. ويذهب قول آخر إلى أنه رغم ذلك، أي رغم الشح بالسلاح، كان يمكن إسقاط النظام بالسلاح المتوفر، لولا الخطوط الحمر التي وضعت، من الخارج، في وجه قوى الثورة، فقد كان هناك قرارات خارجية منعتها من التقدم في مناطق معينة في لحظات معينة. تبقى هذه الأقوال في إطار التحليلات والافتراضات لأنه لا يوجد ما يوثق هذا التحليل.
هنا أيضاً، فيما يتعلق بالتحول العسكري نفسه، واعتباره أيضاً قراراً خارجياً، مثله في ذلك مثل سيطرة اللون الإسلامي الذي ازداد كثافة مع ازدياد كثافة السلاح، يمكن ملاحظة مفارقة بين التحذير العام، في بداية الثورة، من التحول العسكري بوصفه مصيدة ومقتل للثورة، وبين تحميل مسؤولية فشل الخيار العسكري، الذي كان يعتبر خياراً فاشلاً بذاته، إلى تقصير الخارج في تقديم السلاح. هذه المفارقة تضيء على تحول جرى في وعي أهل الثورة، من تصور يقول بانتصار الثورة التي تطالب بإسقاط النظام باسم الحريات والعدالة، إلى القول بإسقاط النظام بأي شكل. صحيح أن هذا التحول جاء تحت ضغط العنف الوحشي للنظام، ويمكن القول إنه كان استجابة "عفوية" لقمع لم يترك للمحتجين سبيلاً آخر سوى الاستسلام، ولكنه يبقى تحولا مهماً ينبغي ملاحظته والتوقف عنده. وبعد أن تكرس هذا التحول، الذي نكتفي هنا برصده دون مناقشته، بات يجري الدفاع عنه بالقول: ليس المهم كيف، المهم أن يسقط النظام، ثم لكل حادث حديث.
2. دور موقف الخارج من تغيير النظام
هناك تفسير آخر يربط تعثر الثورة بعدم رغبة الخارج بتغيير نظام الأسد، وربط هذا الموقف الخارجي أساساً بإرادة إسرائيل، لعل هذا من التفاسير الأكثر شيوعاً. من المريح للمرء أن يستند إلى تفاسير بهذه السهولة. يرتاح المرء بذلك من التحليل والتدقيق في مجال صراع شديد التعقيد، وينسب النتيجة إلى إرادة "عليا" وكأنها لا تُرد. يكثر سماع عبارات نهائية مثل "لو أرادت أميركا أن تسقط النظام لسقط"، أو عبارة مثل "إسرائيل لا تريد أن يسقط النظام، نقطة على السطر".
يفشل هذا الرأي في رؤية الخارج بوصفه قوة نسبية، أي إن مواقفها ليست مستقلة تماماً عن احتمالات تطور الصراع الداخلي وعن توازنات القوى فيه. صحيح أن للقوى الخارجية فاعلية أكيدة ووزن في التأثير على الحدث، لكن هذا لا يعدو كونه عنصراً مهماً من عناصر أخرى لها دورها في تقرير مصير الحدث، ولها تأثيرها أيضاً على موقف الخارج نفسه.
تعظيم دور الخارج في وعي المعارضة قاد إلى خلل "نفسي" لدى قادة المعارضة تجلى في انشغالهم باقتسام جلد الدب قبل صيده، على اعتبار أن الخارج هو من سوف يصطاد الدب. فأصبحنا أمام مشهد صراعات داخل المعارضة على تقاسم السلطة قبل استلام السلطة. أساس هذا الخلل هو شيوع أوهام التدخل الخارجي لدى قادة المعارضة. يلاحظ هذا الجانب أحد المشاركين المهمين في الدوائر الرسمية للمعارضة السورية: "إذا كان هناك تدخل خارجي سيتكفل بإسقاط الأسد، كما اعتقد معظم قادة المعارضة، فما الذي يسوغ تضييع وقتهم على ما سينجزه الآخرون خيراً منهم، وفي وقت أقصر بكثير من الوقت الذي سيحتاجون إليه لإسقاطه؟ أليس من الأجدى القفز عن مرحلة ليس لهم فيها دور حاسم، إلى المرحلة التالية لها: مرحلة ما بعد الأسدية، وتركيز جهودهم على الفوز بأكبر قدر من السلطة لأحزابهم وأشخاصهم" .
3. دور الطبيعة الانقسامية للداخل السوري
يذهب كثيرون إلى أن خطوط الانقسام الهوياتية الكامنة في المجتمع السوري هي السبب في المصير الذي انتهت إليه الثورة السورية. ذلك أنه في كل حراك سياسي، فإن هذه الانقسامات سرعان ما تشوش وتتغلب على الانقسامات السياسية التي تفرز الناس وفق نظرتهم ومصالحهم الحياتية وتحدد بالتالي مواقفهم في الشأن العام. ويكون ذلك بارزاً أكثر كلما كان الحراك أكثر قوة وأكثر تهديداً للنظام. الانقسام الأساسي الذي فجر ربيع 2011 في سوريا، كان انقساماً سياسياً بين طغمة حاكمة تلتف حول نواة عائلية صلبة، وبين المحكومين الذين يعيشون في حال سيء منذ عقود، وخرجوا، مع موجة الاحتجاجات التي شملت العديد من البلدان العربية، في احتجاجات متصاعدة ضد حكم طغمة الأسد. ولكن سرعان ما أحيل الانقسام السياسي إلى الهامش، لصالح انقسامات هوياتية ذات طابع طائفي أو قومي، الأمر الذي ساهم في تشتت قوة الثورة، وفي تحول الصراع الداخلي في سورية إلى تابع هزيل لصراعات إقليمية ودولية بات السوريون وقوداً لها.
يتصل بهذا الرأي رأي آخر يقول إن من أهم أسباب فشل الثورة هو سيطرة الإسلام السياسي فيها، وما يجره ذلك من تفتيت للمجتمع ومن نفور قسم مهم من المجتمع السوري، فضلاً عن نفور المجتمع الدولي، ولاسيما مع بروز الجانب الجهادي المسلح.
يبقى السؤال عن سبب فشل الرابطة المدنية في التغلب على الرابطة الأهلية في بلد مثل سوريا، هل يتعلق الأمر ببنية المجتمع نفسه أم بثقافته أم يتوقف الأمر على الإرادة، وكيف يمكن أن يتحقق ذلك، أي كيف يمكن تغليب الرابطة المدنية على الرابطة الأهلية في الشأن العام؟
4. دور الطبيعة الخاصة للمعارضة والمثقفين في سورية
هناك حضور لرأي آخر يرد الفشل إلى "عطب الذات"، أي إلى خلل في البنية السياسية والنفسية والشخصية للمعارضة والمعارضين السوريين، الأمر الذي أفضى إلى غياب القيادة في الثورة، أي غياب "نخبة سياسية متفاهمة ومتكاملة ومتعاونة لتحقيق أهداف الشعب أولاً وتوحيد صفوف المعارضة وصفوفه معاً" . يذهب في هذا الاتجاه الكاتب السوري الكردي عبد الباقي صالح اليوسف الذي يرى أن الانتفاضة السورية لم تتحول إلى ثورة لافتقادها القيادة المشتركة، مستشهداً برأي مشابه لجورج طرابيشي في أحد حواراته . المشكلة إذن، حسب هذا الرأي، ليست في المجتمع بل في النخبة التي ندبت نفسها إلى العمل في معارضة النظام.
بحسب برهان غليون، الرئيس الأول للمجلس الوطني السوري، وأحد أبرز من كتب وانتقد قيادة المعارضة في فترة الثورة، أن الثورة "أثارت معركة داخل المعارضة السورية الضعيفة والمتهافتة لحسم الصراع المزمن بين شخصياتها القيادية، وتكتلاتها الرئيسية"، ما أدى إلى "بث الفوضى الفكرية والسياسية والتنظيمية داخل صفوفها وتفجير التناقضات والنزاعات الكثيرة الكامنة فيها العقائدية والتنظيمية والمذهبية والمناطقية" .
حسب الرأي السابق، ليست المشكلة في المعارضة إنما أيضاً في المثقفين السوريين الذين لم يلتقطوا فرصة قيام المجلس الوطني بعد شهور من التعثر، ويدعموه، بل تحولوا، بدلاً من ذلك، إلى قوة هدم رئيسية له. منهم من تجاهل المجلس الوطني على أنه لا يشكل بديلاً مختلفاً عن النظام، ومنهم من انتقد برنامج المجلس القائم على طلب التدخل الخارجي وراحوا يسمونه "مجلس استنبول"، جرياً على تسمية أطلقها نظام الأسد، و"القسم الثالث، الأشرس بين الجميع، فقد نظر إلى المجلس بذاته على أنه انتزاع "اللقمة" من فمه بعد أن أفنى أشهراً يركض وراءها عبر مؤتمرات ومداخلات إعلامية ومناورات سياسية لم تتوقف. وهو الذي جعل من تهشيم سمعة المجلس وتعقب أخطائه وزلاته والتهجم على قيادته (...) واجباً ثورياً ووطنياً" .
5. دور خطأ الخيارات السياسية
يوجد أيضاً من يعيد تعثر الثورة السورية إلى الخيارات السياسي التي مشت بها المعارضة السورية. لا يصمد هذا التفسير للنقد في حقيقة الأمر، ذلك أن كل طيف المواقف الممكنة كان لها حضور في المعارضة السورية التي لم تكن موحدة في أي وقت. كان هناك من مال إلى الحوار مع النظام وانتقد التصعيد والقطعية والاعتماد على الخارج، وكان هناك العكس. هناك من رفض التسليح ومن سار مع التسليح. وهناك من ابتعد عما اعتبره لغة طائفية، وهناك من استخدم ما اعتبره لغة واقعية تسمي الأشياء بأسمائها ... الخ. وكان لكل من هذه الآراء حضور تنظيمي ومنابر. لم يؤد الزمن إلى تبلور التيار "المناسب" وتحوله إلى اتجاه عام، كما يفترض أن يحدث. ما جرى، مع الزمن، هو تراجع المعارضة ذات السقف الأعلى عن سقفها العالي، ولكن التراجع لم يأت في سياق "تفاوضي"، بل جاء نتيجة تراجع وزن المعارضة السياسية وضعفها المتزايد، لذلك لم يكن لهذا التراجع أثر وازن في إيجاد مخرج، بل ساهم في زيادة تصلب موقف النظام الذي لم يغير من موقفه من الثورة ومطالبها الأساسية، حتى في أشد لحظاته ضعفاً.
يمكن القول إن تشتت المعارضة كان أكثر خطراً على مصالح السوريين المنتفضين من الخيارات السياسية التي مشت بها. الانقسام بين ما سمي معارضة خارج (بسقف عال) ومعارضة داخل (بسقف أخفض) سمح بفتح ثغرة في جبهة المعارضة كان من شأنها أن تفرغ طاقتها، وتشوش على طروحاتها. لكن مع ذلك، لم يكن لعدم وحدة المعارضة أن يكون مؤثراً، لو امتلك أي قطب معارض ما يكفي من القوة لكي يفرض نفسه على العالم. وقوة أي تمثيل للثورة يأتي من صلته بالثورة ومن قدرته على استجرار الطاقة والوزن السياسي منها، وهذا ما لم يتحقق في مسار الثورة السورية، كما سنعرض لاحقاً.
6. دور بطش النظام
قد يكون من بين أكثر الآراء شيوعاً، الرأي الذي يذهب إلى أن القوة المفرطة والإجرامية التي واجه بها النظام، بكل أجهزته الرسمية وغير الرسمية، هي المسؤولة الأولى عما آلت إليه الحال في سوريا. فهي المسؤولة عن التحول العسكري في الثورة وما استجره ذلك من تبعات. في حين كان معظم مناصري الثورة يحذرون من التحول الى السلاح، صار معظمهم يساندونه بعد أن صار واقعاً، وبعد أن تبين أن الخيار المطروح على الحراك هو بين الاختناق تحت ثقل الآلة العسكرية والأمنية للنظام، وبين الاستمرار المسلح. ثم استجر هذا التحول دخول عنصرين متلازمين، الأول هو تغلغل الإسلام الجهادي في جسد الثورة، والثاني هو تغلغل الدول الداعمة، نظراً إلى حاجة المواجهة المسلحة مع النظام إلى دعم مالي وعسكري لا يمكن الاستغناء عنه. ويكمن في أصل هذه التحولات كلها، كما قلنا، السياسة الأمنية للنظام الهادفة إلى إخماد الحركة بالنار.
تفكك أو ضعف العلاقة بين مكونات الثورة
التفسير الأقرب إلى عقلنا في فهم تعثر الثورة السورية يقول إن العلة الأساسية التي أنهكت الثورة، هي تفكك أو ضعف العلاقة، أو قل عدم نشوء علاقة وثيقة بين مكونات الثورة التي بقيت عملياً دون تمثيل. وقد تجلى ذلك في النقاط التالية:
1. تعدد التشكيلات السياسية التي تريد أو تزعم تمثيل الثورة، دون أن يجمعها إطار تنسيقي واحد، ما برز على شكل تباينات في المواقف والتوجهات، ثم على شكل صراعات بين هذه التشكيلات ، الأمر الذي شتت الطاقة السياسية للاحتجاجات وحرم الثورة من القدرة على حصاد ثمار سياسية من قوتها في الشارع. كما فتح المجال أمام نظام الأسد للمراوغة والكلام عن معارضات سورية وليس معارضة، كما جاء على لسان بشار الجعفري: "لا يستطيع فصيل معارض واحد أن يحتكر الصفة التمثيلية لجميع الفصائل (...) وعندما تصل المعارضات إلى قاسم مشترك، عندها نقول المعارضة تطالب" . وفتح ذلك أيضاً المجال للدول المنخرطة في الشأن السوري كي تصنع معارضات مناسبة لها. معلوم أن هناك بعض التشكيلات المعارضة التي تحمل أسماء عواصم هذه الدول.
2. الاعتراف الدولي الواسع بالمجلس الوطني السوري (تشرين أول/أكتوبر 2011 – تشرين ثاني/نوفمبر 2012) ثم بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية من بعده، أعطى وزناً مهماً لتشكيل معارض واحد، أي أنه فرض قدراً لا بأس به من الوحدة السياسية على المعارضين السوريين وتجاوز إلى حد ما التعدد والتشرذم في التمثيل السياسي للثورة. غير أن هذا لم يعالج مشكلة ضعف العلاقة بين الثورة السلمية وتمثيلها السياسي المعترف به دولياً، فقد ظل هذا التمثيل مقطوعاً عن الحركة في الداخل من حيث أنه لا يملك فاعلية قيادية فيها، واقتصر فعله على الظهور بدور ممثل الثورة أمام الخارج، مع افتقاده إلى حد كبير إمكانية التأثير على الحراك أو قيادته. بمعنى آخر، كان التمثيل صدى للحراك أكثر مما كان قائداً له. وكان من نتيجة ذلك أن اتخذ الحراك مساراً "عفوياً" دون قيادة، فكان بدوره صدى للسياسة الأمنية الوحشية للنظام، الأمر الذي جعل الحراك لقمة سائغة لأصحاب النفوذ الفكري (صنوف الإسلاميين) والمادي (دول الخليج).
هذا الواقع حرم الثورة من أن يكون لها قيادة، وأورث التشكيل السياسي المعترف به دولياً (المجلس، الائتلاف) شعوراً صائباً بالخواء السياسي. لم يكن لدى من يفترض أنهم ممثلو الثورة، قوة من يقودون حقاً، لأنهم بالفعل لم يكونوا في قيادة ثورة، كانوا في أحسن الأحوال، سعاة لدعم حراك لا يمونون عليه، ولذلك كانوا ضعفاء أمام الدول التي يطلبون عونها، وكانت هذه الدول تعاملهم على أنهم ضعفاء، لأنها تعلم حقيقة ضعف علاقتهم بالثورة، أي ضعف وزنهم وتأثيرهم .
3. ضعف العلاقة بين التمثيل السياسي والمكونات العسكرية. نشأ الجيش الحر قبل نشوء المجلس الوطني السوري، وبطريقة مستقلة عن كل التشكيلات السياسية. ولم يكن للمجلس الوطني سيطرة على قادة الكتائب الذين ارتبطوا بممولين لا تأثير للمجلس عليهم أو حتى لا يعرفهم. وكان أبرز قادة الجيش الحر، العقيد رياض الأسعد، ينظر إلى نفسه على أنه قائد سياسي، وينظر إلى المجلس على أنه منافس. هذا قبل أن تتشكل الكتائب الإسلامية التي تعادي صراحة المجلس. إذا علمنا أن الثقل العسكري الذي واجه النظام وأجبره على الانسحاب من مناطق واسعة من سورية، كان ثقلاً إسلامياً مستقلاً عن "الممثل السياسي للثورة"، ومعادياً لفكرة الديموقراطية، نلمس إلى حد كان ثمة تفكك في العلاقة بين عناصر القوة الدافعة باتجاه تغيير نظام الأسد. والحق أن الأمر تعدى التفكك إلى التعادي والصراع والتكسير المتبادل.
4. المكونات العسكرية التي نشأت عقب الثورة كانت عديدة وذات مرجعيات تمويلية وتبعيات سياسية متعددة، وهذا قاد إلى صراعات بينية كان من نتيجتها، كما هو الحال غالباً في مثل هذه الصراعات، تلاشي التشكيلات الأكثر اعتدالاً، وبروز التشكيلات الأكثر تشدداً. على كل مستوى من الفاعلية داخل إطار مواجهة نظام الأسد، تضع يدك على تفكك في العلاقة، تسربت من خلاله الطاقة التغييرية وانعكس خراباً على أهداف السوريين وأرواحهم.
التفكك المذكور، تضافر مع الأسباب الأخرى في علاقة تأثير متبادل انتهت إلى شلل عملية التغيير، وتحولها إلى صراع عسكري تابع لصراعات بين دول وأحلاف، كان من نتيجته الانقسام والتقسيم الواقعي الذي تعيشه سوريا اليوم.
ما وراء أسباب التعثر
لا يخلو أي سبب مما سبق من فاعلية ووجاهة، ولكننا نعتقد أنه يجب البحث فيما يجعل هذه الأسباب فاعلة، أو فيما يسهّل تضافر العوامل السلبية ويعيق مسار تقدم الاحتجاجات نحو أهدافها الأولى، وما يجعل عناصر النجاح، غير القليلة في الثورة، متعثرة. إن ملاحظة النهايات المتشابهة لثورات الربيع العربي، رغم اختلاف شروط وتفاصيل كل منها، توجب البحث في أسباب أكثر عمقاً، تشمل في الواقع مختلف هذه التجارب.
من الصعب أن ينكر أحد أنه توفر للثورة السورية الكثير من أسباب النجاح، انتشار شعبي واسع، وجمهور كبير ثابت الإرادة والإيمان بمطالبه، وشديد الحماس والاستعداد للتضحية، كما توفر لها قيادات محلية (تنسيقيات) ثم مجالس محلية وعقول مدبرة وأفكار مبتكرة على صعيد الحركة والفعل والتنظيم، وتوفر لها دعم إعلامي ومالي وسياسي لم نكن لنتوقعه حتى في زهوة التفاؤل. هذا فضلاً عن الأحقية الأخلاقية والسياسية التي تمتعت بها الثورة، ولاسيما في مراحلها الأولى، قياساً على النظام السياسي الذي انطلقت لمواجهته. وقد تبين أن كل هذا لا يكفي لنجاح الثورة، ما يحرض على التفكير في الأسباب التي يمكن أن تجعل احتمال تفكك مجتمع ما وانهيار إطاره السياسي، قابلاً للتحقق أكثر من احتمال خروجه من "أزمة الحكم" ونجاحه في الخلاص من قيوده.
من رأي فرنسيس فوكوياما أن ثورات الربيع العربي أقرب إلى الثورات الأوروبية في منتصف القرن التاسع عشر، ما يسمى "ربيع الشعوب"، منها إلى الموجة الثالثة من الديموقراطية التي شملت بعض دول أمريكا اللاتينية بدءاً من سبعينات القرن الماضي وشملت بلدان ما كان يعرف بالمنظومة الاشتراكية منذ أواخر العقد التاسع منه. يشير فوكوياما إلى أن بلدان الموجة الثالثة كانت لها بعض الخبرة الديموقراطية في تجربتها الوطنية السابقة، قطعها استيلاء الجيش على السلطة في أمريكا اللاتينية، والاحتلال الأجنبي في أوروبا الشرقية، الشيء الذي لا تعرفه بلدان الربيع العربي، وهو ما يجعلها من هذه الناحية أقرب إلى أوروبا القرن التاسع عشر.
هناك فروق يذكرها فوكوياما منها الثقافة الإسلامية، "هناك عامل ثقافي واضح عقد بشدة، وما يزال يعقد، إمكانية قيام الديموقراطية في الشرق الأوسط هو الإسلام" ، دون أن يعتبره عقبة ثابتة في وجه الديموقراطية، لأن النظم الثقافية الكبرى تقبل تأويلات متعددة، أي إنها مرنة وتستجيب للقوى المؤثرة في الواقع: "مع مرور الزمن، كل النظم الثقافية الكبرى والمعقدة يمكن، وقد جرى بالفعل، تأويلها بطرق شتى" . يدعم كلامه بالقول، "على امتداد جيل ما بعد الاستقلال والتحرر من الاستعمار، كانت الوطنية العلمانية مصدر الهوية الأساس في الشرق الأوسط. لكنها فقدت مصداقيتها بحلول السبعينات لفشلها في إنتاج نمو اقتصادي مشترك مستدام، ولفشلها السياسي في التعامل مع قضايا مثل الصراع العربي الاسرائيلي" .
غير أن الفارق المهم عن أوروبا هو أن القوى التي تدفع باتجاه الديموقراطية في بلداننا، على خلاف الحال في أوروبا في القرن التاسع عشر، هي قوى غير أساسية في عملية الإنتاج. من يطالبون بالديموقراطية هم غالباً جمهور يجري طرده من عملية الإنتاج بالأحرى، ويجري تهميشه وإفقاره. الطبيعة الاستبدادية للأنظمة القائمة في الوطن العربي، ارتبطت في وعي هذا الجمهور بالإفقار والتهميش، وباتت المطالبة بالديموقراطية التي تتضمن إسقاط هذه الأنظمة، مرتبطة لديهم بالعدالة الاجتماعية. الحراك الشعبي هو ضغط على البنية السياسية للنظام من خارج عملية الإنتاج إلى حد كبير. والأسوأ من ذلك أن تجدد العمليات الاقتصادية في هذه البلدان لا يدفع باتجاه توسيع الحريات والقاعدة السياسية للنظام، ما يجعل إنجاز المهمة الديموقراطية أكثر صعوبة، إذ على العمل السياسي والمدني الإرادي المنظم أن يقوم وحده بالمهمة. هذا الواقع يعطي للعناصر السياسية، حتى الطارئ منها، مفعولاً زائداً في تقرير مصير حركة احتجاج تطالب بالديموقراطية.

خاتمة
بعض التفسيرات المتداولة عن التعثر والتبدل في الثورة السورية اهتمت بمستوى يتعلق بالثورة نفسها، المستوى الإرادي أو الذاتي، وبعضها الآخر اهتم بمستوى يتعلق بالمجتمع والمحيط العالمي الأوسع، المستوى الموضوعي. من جهتنا ركزنا على التفكك في مكونات الثورة بشكل أهدر طاقتها، وحرمها من تحويل هذه الطاقة إلى نتائج سياسية. وأشرنا إلى صعوبة المهمة الديموقراطية في مجتمعاتنا نظراً للهامشية الاقتصادية للمطالبين بها.
وجدنا من المفيد أيضاً تحديد المعنى المقصود عند الكلام عن فشل أو تعثر الثورة، هل نقصد الفشل في إسقاط النظام، الفشل الذي يتجلى في بقاء نظام الأسد إلى اليوم؟ أم نقصد الفشل في الحفاظ على الروح الديموقراطية التي انطلقت بها الثورة، الفشل الذي تجلى في سيطرة تنظيمات إسلامية ليست الديموقراطية ضمن المفردات الأساسية لبعضها، في حين أن بعضها الآخر يناصب هذا المفهوم العداء ويعتبره كفراً، بكل بساطة؟
مهما كان المعنى المقصود، سنجد أنه، في المدى الزمني المباشر، ينطبق على ما انتهت إليه الحال في سوريا. هذان فشلان متلازمان في التجربة السورية. النظام ساهم في تغذية النزوع الإسلامي في الثورة وصولاً إلى سيطرة أكثر التنظيمات الإسلامية رفضاً للديموقراطية، والسيطرة الإسلامية ساهمت بدورها في تعزيز بقاء النظام، حسب الآلية التي سبق ذكرها. مع ذلك فإن التجربة المريرة التي عاشها المجتمع السوري خلال العقد المنصرم، سوف تشكل قاعدة ومنبع للمزيد من التبصر والتفكير في طرق التحرر الممكنة. أي إن ما يبدو فشلاً اليوم، ينطوي على قدر من مقدمات النجاح غداً.



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القوات الموازية وتحطيم الدولة في السودان
- الحياكة الناعمة في -أطباق المشمش-
- هل يجرؤ النظام في دمشق على الانفتاح؟
- الحل الأمني على الطريقة الفرنسية
- هل نقلق على الديموقراطية؟
- عن داعش في ذكرى معركة الباغوز
- الثورة السورية وتحرير الدولة
- سيرة طبيعية للانتقال من خارج السجن إلى داخله (2)
- الحرب في أوكرانيا، سياسة -بناء- الأزمات المستعصية
- فشل الانفتاح العربي على دمشق
- إسكوبار في -ناركوس-، تاجر مخدرات بعقلية صاحب قضية هل يمكن لل ...
- رفع العقوبات الأمريكية والعقوبات الأسدية
- الزلزال بين السياسة والوجدان
- سيرة طبيعية للانتقال من خارج السجن إلى داخله
- بين سلطتين، الاحتلال والاستبداد
- عن تزايد العمليات الفلسطينية الفردية
- عن ثلاثة حروف منفصلة تتصل بحياتنا
- ملاحظات على الاحتجاجات في فرنسا
- هل يكون الفشل السوري منطلقاً للنجاح؟
- في امتناع وجود معارضة سورية


المزيد.....




- بريكس منصة لتشكيل عالم متعدد الأقطاب
- رئيس الأركان الأوكراني يقر بأن الوضع على الجبهة -تدهور- مع ت ...
- ?? مباشر: وفد حركة حماس يزور القاهرة الاثنين لمحادثات -وقف ...
- منظمة المطبخ المركزي العالمي تستأنف عملها في غزة بعد مقتل سب ...
- استمرار الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين في الجامعات الأميركية ...
- بلينكن ناقش محادثات السلام مع زعيمي أرمينيا وأذربيجان
- الجيش الأميركي -يشتبك- مع 5 طائرات مسيرة فوق البحر الأحمر
- ضرب الأميركيات ودعم الإيرانيات.. بايدن في نسختين وظهور نبوءة ...
- وفد من حماس إلى القاهرة وترقب لنتائج المحادثات بشأن صفقة الت ...
- السعودية.. مطار الملك خالد الدولي يصدر بيانا بشأن حادث طائرة ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - راتب شعبو - النجاح والفشل في الثورة