|
|
دور الوعي في نبذ العنف من المجتمع 2
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 8523 - 2025 / 11 / 11 - 22:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
سابعاً. المعنى المزدوج للصراع في سوريا يؤجج العنف التجربة السورية مع نظام الأسد بينت أنه من الممكن حشد فئة اجتماعية لحماية النظام دون تكاليف اقتصادية. نظام الأسد لم يدفع ثمناً للفئات التي استماتت في الدفاع عنه، على العكس وصل تماهي هذه الفئات (أكثر العلويين بوجه خاص) مع النظام إلى حد استعدادهم لتحمل حصة من العبء الاقتصادي الذي وقع على كاهل النظام في سياق دفاعه الوحشي المديد عن نفسه في وجه رفض سوري واسع ونشط ضده. كان ذلك مثلاً في مساهمة هذه الفئة، على فقرها، في حملات دعم الليرة السورية حين بدأت تنهار، وكان ذلك في تحمل الفئة إياها، كل صنوف الحرمان المعيشي، على غرار غيرها من فئات المجتمع السوري، معتبرين ذلك جزءاً من نصيبهم في تكاليف المعركة، التي هي في الأصل ليست معركتهم. وكان واضحاً مقدار استهتار نظام الأسد بحياة هؤلاء المدافعين عنه، سواء من خلال حشد كل من يستطيع حمل السلاح وزجهم في معارك عبثية ذات تكلفة بشرية عالية، دون تدريب كاف ودون تأمين حاجاتهم الأساسية، وسواء من تفاهة التعويضات المادية التي كان يقدمها النظام لذوي العناصر الذين يعودون قتلى من معاركه ضد مختلف التشكيلات العسكرية المواجهة له. كي تمتلك زمام أمر فئة بشرية ما، لا شيء أكثر جدوى من إثارة مخاوفها الأمنية. وقد اشتغلت هذه الآلية بصورة قصوى في التجربة السورية، مع تكامل العناصر اللازمة لها (نظام سياسي يستند أمنياً إلى العلويين بصورة أساسية، وهم أقلية سكانية بدون عمق أو سند خارجي، مع وجود تعبئة صريحة مضادة لهذه الفئة في صفوف القطاع الواسع من السوريين الخارجين ضد النظام)، ولم ينتج عن ذلك فقط توفر فئة جاهزة للدفاع عن نظام الأسد حتى النهاية، بل وأيضاً نتج عنه سيادة وعي طائفي يهدد بالفشل تجربة الحكم التالية لسقوط النظام. في الأنظمة التسلطية، على شاكلة نظام الأسد، تتأسس علاقة سيطرة مركبة تتداخل فيها سيطرة فعلية لأصحاب المصالح الاقتصادية العابرة للفئات الهوياتية بصورة عامة، مع سيطرة فئوية لجماعة أو لفئة (العلويون في الحالة السورية) لها حضور كبير في جهاز الدولة، في أجهزة القوة بصورة خاصة، ولديها شعور بالتماهي مع الدولة أكثر من بقية الفئات السورية التي تشعر، والحال هذه، بنوع من الاغتراب عن الدولة. ولكن لم يكن الحضور الكبير للعلويين في جهاز الدولة هو ما جعل العلويين يدافعون عن نظام الأسد ويتماهون معه، بل الأهم هو شعورهم بالأمان كجماعة في ظل هذا النظام، واطمئنانهم إلى أن النظام لن يرتد بصورة عنيفة ضدهم ولن يستهدفهم كجماعة، الشيء الذي لا يطمئنون إليه تماماً مع نظام آخر لا يسيطر فيه علويون على مفاصل أجهزة القوة في الدولة، فكيف إذا كان النظام الراجح بعد نظام الأسد هو نظام إسلامي. هذا هو التلاعب الذي مارسه نظام الأسد، وهو السر العميق لتماهي العلويين معه، وهو ما يفسر تقبلهم الفقر والبؤس في ظل النظام، وتحملهم تبعات حرب دفاع النظام عن نفسه، الحرب التي تصوروها على أنها دفاع عن أنفسهم. وهذا ما ساهم في إعطاء الصراع في سوريا معنى مزدوجاً. في دخيلة نسبة كبيرة من العلويين كان الدافع الفعلي لمعاداة الثورة ذا عمق طائفي، وهو الحرص على عدم سقوط نظام يرون أنه يحميهم من فئات تعلن عدائها للعلويين، وأنه يحابي أبناءهم داخل وعبر جهاز الدولة، في أيام السلم. وبالمقابل كانت الثورة، في دخيلة نسبة كبيرة من غير العلويين ولاسيما المسلمين السنة من غير الكرد، تعني الخلاص من "النظام العلوي" الذي يمارس تمييزاً سلبياً ضد السنة. رفع العلويين راية الدفاع عن الدولة والجيش الوطني ... الخ، كان في الغالب واجهة عقلانية ووطنية لعمق طائفي غير وطني تجلى في تقبلهم البطش الرهيب بحق المناطق الخارجة عن سيطرة الدولة، وتساهلهم مع ارتكاب مجازر بحق مدنيين سنة، ما ولد في الوسط العلوي، وعموم الوسط الموالي لنظام الأسد، توتراً عالياً بين الخوف والضمير، وقد راح هؤلاء يعالجون هذا التوتر بتكذيب الحقائق وتبرير السلوك لإجرامي للنظام بشتى السبل. وبالمقابل كان رفع راية الحرية والحقوق السياسية ... الخ، لدى نسبة كبيرة من السنة الخارجين على النظام، واجهة عقلانية للخلاص من نظام يدركونه على أنه نظام طائفي يسيطر فيه العلويون. وهو ما يفسر لنا عقب سقوط نظام الأسد، عدم اكتراث أصحاب الشعارات أنفسهم لا بالحرية ولا حتى بالحقوق الأساسية للناس بما في ذلك الحق بالحياة. نسبة كبيرة من السنة الذين خرجوا يحتجون ضد طائفية نظام الأسد لم يكونوا ضد الطائفية من حيث المبدأ. وهو ما يفسر الالتفاف الواسع حول السلطة الجديدة التي تمارس التمييز الطائفي العلني وتبني الجيش والأمن بناء طائفياً صريحاً. العنف الفظيع الذي شهدته سنوات الصراع في سوريا، كان مرده إلى هذا العمق الهوياتي الطائفي الذي يجعل من المقاتلين وحوشاً لا يحترمون أي قيمة. وقد شهد الصراع مظاهر رهيبة من العنف ذي الطبيعة الإبادية والمسرحية من الجانبين، "عنف بلا سياسة" . هذا المستوى من العنف لا يمكن تفسيره بصراع بين من يدافع عن دولة (التصور المعلن لأنصار الأسد) ضد مطالبين بالحرية (التصور المعلن للخارجين على نظام الأسد). هذا النوع من العنف الذي شهدناه في سوريا خلال سنوات الصراع، لا يوجد إلا حين يتغذى على معان غير سياسية وعلى مشاعر هوياتية القاع تستبعد العدالة والمساواة. في العمق تشتغل المصالح الاقتصادية باستقلال واسع عن "المشاعر" الطائفية. المبدأ أن مشاعر صاحب المصلحة تتجه إلى ما يخدم مصالحه الأساسية التي تشغل بالنسبة له المكانة الأهم قياساً على أي انتماء آخر. وكذلك لا تقوم الدولة على "المشاعر"، بل على هيكل من المصالح الاقتصادية والسياسية المترابطة. يمكن أن نسمي هذا الهيكل بأنه المستوى الحيوي غير العنيف الضروري لأي نظام سياسي. وبطبيعة الحال، في الأنظمة التسلطية، لا يغيب العنف تماماً عن هذا المستوى في المحاصصات وتحديد الأدوار وتوزيع المشاريع ورسم العلاقات ... الخ، ولكنه يبقى عنفاً غير مباشر تحكمه علاقات القوة الاقتصادية والسياسية والارتباطات الخارجية وما إلى ذلك. بالمقابل تلعب المشاعر دوراً مهماً في ممارسة العنف أو في المستوى العنيف من النظام، المستوى الذي غايته الأصلية صيانة المستوى الأول الذي هو في الحقيقة الركيزة الأهم لأي نظام، ذلك أن النظام لا يمكن أن يقوم على العنف . وعلى اعتبار أن العنف وسيلة أساسية في يد الأنظمة السياسية التسلطية، يكون من الضروري للنظام "تربية" مشاعر مناسبة لتوظيفها في حلقات العنف. الخوف من أقوى المشاعر التي يمكن استثمارها في هذا المجال، وهذا ما يفسر سعي الأنظمة إلى توليد الخوف المتبادل بين الفئات الاجتماعية، وتحطيم الثقة المتبادلة، ونشر الأكاذيب وخلق الأوهام. والأهم هو تغذية جهاز القوة في الدولة على عصبية غير وطنية مناسبة للسلطة بطريقة تكون فيها السلطة في نظر قيادات وعناصر جهاز القوة أهم من المجتمع وأهم من البلاد. النتيجة أن النظام التسلطي في محاولته ضبط البلاد وتحقيق الاستقرار، لا يستطيع إلا أن يستخدم وسائل تضرب الاستقرار في المحصلة. أو بكلام آخر، إن استقرار النظام التسلطي يقوم على زعزعة استقرار المجتمع.
ثامناً. حين يكون العنف الوسيلة الوحيدة لتأكيد الذات والوصول إلى السلطة كان دائماً تقدير العنف، وربما تقديسه، سمة غالبة على الفكر التغييري، استناداً إلى قناعة بأن العنف هو وسيلة اقتلاع عنف السلطة، ووسيلة التغيير الوحيدة الممكنة. كان هذا صريحاً في فكر كارل ماركس فيلسوف "تغيير العالم" منذ البيان الشيوعي الذي ينص على: "ترسي البروليتاريا سيطرتها بإطاحة البرجوازية بالعنف". وقد وسم العنف تاريخ معظم الأحزاب اليسارية والماركسية في العالم. ولم تكن السلطات اليسارية والماركسية التي استولت على السلطة بالعنف، أقل عنفاً وقمعية من السلطات التي ثارت عليها. ليس هذا حكماً شاملاً، وربما كان من الاستثناءات المعروفة قبول الجبهة الساندينية في نيكاراغوا الدخول في انتخابات، بعد استيلاءها على الحكم بقوة السلاح، وتخليها عن الحكم لدى خسارتها. على أن زعيمها دانييل أورتيغا عاد بالانتخابات إلى الحكم في 2007، ليؤسس بعد ذلك نظام استبدادي موصوف. الأمر نفسه ينطبق على الأحزاب اليمينية. في مذكرات سعيد حوى، الشخصية البارزة في حركة الإخوان المسلمين في سوريا، يذكر أن التفكير بالسلاح كان منذ بداية الخمسينات من القرن العشرين، حاضراً. ولا غرو في ذلك، على اعتبار أنه لا توجد وسيلة تغيير أخرى متاحة. "وتحت تأثيرات فكرة الجهاد فكرنا كشباب بالسلاح، واشترينا بعض أنواعه وفكرنا في التدريب والمعسكرات وكان هناك أحد الأخوة المصريين من الجهاز الخاص قد استقر في حماة فحصلنا على شيء بسيط من التدريب وأقمنا أكثر من معسكر تدريبي" . وفي المذكرات نفسها نلاحظ لجوء الإخوان السوريين إلى استخدام العنف لفرض شروط معينة على المجتمع وإن كان يجري استخدام العنف من خارج الدولة. "كانت فكرة الجهاد والسلاح تستهوينا، وكانت قيادة الجماعة في حماة تخشى من هذا التوجه، مع ذلك فقد اعتمدنا على إذن ضعيف وأوجدنا تشكيلاً مسلحاً، ولقد قام هذا التشكيل بتعطيل أكثر من حفلة غنائية راقصة، وكان لذلك أثره في بقاء حمص معافاة من المراقص والملاهي إلى فترة طويلة" . ليس بلا دلالة حضور صور وسائل العنف (السيوف والبنادق ... الخ) في رايات وشعارات كثير من الحركات الإسلامية، فضلاً عن إبراز الآية القرآنية "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" دون تمييز بين الصراع الداخلي في المجتمع والصراع الخارجي بين الدول. هذه القناعات ليست باطلة، على أي حال، فالنظام التسلطي الحديث يمتلك من وسائل السيطرة ما يجعله يطمح بالأبدية، ولكن التحدي يبقى في كيف نمنع العنف المضاد اللازم للخلاص من نظام تسلطي، من أن يتحول إلى وسيلة تسلط جديد، أو كيف نجعل العنف وسيلة لانتزاع العنف من المجتمع وليس لاستبداله، كما حذر عبد الرحمن الكواكبي من أن "الحرية التي تنفع الأمة هي التي تحصل عليها بعد الاستعداد لقبولها، أما التي تحصل على إثر ثورة حمقاء فقلما تفيد شيئاً، لأن الثورة غالباً ما تكتفي بقطع شجرة الاستبداد دون أن تقتلع جذورها، فلا تلبث أن تنبت وتنمو وتعود أقوى مما كانت أولاً" . والحق أن تاريخنا الحديث والمعاصر يثبت صحة ما يقوله الكواكبي. الاستعداد لقبول الحرية في لغة الكواكبي تعني تحول الوعي العام إلى رفض مبدئي للاستبداد. لقد عرضت تجربة البلدان العربية عقب اندلاع الاحتجاجات ضد الاستبداد السياسي مطلع العقد الثاني من هذا القرن، درساً متجدداً يقول إن العنف هو السبيل الوحيد إلى السلطة. حتى لو خرجت على الحاكم نسبة كبيرة من السكان مطالبة بالتغيير بصورة سلمية، وحتى لو واظب الناس على الاحتجاج رغم القمع العنيف من جانب السلطات الحاكمة والذي يصل إلى حدود استخدام الرصاص الحي بصورة مباشرة ضد المحتجين، فالنظام التسلطي يدرك أن التراجع أمام الاحتجاجات، والقبول بتعديل شكل العلاقة بين السلطة والمجتمع، سوف ينتهي بسقوطه الأمر الذي يدفعه إلى الدفاع عن النفس بأقصى ما يستطيع. وقد تبين أن المواظبة على الاحتجاج وتوسع نطاق الرفض، لا يحرض في الطغمة الحاكمة الميل إلى إعادة النظر في علاقتها بالمجتمع، أو إلى البحث عن تسوية ما، لأن الطغم الحاكمة ليست من طبيعة تسووية مع الداخل وحتى لو اضطرت إلى تسوية فإن ذلك لن يكون سوى من أجل تفجير التسوية وتهيئة الظروف للانقلاب عليها. تندفع الأنظمة التسلطية، عوضاً عن ذلك، إلى المزيد من البطش، الأمر الذي قد يحرض لدى المحتجين الميل إلى العنف المضاد، فيغرق المجتمع في العنف وتضيع الحلول العقلانية السياسية في ثنايا الصراع المسلح وضروراته. هكذا لا يكون العنف في مجتمعاتنا استمراراً للسياسة أو وسيلة سياسية بل وسيلة لإعدام السياسة بالأحرى، وفتح باب لحروب أهلية لا تنتهي. في ظل الأنظمة التسلطية تختفي الصراعات تحت وطأة القمع ويعطي البلد صورة انسجام واستقرار مضللة. وهذا ما يجعل الصراع المكبوت يخرج في أوقات متباعدة على شكل انفجارات، فتبرز على السطح لوحة تحمل المفارقة المميزة للانتفاضات في هذه البلدان، المفارقة بين قوة الانفجار الاجتماعي، وضعف التعبير السياسي عنه، ما يجعل البلاد التي تشهد هذه الانفجارات مرشحة للتفكك وللدخول في دوامة العنف، ومن شأن هذا أن يعطي لاحقاً الانطباع بأن التسليم بالنظام التسلطي والاستسلام له خير للبلاد من الخروج عليه. ظهر هذا صريحاً في وصف الثورات العربية من قبل كثير من المهتمين بأنها كوارث أو أنها خريف أو شتاء وليست ربيعاً عربياً كما وصفته الصحف. على هذا يبدو كما لو أن المجتمع العربي لا يجد خياراً بنّاء يتمكن من خلاله السيطرة على تاريخه، بقدر معقول، وكأنه محصور بين أحد خيارين، إما القبول باستقرار ملغوم لأنه قائم على القمع والغلبة التي تحمي الفساد وعلاقات التمييز المختلف الدرجات والأنواع، تحت حكم طغمة أبدية (كل نظام سياسي لا يقوم على آلية مضبوطة لإنتاج الشرعية بالحكم هو نظام أبدي بحكم الضرورة، أي نظام لا يتضمن أي سبيل شرعي للتغيير، ويسخر كل موارد الدولة وسياساتها للحيلولة دون حدوث أي تغيير سياسي جدي)، وإما تحدي النظام الأبدي والدخول في حلقات عنف متوالدة ليس من شأنها فقط أن تدمر البلاد على كافة المستويات، بل ومن شأنها أيضاً، وهذا هو الأهم، أن تعيد سيرة الاحتكار السياسي وأن تغذي أسبابه بدلاً من أن تفكك عناصره. في هذا الحال يصبح من العسير مراكمة النضالات وتطوير السبل والأفكار السياسية، ويصبح المجتمع لعبة بين أسوأ فئتين من الناس، الأكثر انتهازية والأكثر عنفاً، حتى يغدوا هؤلاء معياراً للقيم في المجتمع. ليس من السهل الخروج من أسر هذين الخيارين وترسيخ دولة قانون ونظام سياسي بآليات سلمية لتداول السلطة، وقد تمر الطريق إلى ذلك عبر حلقات عنف رهيب. ولكن إذا لاحظنا أن النظام التمييزي العنيف من النادر أن يسقط بغير العنف، وأنه من غير الممكن أيضاً أن يقود العنف إلى نظام حكم يقوم على العدل وسيادة القانون ، فسوف نلاحظ مدى وعورة الطريق إلى صيغة ديموقراطية من الحكم. وفوق ذلك، لا تكمن الصعوبة فقط في بلوغ آلية سلمية لتداول الحكم، بل في القدرة على صيانة هذه الآلية ضد النزوع الدائم للسلطات إلى تخريبها بغرض الاستئثار اللانهائي بالحكم. بالمقابل سيبقى العنف الوسيلة الوحيدة لمواجهة السلطات ولحيازة الغلبة، ما لم تستقر آلية سياسية للتغيير أو لتحقيق المطالب بآلية سلمية. إنها حلقة مغلقة تفرض علينا السؤال: ما الحل؟ تاسعاً. هل يمكن تحقيق عدالة في مجتمع محكوم بالعنف؟ تحقق في العالم العربي أكثر من مرة الوصول إلى صيغة حكم غير انقلابي يقوم على توافق وانتخابات فيها مستوى جيد من النزاهة، ولكن في كل مرة كان مصير هذا الحكم السقوط على يد انقلابيين. حدث ذلك في السودان وفي الجزائر ومصر (في تونس يتم التأسيس لعودة الحكم التسلطي على يد رئاسة منتخبة). اللافت أن ما جرى من انقلابات على الحكومات العربية المنتخبة، كان يحوز على رضا شعبي واسع، رغم العنف الدموي من جانب الانقلابيين. ما يشير إلى أن "الثقافة العامة" في بلداننا تشكل في الواقع سنداً أساسياً للعنف وللأنظمة "الأبدية". العنف جزء أساسي في ثقافتنا ليس بوصفه عنفاً "ضرورياً" كما ينقل عن هوبز قوله إن المواثيق بلا عنف هي حبر على ورق، بل بوصفه معياراً للأحقية في الحكم. يتمكن النظام السياسي في بلداننا من استخدام مستويات عالية من العنف ضد محاولات التغيير، وتكون الدولة طوع بنان الحاكم رغم بطشه العنيف بالمحتجين، لأن نمط بناء أجهزة القوة في المجتمع (الأمن والجيش)، يقوم على الولاء للحاكم في المقدمة، وهذا الحاكم لم يصل إلى موقعه عبر عملية سياسية تعبر عن إرادة غالبة في المجتمع، بل عبر عملية قسرية كانت القوة أساسها وتبقى القوة وسيلتها الأساسية في الاستمرار. على هذا تبقى أجهزة القوة مخلصة للنظام في مواجهة الاحتجاجات مهما توسعت. تكون هذه الآلية أكثر فتكاً حين تحقن أجهزة القوة في الدولة بعصبيات عرقية أو طائفية تذيب المعنى العام للدولة وتقتل فيها بعدها الوطني. ويتيسر للحاكم هذا البناء غير الوطني لأجهزة القوة في الدولة، بسبب ضعف الاندماج الوطني في مجتمعاتنا، أي غلبة الشعور الأهلي وسيطرته في الصراعات على السلطة، الأمر الذي يعيق عملية عزل النظام السياسي وتغييره، ويحط الانقسام السياسي المتفجر إلى مستوى انقسامات هوياتية مدمرة. هذا ما يجعل الدولة مرشحة لأن تكون طرفاً أصماً في صراع داخلي واسع وليست معبراً عن مصلحة عامة أو محلاً تنعكس فيه توازنات القوى في المجتمع. كما أن سلبية المجتمع حيال السلطة، والتقليد الراسخ في مجتمعاتنا بأن السلطة شأن خاص، ما يجعل الناس بعيدين عن متابعة السلطة متابعة لصيقة وعن الحضور الدائم في المجال العام، ما يعطي للسلطات المجال الكافي لتحويل الدولة إلى ما يشبه الملكية الخاصة، حتى إذا استفاق المجتمع يوماً وبدأ يعبر عن نفسه في وجه السلطة، سيجد أن المهمة صارت ثقيلة وأن الطغمة الحاكمة راكمت من وسائل الحماية الذاتية ما يفوق التوقعات ومن ضمنها تفخيخ المجتمع نفسه، ما يمكن أن يجعل من محاولة التغيير كارثة على البلاد، كما رأينا في معظم تجارب الثورات العربية منذ بداية العقد الثاني من القرن الحالي. يضاف إلى ذلك أنه كان دائماً للقوة وللانتصار بالقوة مكانة في وعينا العام، تتفوق على أي اعتبار أو قيمة. وكانت القوة المادية بذاتها سبيلاً إلى حيازة ليس فقط المقبولية العامة بل والمجد أيضاً. الإعجاب بالقوة المادية في عمق الثقافة العامة لدينا، يعلو على الإعجاب بأي قيمة أخرى مثل الحرية أو العدل أو الكرامة ... الخ، ويستند ذلك إلى وعي متراكم لم يخرج، رغم مرور الزمن، عن القول الجاهلي لزهير بن أبي سلمى "من لا يظلم الناس يُظلم" ، ذلك أننا في المجال العام لم نفلح إلى اليوم في أن نؤسس، لا في الوعي العام ولا في الواقع، شكل حكم سياسي يقوم على القانون ويجعل العدل مهمة المؤسسة العامة التي هي الدولة. لقد بقيت الدولة عندنا وسيلة للسيطرة دون أن تكون وسيلة للدمج الوطني من خلال معاملة سكان حدودها الجغرافية على أنهم مواطنون أي أفراد متساوون أمام القانون. على هذا لا يكون العنف مجرد وسيلة للسيطرة بل تصبح له آثار تكوينية في الوعي، حيث يتحول العنف المزمن إلى "مربِّي" ويحيل الذاكرة الجماعية إلى وسيلة تثبيط تجعل الناس ليس فقط خاضعين "لحكم العنف" ، بل ويبحثون عن تبرير له. شذت تونس عن قاعدة انفجار العنف التي شملت الثورات العربية، لأن الجيش التونسي رفض أن يواجه المتظاهرين ما اضطر الرئيس التونسي زين العابدين بن علي إلى الفرار إلى الخارج. وبعد فترة انتقالية ناجحة نسبياً، وصل قيس سعيد إلى الرئاسة عبر انتخابات رئاسية نزيهة من دورتين، ثم عاد لممارسة السلطة بالعنف، متكئاً من جديد على الجيش والأمن. أما في مصر، ورغم النجاح في عقد انتخابات رئاسية نزيهة فاز فيها الإسلامي محمد مرسي، هي أول انتخابات نزيهة في تاريخ مصر، فقد خسر مرسي السلطة، بعد عام واحد، بانقلاب عسكري تبعته مجزرة بحق المعتصمين في ميدان رابعة العدوية، ليقضي مرسي بعد ذلك، بقية حياته في السجن. سوريا كانت النموذج الأبرز لدور العنف في تهميش الفكر السياسي. العنف المنفلت الذي مارسه نظام الأسد ضد كل أشكال المعارضة وكل أشكال النشاطات المستقلة، جعل الأفكار السياسية عديمة الفاعلية، وأبرز، بالحركة نفسها، صاحب القوة العنيفة المضادة وأعطاه الصدارة. من الطبيعي أن المجموعات السياسية التي تعمل على إنتاج المقترحات والتصورات ونشرها، دون أن تتوفر على قوة عسكرية، لا تستطيع أن تحمي الناس من القصف ولا أن تصد هجوماً مسلحاً على حي، ولا ان تفرض حكمها على الناس. على هذا سوف يلتفت الناس، في مثل هذه الظروف، إلى من يحميهم وينتقم لهم، وليس صدفة أن يحمل هؤلاء أفكاراً وتصورات سيئة أو حتى مدمرة. والأهم من ذلك هو أن من يستطيع حماية الناس من العنف المضاد، سوف يفرض عليهم حكم العنف نفسه، فيصبح الناس مجرد مادة لحكم العنفيين من أصحاب القوة من هنا وهناك. هكذا كان في سوريا أن برزت في النهاية هيئة تحرير الشام، الجهاز الأكثر قوة واستمرارية في وجه نظام الأسد، على أنها "حصيلة" الثورة السورية، في حين اضمحلت أو تلاشت كل الأجسام السياسية المعارضة التي لا تحوز على قوة عسكرية. وهكذا صارت الثورة تشبه أصحاب القوة العسكرية وليس العكس. أفكار الثورة لم تغير في العنفيين، لكن نفوذ هؤلاء غير في أفكار الثورة، وكان أن تحولت غالبية السوريين وغالبية الجماعات السياسية سواء منها المخضرمة، أو تلك التي نشأت على هامش الصراع المسلح، من اعتبار التشكيلات الإسلامية العنيفة ثورة مضادة، إلى اعتبارها ممثلة للثورة، مدشنين بذلك بداية دورة جديدة من الحكم بالعنف الذي يعزز بذلك وجوده في الوعي العام بقدر ما يعزز وجوده في الواقع. كما لو أن المحاكمة التي تفوز دائماً في نفوس الأفراد في مجتمعاتنا، هي التالية، طالما أنني لا أستطيع مقاومة الأقوياء العنفيين الذين ينتهي بهم الأمر إلى سدة الحكم، الأفضل والأسلم والأكثر "حكمة" هو أن أؤيدهم وأكون إلى جانبهم.
عاشراً. خاتمة على الرغم من شيوع أفكار تعتبر الديموقراطية سيئة لأن الشعب لا يفهم في السياسة، ولا يستطيع حكم نفسه، درجاً على المقولة القديمة لأفلاطون، أو بالعكس تعتبر أن الديموقراطية التمثيلية سيئة لأنها تبعد الناس عن السياسة حين تضع ممثلين عنهم، يبقى أن أهم ما يحققه الشعب هو تكامل تكوينه كذات فاعلة، أو قل حيازته على ثقة بالنفس تجعله "يعلمن" السلطات أو ينزع عنها المعصومية والقداسة، ويقيس موقفه منها بناء على تأثير سياساتها على حياته المباشرة. ومن شأن هذا أن يربط السياسة بالنتائج الملموسة بعيداً عن الإنشاءات اللفظية والخطابات وبيع الأوهام والدخول في مسارات العنف العقيمة. في مجتمعاتنا ما يزال الوعي العام دون ذلك، ما يزال للسلطة اعتبار "ميتافيزيقي" في وعي الناس، وهذا نابع من حقيقة أن السلطة مفروضة عليهم وأنهم لا ينتجونها بإراداتهم ولا يستقر في لبهم أن لهم سلطة على السلطة. في هذا انتقاص من مفهوم الدولة الحديثة التي تؤسس لتفاعل بين الحاكمين والمحكومين لم يكن قائماً في السابق يسمى الحقوق والواجبات، كما يسمى خدمة الصالح العام، كما يبين عزمي بشارة في تفريقه بين الدولة الحديثة والدول السابقة . على هذا فإن الشعور العام هو الضعف إزاء السلطات التي لا نملك حيالها شيئاً، ولذلك نسبغ عليها شيئاً من العظمة وحتى القداسة، وكأننا لا نبرر عجزنا أمامها فقط بل نسبغ عليه الفضيلة أيضاً. من أين يبدأ كسر حلقة العنف هذه التي تتحكم ببلادنا طوال تاريخها، والتي جعلت من الوعي العام مستنداً قوياً لها؟ تقديرنا أن كسر الحلقة يبدأ من الوعي العام نفسه، من تحويل الوعي العام إلى رافض مبدئي للعنف، وجعل العنف، إذا اقتضته الضرورة، خاضعاً للسياسة وليس سيداً عليها. وهذا التحول هو مسؤولية نخبة نشيطة وجذرية في رفضها العنف غير المؤطر بقانون وغير المؤسس على العدل. تستند هذه النخبة إلى "فطرة" الإنسان، فالأخلاق البشرية الفطرية تنفر من القتل وتدين القاتل، وهذا ما يجعل السلطات العنفية بحاجة إلى إيديولوجيا سياسية معلنة تبرر العنف، بغرض إخماد هذا النفور وهذه الإدانة، أي بغرض إخماد الأخلاق العامة. ولكن لا يقل عن ذلك حاجة هذه السلطات إلى إنتاج عنفيين يتغلبون على الفطرة السليمة فيهم، وقد تحقق ذلك في سوريا، عبر حقن أدوات السلطة بتصورات أو "إيديولوجيا" فئوية منزاحة عن الأيديولوجيا الرسمية المعلنة، وهو ما ينتج ظاهرة ازدواجية الصراع المترافقة مع العنف المفرط. كما تستند النخبة المضادة للعنف إلى الحس السليم المشترك بين الناس والذي لا يحتاج إلى بحوث وتنظيرات عميقة كي يصل إلى النتيجة التي تقول إن العنف لا يولد سوى العنف في حلقة لا نهائية. ونظراً إلى تأثير العلاقات الدولية والإقليمية على تاريخ بلداننا فإن فاعلية هذا الموقف المضاد للعنف تزداد مع انتشار حركة تحرر ثقافي عبر استعمال التطور في التواصل لتحرير الشعوب وتأصيل ثقافاتها في تراثها الجمعي وإشاعة روح التآخي الأممي الجديد بينها . رفض العنف المنفلت لا يحتاج إلى موقف سياسي، ذلك أن القتل والتجويع وحصار المدن وأشكال الاعتداء على كرامة الناس وأعراضهم أملاكهم ... الخ، أمر مرفوض بصرف النظر عن التوجهات أو المواقف السياسية للناس. في مجتمع سليم، من الطبيعي أن تكون الأخلاق والقيم العامة أرضية مشتركة ثابتة لا تزعزعها الانقسامات السياسية. هذا، إضافة إلى أن التضامن الواسع مع ضحايا العنف سوف يحد من المصادر المعنوية لمستخدمي العنف، وسوف يساهم في تغيير الموقف من العنف في الرأي العام. ندرك أن هذا مسار بطيء وطويل ولكن لا سبيل آخر، إنه الباب الضيق الذي يفضي إلى لجم أرباب العنف المعادين بالطبع والمصلحة للسلام الأهلي وللوطنية، فكلاهما يتغذى على المساواة وعلى الأفق التشاركي، ودون ذلك، سيكون من الصعب بناء بلاد مستقرة.
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التناقض بين الدين والإيمان
-
عن الفكرة الانتصارية المنتشرة في سوريا
-
المجزرة ترضي الجمهور
-
سوريا، شعب طيب ومسؤولون أشرار
-
عيد الشارع
-
الاستباحة تغطي صراعاً في سوريا
-
حدث سياسي فاصل وانعكاسات نفسية متحركة
-
رفع العقوبات و-الممانعة- الجديدة في سوريا
-
التصورات الطائفية تدمر الدولة السورية
-
لماذا يتراجع الوطنيون السوريون؟
-
نجاة سوريا في التضامن الأهلي
-
سوريا، أوقات مسحورة ولكنها واقعية
-
مسؤوليتنا في أحداث الساحل السوري
-
إدمان على الاستبداد
-
الحقيقة ليست مزاراً، عن جدوى النقاش
-
سورية ملونة وليست ألواناً
-
الخطر الجاري الذي يهدد مستقبل سوريا
-
درس علوي في سورية يجدر تأمله
-
مخاطر الانتقال إلى سوريا جديدة
-
عن مظاهرات السوريين العلويين
المزيد.....
-
حصريا لـCNN: بريطانيا تعلق التعاون الاستخباراتي مع أمريكا بش
...
-
مستوطنون إسرائيليون يشعلون حريقا في بلدة بالضفة الغربية مع ت
...
-
الحزب الشعبي الإسباني يعقد أول اجتماع له في مليلية ويقول إنه
...
-
إسبانيا: مطالب بمساءلة الحكومة حول -مركزي احتجاز مهاجرين- في
...
-
دراسة مموّلة من ألمانيا: الجيش الموريتاني -شديد التسييس- ودو
...
-
الشرع في واشنطن.. الغولف بعد السلة؟
-
الجيش الإسرائيلي يعتقل مستوطنين بعد هجمات واسعة على قرى فلسط
...
-
رئيس كولومبيا: أمرت أجهزة استخبارات إنفاذ القانون بتعليق جمي
...
-
حقوقيو تونس يطلقون -صرخة فزع- بعد تعليق نشاط 17 منظمة
-
إيران تفكك شبكة تجسس مرتبطة بالولايات المتحدة وإسرائيل
المزيد.....
-
ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
المزيد.....
|