أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - راتب شعبو - المجزرة ترضي الجمهور















المزيد.....


المجزرة ترضي الجمهور


راتب شعبو

الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 00:15
المحور: مقابلات و حوارات
    


لقاء مع موقع درج، مع الصحفي ملاذ الزعبي
المجزرة ترضي الجمهور.

1. عشر أشهر على سقوط النظام، تبدو سوريا اليوم بعيدة عن الاستقرار السياسي والاجتماعي.. كيف تقرأ المشهد؟

عقدة الوضع السوري اليوم تكمن في أن ما يسند غصن السلطة الحالية هو نفسه ما يقطع غصن الوطنية السورية ويزعزع البلاد. بكلام آخر، لم تفشل السلطة الحالية فقط في أن تكون سلطة عمومية، بل هي تستجر قوتها في الداخل من هذا الفشل بالذات، وهذه هي العقدة السورية. أقصد بذلك أن السلطة الحالية اختارات أن تستند إلى رضا سني غالب يقوم على الشعور باستعادة الدولة، وذلك بعد تكون وبروز مظلومية سنية، والمظلوميات تربة منشئة للتطرف المضاد للوطنية، وهذا يصح أكثر حين تكون في وسط الأكثرية، كما هو حالنا اليوم في سوريا. في الواقع توفر للسلطة الجديدة رضى وطني واسع في أيامها الأولى، ولكنها اختارت المسار الفئوي بدلاً من المسار الوطني، ولا يبدو أن في واردها إعادة النظر في مسارها المدمر هذا، يغريها السند الخارجي الذي أثبت مراراً، منذ آذار 2011، أنه لا يكترث بمصلحة السوريين.
أخطر ما في سوريا اليوم هو بروز شعور طائفي في الوسط السني، لم يسبق له مثيل في تاريخ سوريا، مصدره ليس وجود رئيس علوي لمدة تزيد عن نصف قرن، فقد كان يعرف السوريون في 1970 أن حافظ الأسد علوي ومع ذلك رحبوا به. مصدر الشعور الطائفي لدى السنة هو السلوك الطائفي الذي بدأ الأسد بتكريسه واستثماره من خلال حقن أجهزة القوة في الدولة بعصبية طائفية علوية، وتعامله غير المسؤول وغير الوطني حيال كل ما هدد سلطته.
السلطة الحالية تحث الخطى على المسار نفسه الذي سبقها إليه الأسد، والذي جعله ينجوا من الانقلابات العسكرية، وجعله قادراً على استخدام الأمن والجيش لارتكاب مجازر دفاعاً عن النظام، ولكن جعله، في الوقت نفسه، سبباً رئيسياً لدمار سوريا الحالي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. على هذا، ومع بروز سلطة من الطينة نفسها، يصعب تغذية الأمل بسوريا متماسكة ومزدهرة في ظل السلطة الحالية.
إذا أردت أن تفهم أفق و"نوايا" نظام ما، وإلى أين يتجه بالبلد، انظر أولاً كيف تبنى أجهزة القوة فيه، وحول أي عقيدة وبأي ولاء، كل ما سوى ذلك يبقى واجهات خزفية يستطيع "فيل" السلطة أن يحطمها في أي لحظة، وأن يجعلها أثراً بعد عين.
ما يجري اليوم في سوريا هو بناء سلطة "أسدية" جديدة تحاول أن ترسخ جذورها بالعنف والترهيب، من شأن هذا أن يغلق طريق التماسك والاستقرار. لا يستقر نظام يؤسس لنفسه على المجازر، وعلى استعداء فئات واسعة من السوريين عداء هوياتياً غير سياسي، هذا العداء ليس من السهل شفاؤه.

2. فيما يخص الطائفة العلوية تحديداً، وبعد مرور أشهر على مجازر آذار، تتكرر الاعتداءات التي تؤدي لسقوط ضحايا مدنيين، بالإضافة لحالات الخطف، وأشكال متعددة من الانتهاكات، وكأننا أمام حالة من الاستباحة. هل من أفق لتغيير هذا الوضع؟
لا أظن أن تركيبة السلطة الحالية تريد تغيير واقع استباحة العلويين. وقد يعتبر البعض منها أن هذه الاستباحة إنجاز ينبغي الحفاظ عليه وإنكاره في الوقت نفسه. إلى اليوم لا تعترف السلطة، ولا جمهورها المستلب، بوقوع مجازر، وإلى اليوم لا يجرؤ العلويون أن يرووا الفظاعات التي شهدوها، ولا أن يصوروا المقابر الجماعية، ولا أن يشاركوا في أي نشاط يحمي ذكرى ضحاياهم.
شهدنا منذ أول مجزرة في عهد نظام الأسد حتى آخر مجزرة في العهد الجديد أن "وطنية" الشعب السوري غير ناضجة بما يكفي لكف يد السلطات عن مثل هذه الفظاعات المتكررة. أكثر من ذلك، برزت المجزرة، ليس بوصفها وسيلة سحق وترهيب، بل وأيضاً بوصفها وسيلة لكسب جمهور ضعيف البصيرة، محقون بالخوف أو بالكراهية. تبين، للعار، أن المجزرة في سوريا "ترضي الجمهور"، سواء ارتكبت على يد قوات السلطة نفسها، أو على يد قوات أخرى بتسهيل ودفع من السلطة.
الجسد الأساسي للسلطة الجديدة يحمل تعبئة عدائية مزدوجة (سياسية ودينية) تجاه العلويين، وهذا العداء له وظيفة لدى أبناء الفصائل الذين تتطلب نفوسهم العداء لخارج ما. الفصائل تقوم على مبدأ العداء والاستئثار والقوة. ويعلو شعور أبناء الفصائل بذاتهم أكثر من خلال الشعور بالغلبة والتفوق على "آخرين". لا محل في التصور الفصائلي لمساواة أو لعدالة عامة، عدالتهم هي ما يتصورنه عدلاً، ولذلك فإن الذهنية الفصائلية، وهي مسيطرة في سوريا اليوم، هي الضد المباشر لبناء دولة في حين أن مهمة بناء الدولة السورية المدمرة موكلة إلى فصائل، يشكل هذا أحد التناقضات المغلقة في الواقع السوري الراهن.
الأمل بتغيير هذا الوضع يحتاج إلى تغيير في البيئة غير الفصائلية الداعمة لسلطة الفصائل، وهذا سيحصل مع الوقت، كما نأمل، وهو يتطلب نشاطاً في هذا الاتجاه من جانب النخب، المهتمة بالشأن العام، ولاسيما السنية منها، والحق أن منسوب "الوطنية" لدى هذه النخب، ظهر متدنياً أكثر مما كنت أتصور.
من جانب العلويين يقتضي الأمر التمسك بالوطنية السورية من خلال النبذ التام لفكرتين، الأولى هي معالجة الاستباحة الراهنة بالعنف المضاد (وهذا متحقق اليوم، وأتصور أن منبع هذه الاستكانة العلوية هو شح الواقع أكثر مما هو غنى الوعي، وإن كان يحسب للوعي أيضاً أنه يأخذ في الاعتبار شح الواقع)، والثانية هي المسعى الانعزالي بكل أشكاله (وهذا غير متحقق، هناك محاولات نزقة في هذا الاتجاه تتغذى على المشاعر التي تولدها الاستباحة الراهنة في نفوس العلويين).
المؤسف أن عموم السوريين لم يتوصلوا إلى قناعة بأن التضامن الوطني مصلحة عامة. المجتمعات السورية المختلفة لا تشعر بقيمة التضامن الوطني إلا في لحظات ضعفها. وبالرغم من أن كل المجتمعات عانت من ظلم، ولكل منها رواية لمظلومية، لم ينته بهم ذلك إلى إدراك قيمة التضامن الوطني بوصفه "حبل الله" الذي يقيهم الضعف وبطش السلطات.

3. من جانب آخر، وبعد الصيف الدامي، تبدو القطيعة النفسية للسويداء تجاه المركز والوطنية السورية والمجتمعات السنية أكبر حتى من نظيرتها لدى العلويين، ما هي الخطوات العملية والممكنة لرأب الصدع؟
ما حدث في السويداء كان شيئاً رهيباً أكمل اللوحة التي بدأت برسمها فظاعة ما حدث في الساحل، وأوضح التصور السياسي العدواني والضيق الذي يتحكم بأهل السلطة والذي يتلخص بممارسة العنف والسحق والإبادة، إذا أمكن الأمر، دون احترام لأي اعتبار وطني أو إنساني. هذا التصور السائد لدى أهل السلطة لا يبني دولة أو يبني دولة فصائلية بلا عمومية وبلا حق عام. إنه تصور ينتمي إلى عصر ما قبل نشوء الدول بالمعنى الحديث.
الآن، وقد جرى ما جرى في الساحل والسويداء، يصح التساؤل، هل يأتي اليوم الذي يمكن لهؤلاء أن يغفروا للسلطة الحالية جرائمها بحقهم، إلا كما غفر السوريون لحافظ الأسد بعد مجزرة تدمر وحماه وغيرها. ماذا تفعل السلطة الحالية حيال العلويين والدروز كي يثقوا بها، سوى أنها تضرب حولهم طوقاً طائفياً عازلاً بعد أن تساهلت مع أعمال إبادية بحقهم؟ علاقة السلطة بالمجازر المذكورة لا تكشفه التقارير فقط، بل يكشفه سلوك وتصريحات السلطة بعد وقوع المجازر، من استمرار الاستباحة إلى اليوم دون رادع، إلى عدم الاعتراف بالمجازر، إلى عدم إبداء أي تعاطف ولو بالترحم على الضحايا أو بكلمة طيبة للأهالي، إلى التحريض المستمر على الفئات المنكوبة. كل هذا يشير إلى أن المجزرة هي ابنة مدللة للسلطة، وأن هذه السلطة هي بيئة مولدة للمجازر.
على أي حال، تحتاج معالجة هذه المصيبة إلى اعتراف السلطة الحالية بما جرى، والاعتذار المباشر والصريح من أعلى هرم السلطة، مع محاسبة جدية للمسؤولين عن هذه الجرائم. ولكن هذا ليس في أفق السلطة الحالية، ما لم تجبر عليه بضغط داخلي لا يبدو أنه سيتوفر قريباً، وهو مرهون بزوال وهم داعمي السلطة اليوم، كما زال وهم العلويين حيال الأسد.
رأيي أن الصدع الذي حدث سوف يصعب رأبه، إلا بتغيير جذري في السلطة القائمة، وبمحاسبة جدية لكبار المسؤولين العسكريين والأمنيين، مع قناعتي بأن هذا متعذر في ظل سلطة أمنية العصب ترفع مسؤوليها الأمنيين فوق مبدأ المحاسبة.
كلما تمكنت جهة ما من السلطة تبطر وتنسى أن العدل أساس الملك، يساعدها في ذلك أن "شعبنا" لم يتعلم في السياسة سوى التأييد أو العداء، هذه لعنة تصاحبنا. قدرنا أن "تستقر" السلطات عندنا على تفكيك المجتمع لا على توحيده، وأن يكون تاريخنا تاريخ تفكك مستمر.

4. يصر ناشطون وإعلاميون وكتاب مقربون من السلطة، أو ليسوا على قطيعة معها، على تحميل شيخ العقل الدرزي حكمت الهجري قسطاً ما من المسؤولية عمّا حصل من صدام بين السلطة والسويداء. أي مسؤولية تقع عليه فعلاً بتقديرك؟
من حيث المبدأ، تولي رجل الدين مسؤوليات سياسية أمر غير حميد. ومن حيث المبدأ أيضاً، السلطة العامة تتحمل المسؤولية الأولى في كل ما يجري. أما واقعياً، وبعد كل الكلام، ما جرى في السويداء أن الدروز تعرضوا للقتل في بيوتهم وفي مناطقهم، هذا يعني أنهم تعرضوا لاعتداء، أي أنهم هوجموا ولم يهاجموا، هذا لا ينفي أن المقاتلين الدروز ارتكبوا انتهاكات وفظائع ينبغي عدم إغفالها. وفي الواقع أيضاً أن الشارع السني شهد تعبئة مضادة للدروز على أرضية خلاف سياسي مع السلطة القائمة، وقد جرى التعبير عن هذه التعبئة بأشكال غير مسبوقة في استعلائيتها وفظاظتها وفي بعدها عن الحس السليم.
على المرء أن يتساءل لماذا حاز حكمت الهجري شعبية "سياسية" واسعة في الوسط الدرزي؟ تفسيري هو لأن السلطة وأنصارها هاجموا الدروز كهوية، فيما برز الهجري كممثل لهذه الهوية في المواجهة. ومن المفيد السؤال: لماذا كان الهجري من قبل ذا طروحات وطنية وبات اليوم انفصالياً؟ لا شك عندي أن خياره السياسي اليوم خاطئ في المضي إلى حدود انفصالية. ومما يمكن أخذه على الهجري أيضاً، بقدر متابعتي واطلاعي، أن هناك ضعف في الميل التصالحي عنده، وربما كان هذا ما يعزز نزوعه للطلاق مع سوريا التي تبدو له أنها باتت لأجل طويل في يد هذه السلطة.
فيما يخص طلب العون صراحة من إسرائيل، قناعتي أنه أُجبر على ذلك، وهذا واقع مؤسف للغاية، كما رفع بعض أهالي السويداء للعلم الإسرائيلي ينطوي على ضيق أفق، ويسبب الكثير من الألم للسوريين، ولكن لا يحق لأحد لوم شخص يهرب من الموت، مهما كان سبيل هروبه. اللوم لا يقع على من يخاف الموت، بل على مصدر التهديد بالموت بالأحرى. ما كان لأهل السويداء، المعروفين بوطنيتهم، أن يتقبلوا هذا الأمر لولا شعورهم أنهم أمام خطر وجودي.
يبقى بتصوري أن الخلل الأساسي في الخيار السياسي للهجري هو فصله موضوع السويداء عن الموضوع السوري العام. كأن في هذا تخل وتسليم بأنه لا يكترث أن تكون سوريا، ما عدا السويداء، تحت حكم من يرفض هو أن يكون تحت حكمهم. كان الحال عكس ذلك في ظل نظام الأسد، حينها كانت السويداء تحمل الراية السورية العامة ضد سلطة الطغمة الإجرامية الحاكمة. هذه نقلة غريبة وهي ليست في صالح السويداء ولا في صالح الشأن العام السوري.
5. -في مقابل استحواذ جماعة سنية على السلطة، ومن ثم ارتكابها لانتهاكات، وشيوع مزاج سني متكئ على المظلومية من جهة ويرى أن له الأولوية بالبلد ومن حقه الاستئثار به من جهة أخرى ، يبدو أن ما يقابل ذلك هو خطاب مقابل مضاد للسنة ويستحضر نوعاً ضمنياً من "حلف الأقليات"، كيف ترى اليوم طغيان الحديث عن الجماعات والطوائف في سوريا لدى تناول الشأن السياسي في مقابل تراجع الحديث عن الاقتصاد والشرائح الاجتماعية والأوضاع المعيشية؟
الجماعات السياسية التي كانت ترى المجتمع طبقات وشرائح اجتماعية واقتصاد ومعيشة وما إلى ذلك، فشلت، لأسباب كثيرة ليس منها أنها كانت مخطئة، في حيازة قوة سياسية. ما جرى منذ أكثر من 60 سنة، وهذه فترة تغطي الحياة الواعية لكل السوريين الحاليين، هو أن قوة عسكرية استولت على الحكم وجمعت هذه اللغة السياسية التي تتكلم بالطبقات الاجتماعية، مع سلوك تسلطي ينظر إلى المجتمع كطوائف ويغذي ويستثمر في التمييزات الطائفية، ذلك أن للمشاعر الطائفية سحر خاص يغري السلطات الباحثة عن الاستمرار ولو على حساب الكون كله. والواقع، لسوء حظ القوى غير الهوياتية، أن عصب الهوية أقوى من العصب الطبقي أو المدني بكثير. الهوية هي السلاح الذي يجيد الأقوياء استخدامه لتجنيد الضعفاء وزجهم في صراعات الأقوياء. الفقر العام في سوريا لا يجمع الفقير العلوي إلى الفقير السني مثلاً، أي الفارق الهوياتي المشحون يتفوق على الجامع المعاشي. لاحظ اليوم كيف يلتقي الأقوياء (أهل السلطة الجديدة مع شبيحة وحرامية السلطة القديمة) فيما يتضاغن فقراء وضعفاء الجانبين تحت تأثير تحريض يديره الأقوياء ويمارسه الأغبياء.
لا أظن أن سوريا مرت بمرحلة تمييز وسيطرة وعي طائفي كما هي اليوم، والسبب الأساسي في ذلك هو السلطات أولاً ودائماً. هي صاحبة المصلحة وهي صاحبة التأثير الأكبر، وهي تختار الطريق الهوياتي السهل ولكن المدمر، لتعزيز وجودها. ثقافة المجتمع المكرسة عبر قرون من الاستبداد تقدم للسلطات ما يفيدها على هذا الصعيد. والمشكلة أن الصراعات الطائفية تحرض في الناس عصب خفي يشبه في فاعليته، الأرض الوحلية التي تبتلع ضحيتها وتشدها للغوص أكثر.


6. هل يجب فعلاً أن نعيد التفكير بالكيان السوري بحد ذاته؟
ليست المشكلة في الحدود الجغرافية، بل في العلاقات المتبادلة بين السلطات والشعب. إذا تقسمت سوريا إلى عشر دول، ستنشأ المشاكل نفسها في كل دولة منها. وسيجد الناس خطوط انقسام يتصارعون وفقها على كل شيء. المقلق اليوم أن معارضي السلطة في دمشق، يتخذون لأنفسهم مجالات جغرافية، وكأن ما يقع خارج هذه المجالات لا يهمهم. أي إن التقسيم السوري يبدأ من المعارضة التي تحيل معارضتها، والحال هذه، إلى عداء. هكذا هو الحال في السويداء وفي ما سمي المجلس السياسي لغرب ووسط سوريا وأيضاً في شمال شرق سوريا. أول ما بدا هذا المرض جلياً كان في غياب التضامن السوري العام مع العلويين حين تعرضوا لمجازر طائفية صريحة. كان في الأمر نوع من الكذب على الذات، أو من دفن الرأس في الرمال عن حقيقة أن السلطة الجديدة في دمشق، وفق منطقها السياسي والفكري الأحادي أو الفصائلي، واصلة لا محالة إلى ضرب الجميع بالعصا نفسها. فقط حين تعرض أهلنا في السويداء إلى ما تعرض له أهلنا في الساحل، استفاقوا على هذه الحقيقة. أحد "المؤثرين" من أبناء السويداء كتب، بعد مجازر السويداء، اعتذاراً للعلويين في حين أنه كان يحرض ضدهم أثناء المجازر. للأسف، يبدو أن تفاعل غالبية السوريين مع ما يجري في هذه الفترة التأسيسية، محكوم إلى أنانية وقصر نظر، تفاعل يتردد بين الانسحار الأعمى بالسلطة الجديدة أو العداء الانسحابي أمامها.
ما عرضته السلطة الجديدة في دمشق من وحشية ومن نزوع إقصائي متطرف ومعلن، كشف، على عكس ما كان يتوقع المرء، تراجع تقدير وإدراك الناس الذين جمعتهم هذه المساحة التي اسمها سوريا، لقيمة الوطنية في ضمان أمنهم وكرامتهم. هكذا انحدرنا من تضامن سوري عام مع بداية الثورة السورية فترددت "يا درعا نحنا معاكي للموت" في كل مكان من سوريا، إلى غياب تام للتضامن، وإلى استهانة وصلت إلى حدود التشفي بقتل أبرياء عزل على يد عناصر وأنصار السلطة الجديدة. لا يغير من ذلك ما فعله بقايا النظام السابق، كان هذا هو تبرير أنصار نظام الأسد لمجازره، ولا يغير من ذلك أن أنصار السلطة الجديدة لديهم خشية كبيرة من عودة النظام السابق، فقد كانت مثل هذه الخشية، وأكثر منها، موجودة لدى العلويين من وقوعهم تحت حكم إسلامي يحميهم منه نظام الأسد، فهل يبرر هذا لهم دعمهم أو سكوتهم عن جرائم الأسد؟
إعادة التفكير واجبة ليست في الكيان السوري، فالحدود ليست هي المشكلة، بل في نظرة الجماعات السورية إلى بعضهم البعض، وفي نظرتهم مجتمعين إلى السلطة السياسية. أهم ما يجب التركيز عليه في المراجعة هو أنه لا ينفع حكم لا يقوم على العدل، وأن فكرة السيطرة بين الجماعات طريق إلى خراب عاجل أو آجل، وأن سيطرة شهوة السلطة مع غياب العدل والمساواة هو ما يجعل بلدنا لعبة في يد الخارج.

7. ما هي خيارات القوى المنادية بالديمقراطية اليوم؟ وهل من قوى اجتماعية قد تدعمها؟
الديموقراطية برأيي ليست شيئاً تحبه الأحزاب وتعمل من أجله، الحزب يتكلم بالديموقراطية حين يكون خارج الحكم فقط، أي إن دعم الحزب للديموقراطية هو مصلحة حزبية، وما أن يصل إلى السلطة بطريقة ما (ديموقراطية أو غير ديموقراطية) حتى يبدأ التأسيس لأبديته في الحكم. صفة "الديموقراطي" التي تلصق باسم حزب هي صفة فارغة فلا يحترم أي حزب الديموقراطية إلا مرغماً. الرهان هو على تعدد الأحزاب لأن صراع الأحزاب هو ما يولد ويحمي الديموقراطية. أثق بالدرجة الأولى بالوعي العام الديموقراطي سواء تجلى في احتجاجات وحركات تضامن عابرة أو في تشكيلات مدنية لا تهدف إلى الوصول إلى السلطة، ولكنها تدافع عن الحقوق العامة للناس في وجه السلطات مهما كان لونها. وقد سبق لنا في مجلة "رواق ميسلون" أن أصدرنا ملفاً خاصاً بعنوان "النضال المدني" يتناول هذا النشاط الذي هو جوهر "المجتمع المدني" الذي نحتاجه بشدة في مجتمعاتنا.
على هذا من مهام القوى الديموقراطية نشر الوعي الديموقراطي، وتخليص الوعي العام من أفكار السيطرة والعنف الواسعة الانتشار. ومن مهامها أن تدعوا للتضامن الواسع ضد تعديات السلطة وانتهاكاتها لحقوق من يفترض أنهم مواطنون. ومن واجب القوى السياسية أن تحافظ على استقلاليتها عن السلطة، أي أن لا تتحول إلى تابع للسلطة كما فعلت أحزاب جبهة نظام الأسد، بذلك يحد صراع الأحزاب المستقلة من تسلطية السلطة ومن تغولها.
أما مثقفو الشأن العام الوطنيون، أو من تصح تسميتهم الفئة أو النخبة الوطنية، فمسؤوليتهم أساسية في هذه المرحلة وتتمثل في صيانة روح التضامن الوطني بوصفها مصلحة مشتركة. يتخلى هؤلاء عن هذه المسؤولية، حين ينظرون إلى ما يجري بعيون السلطة وليس بعيون الناس. كثيرون من هؤلاء يسمون المجازر أحداث أو انتهاكات، بتأثير هواهم السلطوي، وقد تجد منهم من يدين "الانتهاكات" دون أن إدانة الفاعلين ودون أن يرغبوا في رؤية البيئة المنتجة "للأحداث" المتوالية.

8. أي خيارات للسلطة في مواجهة التعديات الإسرائيلية المتكررة ومحاولة الحكومة الإسرائيلية فرض واقع جديد في الجنوب السوري عموماً، سواء من ناحية النفوذ أو السيطرة الفعلية على مساحات جديدة من الأراضي السورية؟
ليس العيب في أن سوريا لا تستطيع مواجهة إسرائيل عسكرياً، وإن كان يمكن قول الكثير في ذلك. ومن المفهوم أيضاً سعي السلطة الجديدة للتهدئة بفعل الضعف الحالي. العيب في أن تتبع سياسات تضعف جبهتك الداخلية، وفي أن تعمل على تعزيز سلطتك بدلاً من تعزيز بلدك. العيب في أن تنشغل بتشكيل جيش للسلطة وليس جيشاً للبلد. العيب أن تثابر على تطمين إسرائيل فيما تنشر الرعب لدى أبناء بلدك وتجعلهم يستجيرون بإسرائيل . نظام الأسد جعل السوريين قليلي الارتكاس ضد الضربات الإسرائيلية، وربما مرحبين بها لاعتقادهم أنها تضعف النظام، ونظام ما بعد الأسد مشى، للأسف، على الطريق نفسه، لأنه تكشف على أنه نظام فئوي تسلطي كسابقه.
من نافل القول أن الخيار الأول في مواجهة الخارج، هو تعزيز العلاقة مع الداخل. لا أعتقد أنه ليس من الاهتمام بالشأن الوطني محو ذكرى حرب السادس من تشرين الأول التي شهدت أول وآخر تضامن عربي فعال، وتضمنت بطولات سورية ومصرية مشهودة، وهي الذكرى الوحيدة التي تخص المواجهة مع الاحتلال الاسرائيلي، كما ليس في صالح المواجهة ضد إسرائيل التي تعتمد التجنيد الإلزامي، إلغاء التجنيد الإلزامي في سوريا لصالح إنشاء جيش احترافي بتركيبة وعقيدة وولاء تجعل منه "حرسا بريتورياً" وليس جيشاً وطنياً.
ألا يتساءل السوريون الذين طالما تغنوا بحكمة ودهاء واستثنائية الرؤساء الذين حباهم الله، كيف أنهم، رغم عبقرية القيادة، يتراجعون على كل الصعد أمام بلد رئيس وزرائه رجل عادي، يتظاهر الناس ضد خياراته السياسية وترفع عليه القضايا وتنتظره المحاكم وقد ينتهي بالسجن؟



#راتب_شعبو (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سوريا، شعب طيب ومسؤولون أشرار
- عيد الشارع
- الاستباحة تغطي صراعاً في سوريا
- حدث سياسي فاصل وانعكاسات نفسية متحركة
- رفع العقوبات و-الممانعة- الجديدة في سوريا
- التصورات الطائفية تدمر الدولة السورية
- لماذا يتراجع الوطنيون السوريون؟
- نجاة سوريا في التضامن الأهلي
- سوريا، أوقات مسحورة ولكنها واقعية
- مسؤوليتنا في أحداث الساحل السوري
- إدمان على الاستبداد
- الحقيقة ليست مزاراً، عن جدوى النقاش
- سورية ملونة وليست ألواناً
- الخطر الجاري الذي يهدد مستقبل سوريا
- درس علوي في سورية يجدر تأمله
- مخاطر الانتقال إلى سوريا جديدة
- عن مظاهرات السوريين العلويين
- هل انتصرت الثورة في سوريا؟
- الموالون وتلاشي نظام الأسد
- عن سورية والتطورات الأخيرة


المزيد.....




- إسرائيل تستأنف وقف إطلاق النار في غزة بعدما -انتهكته- حماس
- مقاومة و-برغماتية متأخرة-.. إيران على مفترق طرق
- إيطاليا: قتيلان وإنقاذ العشرات على متن مركب مهاجرين قبالة جز ...
- فايننشال تايمز: ترامب دعا زيلينسكي للقبول بشروط بوتين
- هل ينجح اتفاق الدوحة بإنهاء عقود من الصراع الحدودي بين أفغان ...
- هل تشير احتجاجات -لا ملوك- إلى أزمة شرعية في إدارة ترامب؟
- تحضيرات مصرية لاستضافة مؤتمر إعمار غزة
- عمر عبد المنان طبيب في بريطانيا يحمل على عاتقه قضية فلسطين
- ما فرص اتفاق الدوحة في وقف التصعيد العسكري بين كابل وإسلام آ ...
- هل ستنقل إسرائيل الحرب إلى سوريا؟


المزيد.....

- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول كتابه: ال ... / رزكار عقراوي
- تساؤلات فلسفية حول عام 2024 / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب (ملاحظات حول المقاومة) لچومسكي / محمد الأزرقي
- حوار مع (بينيلوبي روزمونت)ريبيكا زوراش. / عبدالرؤوف بطيخ
- رزكار عقراوي في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: أبرز الأ ... / رزكار عقراوي
- ملف لهفة مداد تورق بين جنباته شعرًا مع الشاعر مكي النزال - ث ... / فاطمة الفلاحي
- كيف نفهم الصّراع في العالم العربيّ؟.. الباحث مجدي عبد الهادي ... / مجدى عبد الهادى
- حوار مع ميشال سير / الحسن علاج
- حسقيل قوجمان في حوار مفتوح مع القارئات والقراء حول: يهود الع ... / حسقيل قوجمان
- المقدس متولي : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مقابلات و حوارات - راتب شعبو - المجزرة ترضي الجمهور