|
|
أسلوب المقاربات بين المعنى اللغوي والدلالة الاصطلاحية والمفهوم الفلسفي
زهير الخويلدي
الحوار المتمدن-العدد: 8519 - 2025 / 11 / 7 - 02:26
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
مقدمة أسلوب المقاربات المنهجية في دراسة المعنى هو من أبرز المداخل الأكاديمية التي تجمع بين اللسانيات والفلسفة والعلوم المعرفية، إذ يتيح فحص الكلمة أو العبارة عبر طبقات دلالية متداخلة ومتمايزة في آن. ينطلق هذا الأسلوب من فرضية أساسية تقول إن المعنى ليس كياناً واحداً متجانساً، بل هو بنية متعددة الأبعاد تتشكل عبر تفاعل ثلاثة مستويات رئيسية: المعنى اللغوي (الدلالة الداخلية للنظام اللغوي)، الدلالة الاصطلاحية (المعنى المتخصص في سياق مهني أو علمي)، والمفهوم الفلسفي (البناء النظري الذي يتجاوز اللغة إلى جوهر الوجود والمعرفة). تهدف هذه الدراسة إلى تقديم تحليل موسع يتجاوز الوصف السطحي ليغوص في الآليات التكوينية والتاريخية والمعرفية التي تربط هذه المستويات، مع الاستناد إلى مراجع لسانية وفلسفية كلاسيكية وحديثة، وتقديم أمثلة تحليلية من اللغة العربية واللغات الأوروبية لإثراء المقارنة. كما تسعى إلى كشف التوترات الداخلية بين هذه المستويات، وكيف يمكن للمقاربة الديناميكية أن تُسهم في تطوير نظريات جديدة حول طبيعة اللغة كأداة للتفكير والتواصل. فماهي أسس التمييز بين المقاربات المنهجية؟ وأين تكمن أهمية المقاربة المتعددة المستويات؟ وكيف يمكن استثمارها بنجاعة؟ المستوى الأول: المعنى اللغوي – البنية الداخلية والشبكة الدلالية يُشكل المعنى اللغوي الطبقة الأولية والأكثر عمومية في سلم الدلالة، إذ ينبع من البنية الداخلية للغة ك نظام من الرموز المترابطة. في إطار البنيوية السوسورية، يُميز فرديناند دي سوسور بين الدال (الصورة الصوتية) والمدلول (الصورة الذهنية)، مؤكداً أن العلاقة بينهما تعسفية وتتحدد بالفرق عن غيرها داخل النظام. هذا يعني أن معنى كلمة مثل "شجرة" لا يُستمد من ارتباطها بالواقع المادي مباشرة، بل من تمييزها عن "نبات" أو "غابة" أو "حجر" داخل الشبكة اللغوية. في اللغة العربية، يتجلى هذا المبدأ بوضوح في نظام الاشتقاق والتضاد. فكلمة "عدل" تكتسب معناها اللغوي الأساسي (الاستقامة والتوازن) من خلال اشتقاقاتها مثل "معدل" و"عديل"، وتضادها مع "جور" و"انحراف". هذا المعنى ليس ثابتاً تماماً، إذ يخضع لتأثيرات تاريخية وثقافية. على سبيل المثال، كلمة "دولة" في العربية الفصحى القديمة كانت تشير إلى التناوب والدوران (من الفعل "دال يدول")، ثم تحولت في العصور الوسطى لتعني الكيان السياسي، مما يعكس كيف يتطور المعنى اللغوي عبر الاستخدام الجماعي دون أن يفقد جذوره البنيوية. في اللسانيات التوليدية لنعوم تشومسكي، يُعاد تعريف المعنى اللغوي كجزء من "الكفاءة اللغوية" البيولوجية، حيث تُولد الدلالات الأساسية من قواعد عميقة مشتركة بين البشر. هذا المنظور يوسع المقاربة ليشمل البعد النفسي-عصبي، إذ تُظهر دراسات التصوير الدماغي أن معالجة المعاني اللغوية الأساسية تتم في مناطق محددة من القشرة الجبهية، مما يدعم فكرة أن هذا المستوى ليس مجرد اتفاق اجتماعي، بل له أساس بيولوجي. المستوى الثاني: الدلالة الاصطلاحية – التهذيب الوظيفي والدقة المتخصصة تمثل الدلالة الاصطلاحية مرحلة تطورية للمعنى اللغوي، حيث تُقيد الكلمة بسياق معرفي محدد، مما يُقلل من الغموض ويُعزز الوظيفية. هذا المستوى ينشأ عبر عمليات اجتماعية ومؤسسية، إذ يتفق أعضاء مجتمع معرفي (علماء، قانونيون، تقنيون) على تعريف دقيق للمصطلح لضمان التواصل الفعال. في نظرية المصطلحات ليوجين ووستر، تُعتبر الدلالة الاصطلاحية نظاماً فرعياً داخل اللغة، يخضع لمبادئ الواحدية (كل مفهوم مصطلح واحد) والثنائية (كل مصطلح مفهوم واحد). خذ مثلاً كلمة "طاقة" في اللغة العامة تعني القوة أو النشاط، لكن في الفيزياء، تُعرف اصطلاحياً كالقدرة على بذل شغل، وتُقاس بالجول، وتخضع لقانون حفظ الطاقة. هذا التهذيب ليس عشوائياً، بل يعكس حاجة العلم إلى الدقة القابلة للقياس. في المجال القانوني، كلمة "عقد" في المعنى اللغوي تشير إلى الربط أو الالتزام، لكن اصطلاحياً في القانون المدني، يُعرف كاتفاق يُنشئ التزامات قانونية قابلة للتنفيذ قضائياً، مع شروط محددة كالأهلية والسبب المشروع. في اللغة العربية، نجد أمثلة غنية في المصطلحات الطبية المعربة. فكلمة "جرثومة" كانت في الأصل تعني الجسم الصغير، ثم أصبحت اصطلاحياً تعني الكائن الحي الدقيق القادر على التكاثر والتسبب في الأمراض. هذا التطور يعكس تأثير الترجمة والتخصص العلمي، حيث أُعيد توظيف المعنى اللغوي ليخدم الدقة الطبية. ومع ذلك، قد يؤدي التركيز المفرط على الاصطلاحية إلى "الجفاف الدلالي"، إذ تفقد الكلمة ارتباطها بالتجربة الحسية، مما يُصعب على غير المتخصصين فهمها. المستوى الثالث: المفهوم الفلسفي – التجريد النظري والتأويل الميتافيزيقي يتجاوز المفهوم الفلسفي المستويين السابقين ليصل إلى بناء نظري يهدف إلى تفسير الواقع بشكل جذري. هذا المستوى لا يقتصر على وصف اللغة أو تنظيم المعرفة، بل يسعى إلى كشف الجوهر والعلاقات الضرورية. في فلسفة أفلاطون، يُميز بين المثال (الجوهر الأزلي) والظل (الظهور الحسي)، مما يجعل المفهوم الفلسفي لـ"الجمال" ليس مجرد صفة حسية، بل كمالاً مثالياً يتجاوز الزمن. في الفلسفة الحديثة، يُقدم عمانويل كانط تمييزاً حاسماً بين الظاهر والشيء في ذاته ، مما يجعل المفهوم الفلسفي لـ"الحرية" ليس مجرد غياب القيود (كما في المعنى اللغوي) أو حق قانوني (كما في الدلالة الاصطلاحية)، بل قدرة العقل على التشريع الذاتي وفق القانون الأخلاقي. أما مارتن هيدجر في "الوجود والزمان"، فيُعيد تعريف "الوجود" فلسفياً كـ"دازاين" ، أي الوجود المُلقى في العالم، متجاوزاً الدلالات اللغوية والاصطلاحية ليصل إلى البعد الأنطولوجي. في السياق العربي الإسلامي، يُقدم ابن سينا مفهوم "الوجود" كمقولة أولية تسبق الماهية، مستنداً إلى اللغة العربية لكنه يتجاوزها إلى بناء ميتافيزيقي. فكلمة "وجود" في المعنى اللغوي تشير إلى الحضور، وفي الدلالة الاصطلاحية الفقهية تعني الثبوت الشرعي، لكن فلسفياً عند ابن سينا، تصبح الوجود عَرَضاً يُضاف إلى الماهية، مما يُشكل أساساً للتمييز بين الواجب والممكن. ديناميكية المقاربة: التداخل، التوتر، والتحول تكمن قوة أسلوب المقاربات في كشفه للديناميكية بين هذه المستويات. فالمعنى اللغوي يُشكل المادة الخام، تُهذبها الدلالة الاصطلاحية لتصبح أداة وظيفية، ثم يُعاد صياغتها فلسفياً لتصبح مفهوماً نظرياً. ومع ذلك، توجد توترات جوهرية: فقد تُفرغ الاصطلاحية المعنى من حيويته الثقافية، كما في حالة المصطلحات التقنية التي تُصبح غريبة عن المتحدث العادي. كذلك، قد يُبعد المفهوم الفلسفي عن الواقع اليومي، مما يُثير نقد الفلسفة التحليلية للميتافيزيقا التقليدية. في أعمال لودفيغ فيتغنشتاين المتأخرة، يُقدم مفهوم "ألعاب اللغة" إطاراً لفهم هذه الديناميكية، إذ يرى أن المعنى يتحدد بالاستخدام داخل سياق حياتي. هذا يعني أن الانتقال بين المستويات ليس خطياً، بل دائرياً وتفاعلياً. فالمفهوم الفلسفي قد يُعيد التأثير على الدلالة الاصطلاحية، كما حدث عندما أثرت فلسفة الحقوق الطبيعية على صياغة الإعلانات الحقوقية الحديثة. تطبيقات عملية وآفاق مستقبلية في الترجمة، تُبرز المقاربة تحديات نقل المفاهيم بين اللغات. فمفهوم "ديمقراطية" اليوناني يحمل أبعاداً فلسفية (حكم الشعب) تختلف عن دلالته الاصطلاحية في النظم الحديثة (نظام انتخابي). في الذكاء الاصطناعي، تُستخدم نماذج اللغة الكبيرة لمحاكاة هذه المستويات، لكنها تواجه صعوبة في التقاط الأبعاد الفلسفية العميقة، مما يفتح مجالاً لدراسات هجينة بين اللسانيات الحاسوبية والفلسفة. خاتمة: في المجمل، يُشكل أسلوب المقاربات بين المعنى اللغوي والدلالة الاصطلاحية والمفهوم الفلسفي مدخلاً شاملاً لفهم اللغة كمرآة للعقل البشري. من خلال تتبع التحولات بين هذه المستويات، نكتشف ليس فقط كيف نتحدث، بل كيف نفكر ونبني عوالمنا. هذا النهج يدعو إلى بحث متعدد التخصصات يجمع اللسانيات والفلسفة وعلم النفس المعرفي، ليُسهم في تطوير نظريات جديدة حول طبيعة المعرفة والتواصل في عصر الذكاء الاصطناعي والعولمة الثقافية. فكيف يحرص أسلوب المقاربات على التأليف بين الفلسفي والعلمي؟ كاتب فلسفي
#زهير_الخويلدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مخطط تقسيم السودان بين السياق التاريخي، الأسباب، والتداعيات
-
الرؤى المتقاطعة كنسيج معرفي متعدد الأبعاد
-
أصل وأسس اللاّمساواة بين البشر حسب جان جاك روسو وشروط تحقيق
...
-
ممارسة الفلسفة بطريقة أصلية مفيدة للبشرية عند التفكير في الغ
...
-
انعقاد قمة مجموعة اسيان بين التفاهمات الاقليمية وبناء قوة اق
...
-
الوضع البشري بين التناول السوسيولوجي والتناول البسيكولوجي، ا
...
-
هل سحب جيل زد البساط من الهيكليات الكلاسيكية وامسك بزمام الم
...
-
في مديح الإنسانية، أو الخطاب ما بعد الاستعماري: مقاربة فلسفي
...
-
مدى تقديم الفلسفة الإضافة الفكرية للثقافة العربية لمواكبة ال
...
-
قراءة تحليلية نقدية في مبادرة ترامب للسلام في الشرق الأوسط
-
الفكر الاقتصادي في الحقبة المعاصرة بين الفلسفة الاجتماعية ال
...
-
المقاربة الابستيمولوجية عند توماس كون بين تغيير في البرادايم
...
-
الإعلان عن وقف الحرب في غزة، انهاء المعاناة وانطلاق اعادة ال
...
-
فلسفة الطوفان في سياق القطيعة الكارثية والنضال من أجل التحرر
...
-
مخاطر العولمة المتوحشة بين تدمير الوسط الطبيعي واستلاب الذات
...
-
قرار إنهاء الحرب في غزة بين دور ترامب ومواقف حماس وإسرائيل
-
الثقافة الوطنية والنضال من أجل الحرية حسب فرانز فانون، مقارب
...
-
مقاربة استراتيجية حول الترجمة الفلسفية وفلسفة الترجمة
-
شروط الرد الحضاري على ميكانيزمات النزعة الاستعمارية الجديدة
...
-
استعادة الفكر التنويري في عصر الفراغ الأكسيولوجي واللايقين ا
...
المزيد.....
-
ترامب يعلن عن أول دولة تنضم إلى اتفاقيات إبراهيم في ولايته ا
...
-
قطر تستثمر 29.7 مليار دولار في مشروع سياحي عملاق بالساحل الش
...
-
ترامب يعلن انضمام كازاخستان إلى -الاتفاقيات الإبراهيمية-
-
قيمتها 878 مليار دولار.. الموافقة على حزمة أجور ضخمة لماسك
-
مسيّرات تعطّل الرحلات الجوية في مطارين أوربيين
-
بعد رفض الجيش للهدنة.. ما مصير الحل التفاوضي في السودان؟
-
بعد تصويت مساهمو-تسلا-.. ما الذي يمكن أن يشتريه إيلون ماسك ب
...
-
كازاخستان تقرر الانضمام لاتفاقات أبراهام
-
اعتداءات المستوطنين شرق الضفة تجبر 6 عائلات فلسطينية على الن
...
-
بشبهة العلاقة بحماس.. ضبط أسلحة في النمسا وتوقيفات في لندن و
...
المزيد.....
-
أساليب التعليم والتربية الحديثة
/ حسن صالح الشنكالي
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
المزيد.....
|