رائد قاسم
الحوار المتمدن-العدد: 8518 - 2025 / 11 / 6 - 17:02
المحور:
قضايا ثقافية
المتحف المصري هو انجاز حضاري يحسب لمصر ، انه ليس استعراض لحضارة لم يعد لها وجود ، بل تعبير عن طموح عميق بأن تعود البلاد إلى سابق عهدها كمنطقة رائدة في الإنتاج الحضاري والمدني ، إلا أن مصر ومنذ تحولها الأخير قبل أكثر من 1400 سنة من إقليم تابع للإمبراطورية الرومانية إلى إقليم عربي غدت مركز إنتاج حضاري عربي وإسلامي مستمر حتى هذا العصر، فقد خرج منها آلاف العلماء في مختلف حقول العلم والمعرفة والثقافة، وفي هذا العصر هناك علماء مصريون يشار لهم بالبنان عملوا في مواقع مهمة في مراكز بحث علمي عالمية في الفلك والطب وغيرها من الحقول ، ولا أدل على مكانة الإنسان المصري هو ما تعرض له الكثير من العلماء المصريون من اغتيال بواسطة الموساد الإسرائيلي ، بهدف القضاء على أية بني تحتية لحضارة عربية سواء إقليمية أو في إطار الدولة القومية تنافس إسرائيل ، فالقضاء على العلماء لا سيما في مجالات الفلك والطب والدرة والتسلح كان دائما سياسة إسرائيل تجاه شعوب المنطقة، والحرب الأخيرة على إيران كشفت ذلك بكل وضوح ، فأول ما استهدفته في حربها ضد إيران علمائها النوويين.
وقد رأى البعض على وسائل التواصل الاجتماعي في المتحف المصري الكبير على انه مجرد تفاخر بحضارة بائدة ، وانه لا يصح للمصريين التفاخر بالانتماء لأمة وثنية ، وهذه نظرة ضيقة مليئة بالتعصب، وليس لها أي مسوغ ديني أو قيمة معنوية ، فالاعتزاز بالتراث ومنجزات القدماء لا سيما إذا كانوا من الأسلاف هو ما يجب على أي امة أن تفخر به وان تعمل من اجل إعادة إحياء التقدم والازدهار في بلادها ، في الخليج مثلا وقبل الوجود العربي وتحديدا في إقليم البحرين شرق شبه الجزيرة العربية، المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية ومملكة البحرين اليوم ، قامت حضارة دلمون والحضارة الفينيقية ، وقد خلفت هذه الحضارات تراث فريدا من العلم والمدنية والتحضر ، وتعد المنطقة من أقدم مناطق الاستيطان البشري في العام قاطبة، بما يزيد عن سبعة آلاف عام، ولا تزال موضع دراسة وبحث وتحوي أرضها كنوزا من الآثار والإسرار التي لم تكتشف بعد ، والتي تدل على أن إنسان هذه المنطقة كان من أوائل البشر المنتجين للحضارة، وان كانت هذه الحضارات ليست منجزات الوجود العربي الذي لم يتجاوز الألفين عام تزيد أو تقل الا أن له الفخر والاعتزاز بوطنه وهذه الآثار ملكا له ، وان لا تعارض أيدلوجي بين التاريخ القديم للبلاد وهويتها العربية الراسخة، بل يجب أن تكون دافعا له للعطاء وبذل الجهد للإنتاج والإبداع في إطارها ومن خلالها.
كما ظهرت أصوات نشاز مع افتتاح المتحف المصري الكبير والتي تتهم الوجود العربي انه كان نكسة على مصر وسبب من أسباب انقطاع الاتصال الحضاري للأمة المصرية ، وهو ما ينم عن جهل مركب وتعصب بغيض، فالحضارة المصرية القديمة كانت بائدة في القرن السادس الميلادي ، وكانت مصر ولاية رومانية ، وكانت تفتقد لكافة مقومات الدولة والأمة المستقلة بعد مئات السنوات من الحكم البيزنطي، وعند تحولها لإقليم عربي عادت مصر لازدهارها ومحوريتها في إطار انتمائها لأمة العرب والمسلمين، وآثار العهود العربية والإسلامية المتعاقبة على مدى ألف وخمسمائة عام شاهدة على ذلك، والقاهرة إحدى صنائع العصر الفاطمي، وظهر في مصر على مدى أكثر من ألف عام آلاف العلماء والشخصيات التي خلدها التاريخ في مختلف حقول العلم والمعرفة ، وحتى يومنا هذا تعد مصر مركز حضاري وثقافي عربي وإفريقي وشرق أوسطي بل وعالمي أيضا ، إذ تحوي ربع آثار العالم ، وساهمت عبر أكثر من سبعة آلاف عام بإثراء الحضارة البشرية والمجتمع الإنساني ، فجدلية مصر القديمة أو الفرعونية أو القبطية وصراع الهوية مع مصر العربية والإسلامية جدلية عقيمة ليس لها أي قيمة عملية أو أساس موضوعي، فمعظم البلدان العربية والإسلامية كان لها تاريخ حضاري قبل الإسلام وقبل العروبة ، فالعراق تاريخه يمتد على أكثر من خمسة آلاف عام، نشأت على أرضه الحضارات السومرية والبابلية والأشورية ، وارثه الحضاري عظيم بين الأمم، ومن أصالة هويته العربية والإسلامية انه بعد سقوط دولة الخلافة العباسية اعتنق الحكام المغول الإسلام وتكلموا باللسان العربي ، وهي ظاهرة غريبة بكل تأكيد فالمتغلب يفرض هويته ولو بعد حين ، الا انه من رسوخ الهوية العربية والإسلامية في العراق اضطر الحكام إلى الذوبان فيها ، وفي الأردن وبلاد الشام هناك آلاف الآثار التي خلفتها الأقوام التي استوطنت الإقليم قبل الوجود العربي كالرومان الذين خلفوا المدرجات الرومانية في جرش وعمان ، والآثار الرومانية في تدمر ، وتعد دمشق من أقدم عواصم العالم ، تعاقبت عليها عشرات الأمم خلال آلاف السنوات، حتى غذت الشام ذات هوية عربية راسخة في القرن السادس الميلادي ، حتى أن الحروب الصليبية التي نتج عنها تأسيس عدة ممالك على أجزاء منها لم تتمكن من تغيير هويتها وسرعان ما انهارت وعادت لسلطة العرب ، وعندما جاء الاستعمار لم يكن في خلد المستعمرين الفرنسيين والانجليز تبرير استعمارهم لها بالقول أنهم أسلاف البيزنطيين والإغريق الذين استوطنوا الإقليم قبل سيادة العرب ، بل اعترفوا بأنهم مستعمرين ومحتلين لأراضي شعوب أخرى.
فالقول بان الانتماء للهوية العربية أو الإسلامية عائق أمام التقدم وإعادة إنتاج حضارة بقوة الحضارة المصرية القديمة أو الفينيقية في الخليج أو الرومانية في الشام أو السومرية في العراق ينفيه التاريخ ، فقد كانت بغداد وقرطبة والقاهرة مراكز إشعاع حضاري ، وظلت الحضارة العربية مزدهرة لأكثر من أربعمائة عام ، وكان الطلاب الأوربيون يفدون على قرطبة لتعلم العربية ثم طلب العلم، وخرجت الحضارة العربية مئات العلماء والمبدعين في مختلف حقول العلم والمعرفة والابتكار.
إن الاحتفاء بآثار مصر الخالدة من خلال إنشاء متحف دو تصميم فريد وإقامة احتفال مبهر بالقرب من أهرامات الجيزة الخالدة تعبير عن القدرة على النهوض متى ما تهيئة الظروف ، لا كما يقول بعض المتشائمين أنها هروب إلى الخلف واعتزاز امة ماضيها أجمل من حاضرها ، وهي تذكرني من ناحية أخرى بجدلية لا زالت تثار وهي أن الأهرامات لم يشيدها المصريون، ظهرت هذه الآراء عند بعض العرب والأوربيون ، ولا تزال ، فهؤلاء لا يريدون التصديق أن المصري القديم وبالتالي الشرقي القديم هو من بنى هذه الصروح العظيمة! ، فاخترعوا نظريات وآراء ليس لها أي قيمة علمية ، في المقابل تذكرني بنظرية لا تزال منتشرة في ألأوساط العربية أن الأمريكيين لم يصلوا إلى القمر!، وتدل أيضا أن الإنسان العربي والشرق أوسطي يرفض التصديق أن منافسه التاريخي وطأة أقدامه القمر، رغم انه يحاول اليوم الوصول إلى المريخ! ، والبعض يرفض التصديق أنهم خرجوا من مدار الأرض! ، هذا العجز عن قبول حقيقة ( سواء عند الغربيين أو الشرقيين) أن الإنسان في الشرق أو الغرب قادرا على تحويل المستحيل إلى حقيقة ، والخيال إلى واقع ، وان الريادة والقوة مفتوحة أمام كل الأمم والشعوب، فاليابان مثلا التي كانت تغزو الدول الأخرى وتستعمر البلدان من حولها بعد هزيمتها الساحقة في الحرب العالمية الثانية تمكنت من النهوض مرة أخرى وهي اليوم بلد ناهض ومتقدم، وأصبحت بدلا من تصدير الحروب والخراب تصدر العلم والتقنية ، وكل هذا واليابان لا هي بالبلد المسلم ولا المسيحي بل تعتنق دينا وثنيا لم يسمع به الكثيرون، الا انه لم يكن عاتقا أمام تقدمها وبناء مجدها، وكل امة ستذكرها البشرية بما قدمت ، فالخلود لمن سيخلده التاريخ، بعد خمسمائة عام أو أكثر قد لا تكون الولايات المتحدة موجودة ولكن البشرية ستذكر أنها أول من وصل القمر ! ، وأول من صنع الطائرة والسيارة ، وإنها قدمت للإنسانية آلاف المنتجات وساهمت في نهضة الأمة البشرية ، وسيذكر التاريخ انجازات الاتحاد السوفييتي كأول إنسان دار حول الأرض وإطلاق أول قمر صناعي ، مثلما يذكر التاريخ اليوم حضارة الفرس والعرب والرومان واليونان وما قدموه للبشرية من جليل الأعمال والتي أعيد تدويرها في الحضارة المعاصرة في مختلف الاتجاهات والأصعدة.
ونحن اليوم في عالمنا العربي نستذكر الحضارات المصرية والبابلية والفينيقية وغيرها من الحضارات التي نشأت على أرضنا ، فابن الخليج يعتز باوال كإرث تاريخي دو قيمة معنوية عالية رغم كونها اسم لآلهة عبدها العرب قبل الإسلام، ويفتخر بدلمون العظيمة رغم إنها لم تكن عربية ولا مسلمة، ويذكر الملك جلجامش وهو يبحث عن زهرة الخلود في ارض الخلود دلمون ، ويستذكر عشتاروت آلهة الإخصاب والجمال التي عبدها الفينيقي القديم ومنها اشتق اسم جزيرة تاروت على ساحل الخليج ، دون تعارض ما بين الماضي والحاضر والمستقبل ، ولكن ما بين عدم تصديق الغربيين أن الإنسان المصري هو الذي بنى الأهرامات ، وما بين عدم التصديق الشرقيين أن الأمريكي وصل القمر ، فان سباق الريادة سيستمر ، فالغرب لن يكتفي بالوصول إلى القمر ، فعلينا الاختيار إذن أما أن نفخر بآثار بلادنا الفينيقية والمصرية والسومرية ونقف عندها أو نتقدم ، فالأمة التي ستقف سوف تعود للخلف وتجد نفسها واقفة على أطياف الذكريات وأطلال الماضي التليد ، تفخر به تارة وتبكيه تارة أخرى ، فهل سنقف أم نتحرك للأمام في سباق المجد الأبدي الذي لن ينتهي الا بنهاية وجود الأمة الإنسانية على هذه الأرض؟
#رائد_قاسم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟