رائد قاسم
الحوار المتمدن-العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 14:03
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تقوم السياسة على قاعدة المصلحة أولا ، تأتي القيم في المرتبة الثانية ، وربما الثالثة وحتى الأخيرة تبعا للموقف على الساحة ، كثير ما يحدث تعارض بين القيم والمصالح، القيم عنصر نظري معنوي ، لا شك انه عنصر محوري يتحول إلى قوة حية هوليه مبنية على أسس تشريعية عملية ، ذات مصدر مقدس أو مبجل كالدين أو الأخلاق ، متصل بالهوية الحضارية والشخصية التاريخية ، ولكنه في النهاية عنصر نظري معنوي في ماهيته، قد يتعارض مع حتمية الواقع والمصلحة اليقينية ، المصالح عنصر حيوي متحرك دو قيمة مادية وآثار ونتائج مباشرة وملموسة على قدر كبير من الأهمية ، والقيم تتصف بالثبات والنسبية بينما المصلحة متغيرة وسريعة ومتناقضة، ثمة أمثلة كثيرة في التاريخ ، المعتمد بن عباد ملك اشبيليا في عصر ملوك الطوائف استعان بدولة المرابطين في التصدي لخطر الممالك المسيحية التي كان بصدد شن حملة كبرى ضد الأندلس، وقد حذره مستشاروه من أن المرابطين قد يسقطون حكم ملوك الأندلس حال انتصارهم على الصليبيين، إلا انه قال لهم انه إن خير بين الطرفين فسيختار المرابطين، ففي ظل حكمهم ستبقى الأندلس بيد المسلمين، وقد صدقت توقعاتهم فقد دخل يوسف بن تشافين إلى الأندلس واسقط ممالكها الواحدة تلو الأخرى، حينها عمد المعتمد إلى طلب الدعم من الفونسو السادس ملك قشتاله لمساعدته في الدفاع عن ملكه، وعندما علم بن تشافين سارع إلى غزو دولته وإسقاط حكمه، تلك هي السياسة منذ نشأت ، لا صداقات دائمة ولا عداوات دائمة، لا يمكن فرض الأجندة القيمية النظرية الجامدة المعلبة في الكثير من الأحيان على الواقع الذي تتطلب معالجته النظر في تحقيق المصلحة وتقديمها على كل ما عداها.
الخليفة عمر بن الخطاب كانت له مواقف مشابهة في هذا الشأن ، منها انه أمر بإخراج عدد من الناس من جوار البيت الحرام في مكة بهدف توسعته ، وقد احتجوا بأن ليس له الحق في بيوتهم فأجابهم بأنهم من يزاحمون الحرم ، وليس الحرم من يزاحمهم، وفي الأثر انه أوقف العمل بعقوبة السرقة في عام الرمادة سنة (18) هــ ، هنا المصلحة قدمت من خلال حركة الواقع ومتطلباته الواضحة الجلية على النص الديني ، لان المصلحة عنصر حي بينما القيم عنصر جامد، والمنطق السديد يقدم الأول على الثاني دائما.
في الأثر أيضا أن مسلم بن عقيل سفير الحسين لأهالي الكوفة حانت له فرصة سانحة لقتل واليها الأموي عبيد الله بن زياد ، وقد زين له هاني بن عروة قتله وانه إن قتله فسوف تصفوا له الكوفة وسيرسل من يؤمن له البصرة ليسقط العراق بيد العلويين ، ولكنه لم يفعل، متذرعا بالقيم التي تدعوا إلى عدم قتل الخصم غيلة ، وقد لامه هاني بن عروة وقال له لو قتلته لقتلت فاسقا فاجرا، وكانت نهاية مسلم بن عقيل كما هو معروف أن امسك به وقتل رميا من اعلى قصر الإمارة بأمر من ابن زياد.
أتذكر أن احد البنوك أطلق بطاقة ائتمانية متوافقة مع الشريعة الإسلامية، فمثلا إذا ما استخدم العميل البطاقة فانه سوف يعيد نفس المبلغ الذي استخدمه دون فوائد التزاما بأحكام الفقه الإسلامي التي تحرم الربا، ولكن على العميل أن يدفع مبلغ شهريا ثابتا مقابل البطاقة، وقد فشل هذا الإصدار، فالبطاقات التقليدية أغلبيتها الساحقة لا تفرض أية فوائد طالما العميل لم يستخدمها ، والحق أن أية محاولة لفرض بعض القيم على واقع مناقض لها سيؤدي لا محال إلى فشل وإخفاق وقد يتسبب بأضرار جسيمة .
إن القيم ثابتة ولكن تطبيقها ومساراتها نسبية وتختلف ما بين امة وأخرى ، فالحق والحرية والسلام والكرامة والعدالة، جميعها قيم إنسانية متفق عليها بين الأمم والشعوب، ولكن ثمة اختلافات واسعة النطاق في نظمها وتشريعاتها وإسقاطها على الواقع.
والمصالح بين الدول قد تتضارب وقد تتلاقى، فمثلا عندما غزا صدام حسين الكويت عام 1990 تعارض الغزو مع مصالح اغلب البلدان الغربية والعربية ، فالتقت القيم مع المصالح وتآلفت تآلف تاما وشبه مطلق، فكان تحرير الكويت من الغزو العراقي مشروعا تماما ولم يلقى معارضة تذكر في العالمين العربي او الغربي.
في نفس الوقت تدعم الولايات المتحدة إسرائيل ، وهو ما أذى إلى استمرار الاحتلال الاسرائيلي للأراضي العربية منذ عام 1967 حتى اليوم، وشنها للحروب والاعتداءات التي لا تكاد تنتهي في المنطقة، في تعارض مع القوانين الدولية والقيم الإنسانية ومصالح دول وشعوب المنطقة، أمريكا قدمت مصالحها على القيم الذي يمثلها القانون الدولي والحق العربي والفلسطيني المطلق الذي لا يمكن إنكاره أو تجاوزه ، وهو الموقف الذي أيضا يتعارض مع مصالح دول وشعوب المنطقة، في نفس الوقت كانت أمريكا من الداعمين لحق شعب كوسوفو في الاستقلال عن صربيا، وحتى يومنا هذا فان الولايات المتحدة والغرب يحمون دولة كوسوفو من صربيا التي لا تعترف باستقلال الإقليم وتتحين الفرص لإعادة ضمه إلى أراضيها، هذا الموقف يتفق مع مواقف ومصالح الدول العربية والإسلامية ، ويتلاقى مع القانون الدولي والقيم الدولية الداعمة لحق الشعوب في تقرير مصيرها، لكن في كلا المثالين، كانت المصلحة الدافع والموجه لا القيم، فتناقضت مع القيم في إسرائيل والتقت معها في كوسوفو.
الأمثلة في هذا المضمار كثيرة حقا، حزب الله اللبناني مثلا لا شك أن قادته يعرفون مدى القمع الذي كان يمارسه نظام الرئيس السابق بشار الأسد ومدى فشله في إدارة الحكم في سوريا، وان ثورة السوريين لم تأتي من فراغ وإنما لعوامل داخلية كبرى، ورغم ذلك كانوا واقعين في مأزق عصيب، فهم ما بين القيم التي تؤكد على حق الشعب السوري في التغيير، وما بين مصالحهم المتعارضة مع سقوط نظام الأسد، وقد عمل حزب الله بالمبدأ الذي يقدم المصالح على القيم، ما أذى إلى استمرار النظام السوري السابق لأربعة عشر عاما قبل أن تسقطه قوات المعارضة في اواخر 2024.
الجماعات الأفغانية كانت تتلقى دعما غير مباشر من الغرب وأمريكا، وكان القادة الأفغان يدركون ذلك جيدا، هنا توافقت مصالح الغرب مع الشرق في مواجهة المد الشيوعي السوفييتي.
من ناحية أخرى يظن البعض أن الأنظمة الديمقراطية التي تراعي بشكل كبير الحقوق والحريات المدنية من المفترض أن تكون سياستها الخارجية متوافقة مع قيمها الدستورية والحضارية والأخلاقية التي تحكمها في شئونها الداخلية، وهذا خطأ فادح ، فالسياسات الخارجية للدول تحكمها المصالح لا القيم، وليس بالضرورة انعكاس القيم الحية في الداخل على السياسات الخارجية التي قد تكون امبريالية وسلطوية، إسرائيل يقدمها الكثيرون في الغرب على أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، بينما الدول المحيطة بها تحكمها أنظمة شمولية، هذا لم ولن يكون مسوغا لمشروعية وجود إسرائيل كدولة احتلال ذات طموحات توسعية ، إن كانت إسرائيل دولة مدنية في نظامها الداخلي فهذا لم ولن يجردها من كونها دولة احتلال تضرب بعرض الحائط القانون الدولي وتسببت بماسي كبرى للشعب الفلسطيني وللشعوب المجاورة لها منذ نشىتها عام 1948.
الشعوب العربية في الحرب العالمية الثانية كانت تميل إلى هتلر ، ليس لأنه زعيم عالمي يدعوا للسلام والعدالة بين البشر، بل لأنه يحارب الدول التي كانت تحتل الكثير من البلدان العربية ، كبريطانيا وفرنسا، لم ينظر رجل الشارع العربي لديمقراطية بريطانيا بل نظر لاحتلالها ، ومن البديهي القول أن الشعوب التي كانت ترزح تحت احتلالها أو انتدابها لم تعايش على الإطلاق نظامها الديمقراطي الذي كان مثالا يحتدا في احترام الحريات والحقوق المدنية ، والولايات المتحدة عندما تدخلت في فيتنام ، لم ينظر لها على أنها البلد الذي قد يكون مخلصا من الفقر والتخلف ، بل نظر لها الفيتناميون على أنها قوة استعمارية لا بد من إخراجها من وطنهم.
في إحدى المجلات العربية القديمة وقعت على مقابلة لجنرال إسرائيلي ، يقول فيها بكل وضوح أن إسرائيل أسست كما تأسست أي دولة أخرى، حاربنا وانتصرنا فأسسنا، وضرب أمثلة عديدة على ذلك، كالمغول والعثمانيين والأوربيين عندما استوطنوا أمريكا الشمالية والجنوبية وكيف أبادوا الهنود الحمر ، وان اليهود حاربوا العرب وطردوهم من ارض فلسطين وأسسوا دولتهم على أنقاض وجودهم وتاريخهم ، كما كان من شان كافة الدول التي نشأت عبر التاريخ، ولم يأتي على ذكر الحق المقدس في التوراة لليهود في ارض فلسطين ولا المكانة المقدسة للقدس في الديانة اليهودية.
تظل القيم والمصالح عناصر متفاعلة بشكل دائم في الحضارة الإنسانية وحركة الأعمار البشري، وكثير مما تتنافر، وقليل ما تلتقي، في السنوات الماضية دعمت روسيا نظام الرئيس السابق بشار الأسد وكانت تستخدم الفيتو ضد أي مشروع قرار يدينه في مجلس الأمن، المندوب الأمريكي في الأمم المتحدة كان ينتقد الحكومة الروسية بشدة لدعمها نظام لا مجال لإنكار انه يمارس القمع ضد شعبه ومتهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية ، إلا أن مندوب روسيا ذكره أن بلاده تمارس نفس الدور مع إسرائيل التي تحتل الأراضي الفلسطينية والعربية ، وانتهاكاتها لحقوق الإنسان الفلسطيني يشهد عليها العالم اجمع.
لا شك أن المصالح مقدمة على القيم، لأنها العنصر الحي الذي ينتج عنها اثأر مباشرة ، ولعل بها يمكن إعادة الاعتبار للقيم مرة أخرى، فنحن نعيش في عالم قائم على نسبية القيم والأخلاق ولكنه مطلق المصالح.
#رائد_قاسم (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟