|
|
رسالة إلى أبي سفيان - التاريخ الموازي
رائف أمير اسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 8517 - 2025 / 11 / 5 - 00:47
المحور:
الادب والفن
عام 2100 مِيلادية كان يركض والكلاب النابحة تركض وراءه، حتى وصل إلى بيت، دق جرس بابه وهو يلهث.. دق جرس (منبه) على مكتبه ليوقظه من حلم الكلاب المرعبة.. فتح السماعة: - سيدي الرئيس، رئيس مجلس الأمن الفضائي يريد أن يقابلك، يقول إن المقابلة لأمر مهم جدا. - فليتفضل حالاً. لئلا قد يضجر رئيس العالَم، الستيني الوسيم، البروفيسور ساندرز، من دوامه الطويل الممل، كان يسمح له بالنوم متى شاء، بينما يزدهي مكتبه الواسع بعدد من الفتيات الجميلات، يأخذ منهن ما يعجبه، يزودن الرئيس بالحيوية اللازمة. ومنهن من كن خبيرات في ادخال الأحلام المثيرة، المرعبة في دماغه أحيانا، بغرض التحفيز أو التشويق؛ فكل فرد من أهل الأرض يتقن عمله وواجبه الفردي والجماعي بكل مسؤولية، إلاّ ما ندرْ، ولا يتطلب من الرئيس سوى بعض الاجتماعات الإسبوعية، التي تمت برمجتها بشكل صحيح، فلا تكثر فيها الثرثرة. سيطر البشر تماما على كوكب الأرض وكل الكائنات الحية فيه، مناخه ورياحه وغيومه، واستطاعوا التنبؤ حتى بأوقات هزاته الأرضية وبراكينه، وتدابير تلافيها، إلاّ من بعض الخروقات الطفيفة التي رأوا أنها مهمة الحدوث كي تطرد الملل، حالها حال ما لم يستطيعوا السيطرة عليه في الفضاءات السماوية البعيدة. صارت الأرض جنة غناء تحفل بسعادة البشر، الحد الأدنى من الاكتفاء بالطعام متوفر مجانا، موازنة دقيقة بين الحرية والقانون تضمن له حرية الغريزة. مجتمع إباحي الجنس، نصفه غير أسري تقريبا، الدولة هي من ترعى الأطفال الذين يتم اختيارهم بدقة، بدقة اتباع تطبيقات الهندسة الوراثية. مثلما نالت تلك التطبيقات الكثير من النباتات والحيوانات فصارت أزهى جمالا وأنفع نتاجا. وصار الفضاء الخارجي هو الوجهة وهو الهَم، بعدما اكتسحوا وغزوا كل كواكب المجموعة الشمسية بمركباتهم المأهولة وغير المأهولة، وبنوا محطات اختبارية مأهولة على القمر والمريخ وبعض أقمار زحل والمشتري، كي يثبّوا إلى ما بعدها، خصوصا إلى موقع قرب مركز المجرة، اعتقدوا انهم لو وصلوا إليه، وتفحصوه جيدا، سيستطيعون فك أسرار الوجود والكون، وحسم مسألة الخلق والتخطيط المسبق من عدمها، لما فيه من تفرد فيزيائي في بعض الظواهر؛ لذا ناب هذا التوجه عن العبادة التي مورست من قبل، واختفت الأديان القديمة من عقول أغلب البشر، والأقلية لم يبق لهم إلاّ بعض المعابد لا تتعدى العشرات متناثرة هنا وهناك. عشرون عاما على الأقل، لم يعكر مزاج أهل الأرض حدثٌ مهمٌ|، حتى جاء رئيس مجلس أمن الفضاء ليخبر الرئيس: - سيدي الرئيس، نواجه خطرا مدمرا.. كتلة من الهيدروجين أكبر بعشرات المرات من كوكبنا قادمة إليه. - يعني ستدمره تماما لو وصلت؟... قالها مرتجفا. - نعم سيدي الرئيس. - أين موقعها الآن؟ - مازالت خارج المجموعة الشمسية، تبعد عنها حوالي سنة من المسير. - من أين جاءت؟ - فلتت من سديم غازي بعيد. - كم بقي لها من وقت حتى تصل؟ - ثلاث سنوات تقريبا. - ما الحل؟ - لم نجتمع بعد بعلماء الردع الفضائي، لكن نظريا ومبدئيا الحلول المتاحة تتطلب عشرات من السنين كي يتم تصنيعها. - قالها العلماء منذ أكثر من قرن: الأجرام السماوية هي الأخطر على الأرض.. لا أدري هل نحن تأخرنا في التقدم العلمي بعد أن توحد العالم سياسيا أو هو ذنب من سبقنا، ذنب التخلف الذي كان مسيطرا على كوكب الأرض منذ قرون؟!. - بالتأكيد هو ذنبهم سيدي. - بلّغ مجلس الأمن الفضائي ومن ضمنهم علماء الردع لاجتماع بعد ثلاثة أيام، يحضرون ومعهم كل الخطط و الأفكار، ربما نستنتج من مجموعها شيئا مفيدا، وليبق الخبر سريا، وحتى الاجتماع. - حاضر سيدي الرئيس. وعقد الاجتماع، ودار فيه: ستضرب كتلة الهيدروجين الأرض. ربما ستخرجها من مدارها، أو ستدفع الكتلة الهائلة الغلاف الغازي خارج جاذبية الأرض، وتبقى تحتفظ بالهيدروجين بدلا عنه فينتهي كل ما هو حي في الحالتين، فلن تتكرر الحياة فيها مرّة أخرى، أو على الأقل ستحتاج ملايين من السنين كي تعود الحياة مثل نشأتها الأولى بفعل التغييرات الجيولوجية. واختتم الاجتماع مرجحا فكرة، تحتاج عشرة سنوات من جهود مكثفة كي تُعد. الفكرة هي ضرب كتلة الهيدروجين بكبسولات معبأة بالأوكسجين، كي تتحول إلى ماء ومن ثم جليد لبرودة الفضاء، ومن جانبها، عسى أن يسحبها الاشتعال السريع جانبا بفعل تخلخل الضغط والجاذبية؛ فتبتعد في مسارها في الاتجاه نحو الأرض. يتم تصنيع عبوات (كبسولات) على أحد أقمار زحل الوفير بالأوكسجين، وربما يتم تجميعه من أكثر من قمر وكوكب، لأن الانتقاص من نسبة العنصر في كوكب الأرض يهدده بنفس الخطورة. أي ان الفكرة فاشلة مقدما من ناحية توفر الزمن، مالم تعالج بفكرة اختصار الزمن.. وترك الاجتماع لأهل الأرض جميعا أن يدلوا بآرائهم حتى لو لم يكونوا مختصين، فعسى أن تظهر من بين العقول البسيطة ماهو أهم. عقد الرئيس اجتماعا لهيئة الحكم وبصحبته رئيس مجلس الأمن الفضائي، وتم ابلاغهم بالخطر القادم، فارتعب الكل، واحتدم جدال: هل يخبرون شعب الأرض؟.. قال أحد المعترضين: - اخبار الناس هو الكارثة بعينه، الحياة ستتوقف، المرأة الحامل ستجهض جنينها ، فما معنى ان تنجبه ويموت بعد ثلاث سنوات. وطالب كلية الطب في المرحلة الأولى ما معنى أن يدرس ثلاث سنوات وبعدها يموت وهو لم يكمل حتى دراسته. وستتوقف مشاريع الشركات طويلة الأمد. الفلاح لن يزرع سوى المحاصيل الفصلية. انت تصل الى عمر التسعين وعندك أمل ان تبقى عشرات أخر من السنين. وحتى حين تقترب من الموت تبقى متفائلا في ان ذريتك تبقى من بعدك أو باقي البشر، لكن ان تنتهي وينتهي الكل فهذا مريع حقا... وقال آخر: - ويزيد توقف الحياة عندما نقترب من النهاية، قبل النهاية بسنة أو أشهر.. سنموت ببطء، بينما لو لم نخبرهم سنستمتع بهذه المدة والموت سيجيء مثل الحوادث التي تجيء غفلة. كلنا نعلم اننا سنموت يوما، وربما يموت احدنا بعد لحظات وهو في باله مستقبل بعيد جدا. كلنا نعلم ان الموت مثل منشار قادم لا يخطئ أحدا، يقطع اوصالنا، لكننا لانبالي، أما أن نعرف في أي يوم، وفي مدة قريبة فتلك كارثة وحزن يملأ كل الأيام. رغم انتهاء الاجتماع باتخاذ قرار التكتم الشديد، على الأقل لأيام قليلة أو لشهور قليلة قادمة عسى أن توجد حلول تسرب الخبر، لأنه ليس مثل أي خبر، ليس مثل أي سر آخر عرفته البشرية على الاطلاق..الزوج الذي هو عضو في هيئة الحكم أخبر زوجته، والزوجة اخبرت شقيقها أو أمها. والأم أخبرت ابناءها، وهكذا تسرب الخبر في الشبكة البشرية كلها. فاضطر الرئيس أن يظهر لوسائل الاعلام كي يؤكد الخبر، وتحول إخبار كل ساكني الأرض، وكل من في المحطات الفضائية إلى الترجي منهم أن يشغل الحل أغلب تفكيرهم، وأن يتصرفوا بهدوء. لأول مرّة، سيكون مستقبل البشر كله ثلاث سنوات فقط.. معنى المستقبل يعرفه البشر دون غيرهم من الكائنات الحية، فهو وليد حضارة الوعي والمعرفة وسهمها. المستقبل الذي كان الأمل في كل تفاصيل المسيرة البشرية سيقل مع كل يوم يمضي، حتى يتضاءل ثم ينتهي تماما، والمصيبة الأكبر انه سيأخذ معه الحاضر وكل الماضي، بينما ستستمر الكائنات الحية في الاستمتاع بالعيش دون أن تضطرب لآخر لحظة ما قبل الاصطدام، ستبقى الطيور تصدح في الفضاء، والأسماك تلعب وتفقس بيوضها الملايين ظانة انها ستحافظ بها على نسلها. توالت اتصالات الناس بمجلس الأمن الفضائي، كل يبدي أفكاره واقتراحاته، كلها كانت غير مجدية، لكن كان هناك رجل يلح على مقابلة الرئيس نفسه، طارحا على المجلس فكرة غريبة. بكل جرأة سماها التاريخ الموازي، ولابد أن يطلع الرئيس عليها شخصيا كي يستحصل الموافقات الأصولية من مجالس الحكم لتنفيذها، فهي الخيار المنقذ الحقيقي والأخير. وبعد مزيد من الالحاح تمت المقابلة. قابل الرئيس رجلا أربعينيا اسمه دوكنز بصحبته زوجته جينيفر ذات التسع والثلاثين عاما. قالا له انهما أقارب، وسليلا عائلة توارثت علم الماضي، ويريدان الاتصال بالماضي بفترة زمنية محددة ومن ثم تغييره وترشيقه كي تزحف مسيرة البشر وما تقدموا فيه قليلا إلى الوراء بتاريخ مواز آخر... وحين قال الرئيس: - لم أفهم ما تعنيان، نحن نريد أن نكثف جهودنا في إنجاز فكرة تستلزم وقتا أقصر، بينما انتما تريدان مئات من السنين كي نستطيع تطبيق أفكار السفر عبر الزمن،أجابه الرجل بكل ثقة: - لا سيدي الرئيس نحن نعني ما نقول، نحن لا نعني النظرية النسبية لآينشتين بمشروعنا. نحن سنتعامل مع الماضي باسلوب آخر. سنتعامل معه باعتباره موجودا ولم يمضِ ويختفي.. الماضي موجود لكنه مختبئ ضمن الحاضر. - ربما انا أفهم فكرتك، الماضي موجود في أجسامنا وعقولنا، وفي الأشياء من حولنا، وصار فوقه تراكم، أو تغيير في الأشياء؛ لكن كيف سنؤثر عليه؟ - سنضرب لك مثلا، وبعدها سنريك مبادئ علم الماضي الذي بذل أجدادنا ومن ثم نحن جهوداً كبيرة لأجلها، مع البرامج ووسائل إيضاحها.. عندما تبنى عمارة من طوابق عديدة فأن تدرج الزمن يبدأ من الطابوق الأساس وتتوالى تراصفات الطابوق فوقها. فاذا هدمت العمارة تماما فاننا سنعرف الماضي حسب التوالي من خلال الضغط، الطابوق الأساس هو الذي تعرض إلى ضغط أكبر، ويمكننا معرفته باجهزة دقيقة قمنا بصنيعها. قمنا بتصنيع الكثير من الأجهزة التي تتبَّع الماضي بحسب الأطوال الموجية للطاقة، مثلما هو متداول في معرفة أعمار كل الأشياء من خلال التحلل الإشعاعي. - هذا صعب جدا، أنت تتحدث عن متاهة، عن تداخل كبير بين عدد هائل من الأشياء والعوامل. ثم كيف يمكننا التغيير وإرجاع الأحداث؟ يعني أنا سأرجع أولد من جديد قبل مائة عام من ميلادي الحقيقي.. غيرمعقول.. كيف ستتمكنان من ذلك؟ - انت لن ترجع سيدي الرئيس هههه.. كلنا سنختفي ولن نرجع، لكن الأرض ستبقى ببشر غيرنا، لأن تزاوجات جديدة ستحصل بدءا من الفترة الزمنية التي سنتصل بها. - هذه مفاجأة جديدة، طيب ما الوقت الذي تحتاجه للإعداد ومن ثم التنفيذ النهائي؟ - لم احسبه بدقة،كذلك هو يعتمد على مدى مساعدتكم لنا.. لكن عموما إذا وفرتم لنا ما نحتاج فهو يتراوح بين سنة إلى سنة ونصف كتخمين أولي. - وبعدها؟ - بعدها سيختفي كل البشر الحاليين ويحل محلهم بشر آخرون تسلسلوا من ماضٍ آخر. - لا أدري هل أضحك أم أبكي. يعني أنت حتى قلصت فترة حياتنا، فبدلاً من ان نبقى ثلاث سنوات سنبقى سنة ونصف كحد أقصى.. هل يستوجب أن نضحي بما تبقى من عمرنا من أجل أجيال لم ولن نراها؟ - أظن تلك هي نفس التضحية التي يبذلها بعضنا الآن مع من يعيش معهم، من يموت من أجل غيره.. ربما بعد أن نموت ويكتشفوا هُم السّر القابع قرب مركز المجرة سيكون لتضحيتنا قيمة مهمة عندهم. ربما سنخلد في جنة من نوع ما إذا ترجحت فكرة الوعي الكوني والتخطيط المسبق، أي وجود الله في الأديان القديمة وجنتهم الموعودة. - طيب، واذا أخرت مشروعك لمدة أطول؟ - في الحقيقة مثلما نواجه حالة سلبية تتمثل في خطر كوني قادم فإن نفس الكون يمنحنا فرصة فلكية لانجاز مشروعي في هذا الوقت بالذات كبداية ولا أدري ما مدة الفرصة بالضبط ، انا خمنتها بالمدة التي ذكرت، مع ذلك ساراجع حساباتي الفلكية من أجل زيادة عمرنا في المشروع. - شخصيا أنا موافق، وتعجبني الفكرة، فهي تعبرعن ذكاء بشري خارق، وربما ستحصل مفاجآت ضمنها فنتكرر نحن ضمن المسيرة الجديدة، وهذا ما سأحاول أن أطرحه جانبا في محاولة استحصال الموافقات من مجالس الحكم. وسأناقش الأمر معهم لنقرر هل سنُعلم البشر أم سنتبع السرية.. ولكن اسألك: هل سننعم بالتمتع بالموت المقترح أم سيأتي مفاجئا وخاطفا؟ - لا، سننعم قبل الموت بساعات بتراخ كبير، بهدوء تضاءُ فيه نفوسنا وعقولنا بانوار جميلة، بنشوة وفرحة الاختراع والعبقرية البشرية وسنتلاشى دون ألم. بل بسمو نفسي كبير يطير في رحاب الوجود. - ربما اذا شرحت ذلك مفصلا لكل البشر سيوافق أغلبهم. - انا افضل السرية لئلا ينقضّوا على جهودنا.. لاحظ اننا أيضا، أنا وعائلتي سنخسر ما تبقى لنا من العمر. - نعم، مبدئيا انت قم بالتحضيرات النظرية اللازمة. - حاضر سيدي الرئيس. وبعد اجتماعات متتالية للرئيس مع مجالس الحكم حضرها دوكنز وجينيفر كي يبينوا التفاصيل الدقيقة، وأجابوا على مئات الأسئلة تمت الموافقة وإبداء المساعدة القصوى لتنفيذ الفكرة، خصوصا أنهما أقنعا الرئيس وهيئة الحكم بتمديد الحياة نصف سنة أخرى ولن ينقص من حياتهم سوى سنة ستمنح للبشر البديل المُعد الذي سيظهر فجأة من أزاحة الخطر. ولكي يكون الرئيس وهيئة الحكم والهيئات التكنلوجية المختصة على علم بالصورة الحقيقية القريبة عما مطلوب منهم من مساعدة للزوجين، وبفكرة تجريبة صغيرة لما سيحدث علّها تقنع البشر وعدم مضايقة الكادر المنفذ. وقتها، شاهدت كل البشرية ما حدث في شاشات التلفازات والحواسيب. تم تشغيل مجموعة من الأجهزة عالية التقنية على شجرة صغيرة، فانطلق شعاع ملون متقطع، وإذا بالشجرة تصغر شيئا فشيئا عكس نموها، ثم تتضاءل وتختفي، ثم تنبت من جديد بعد ارسال شعاع من الوان بدت مختلفة، وتنمو وتكبر فتثبت على طول أطول من السابق وبتفرعات جديدة؛ فانبهر الكل وزادت ثقة الأغلب بالفكرة وتشجعوا لتنفيذها، بينما ردد بعض المتدينين: إن الله على كل شيء قدير. وهكذا تم كشف السرية عن مشروع ضخم مستعجل سميّ (التاريخ الموازي) مع توفير الاجراءات الأمنية اللازمة. ---------------------------------------------------------------------------- مكة عام 600 ميلادية كنت أركض والكلاب النابحة تركض ورائي، حتى وصلت إلى دار، طرقت الباب وأنا ألهث.. طُرقت باب دار الندوة مقاطعة بصوتها القوي كلام أبو سفيان وهو يروي حلمه للجالسين. فتح أحد العبيد الباب... فاستدار قائلا: - سيدي صخر، زوجتك هند تريدك. مشى ابو سفيان الى الباب وهو يسائل نفسه مستغربا قدوم هند إلى المجلس.. لابد أن هناك خطب ما. عند الباب، سحبته هند من يده وهي مضطربة أشد الاضطراب، فأخبرته بصوت يكاد يقطع أنفاسها. - صخر، لا أعرف كيف أبدأ، سأروي لك ما حدث في الطريق إلى دارنا.. أتت لدارنا جنية بشكل امرأة، وطلبت مقابلتك. - ماذا، ماذا تقولين يا امرأة؟ - سترى الجنية بنفسك.. لاتخف هي لم يبدُ منها شرا. كانت جميلة ولطيفة معي جدا، وحاولت كثيرا أن تقلل من روعي، لكن مهما يكن فان الحدث مخيف..أسأل هبل واللات والعزى أن يكونوا معنا. - يا هبل ، يا الله.. أروي لي ما حدث. - كنت وحدي في الدار، مستلقية في الفراش لأنام القيلولة، فاذا بباب الدار تدق دقاً غريبا. فتحت الباب وإذا بامرأة فاتنة الجمال، سلمت علي بلغة عربية، لهجتها غريبة، رغم أنها تلبس ملابس أشراف العرب. - وبعدها؟ - كنت اسمع حكايات الجن ولا أصدق، اليوم صدقت وستصدق أنت، لأنني حين أدخلتها الدار كضيفة دون سؤال بدت وكأنها دون لحم ودم.. - نعم هكذا هم الجن، لا تخافي، هدئي من روعك.. لكن هل فهمتي منها لماذا تريد مقابلتي؟ .. لأنني سيد قريش؟ - نعم، هي قالت انا جئت لأسلم رسالة الى صخر ابن حرب سيد قريش، وعندما سيأتي ستفهمين الرسالة. وأكدت إن الرسالة ليس فيها ما يخيف مطلقا. كانت قد جلست أمامي والابتسامة لا تفارقها وتتحدث بكل هدوء. رغم ان يد ابي سفيان كانت ممسكة بمقبض سيفه طوال حديثها إلا أن جسده كان يرتعش خوفا، لكن كان يضغط على نفسه كي لا يظهر خوفه، حتى أنه لم يصطحب حراسه كي لا يبدو ضعيفا عند هند.. كان يقنع نفسه ويذكرها بأنه ابو سفيان الذي يجب أن لا يهاب أحدا، وأن كل الآلهة معه وستحرسه. ويقنع نفسه أن الرسالة خاصة وسرية، وقد يكون حلمه ليلة أمس هو تنبؤ بها، والحلم كان يبدو فأله خيرا كما قال له كبير كهنة الكعبة. ومع كل تلك الخواطر كان هناك شك في أن خيال هند قد جمح بعيدا. سبقته هند الدخول إلى الدار كي يكون من خلفها أكثر عزما، سلمت على المرأة التي مازالت في جلستها وهدوئها: - اهلا بك في دارنا ايتها الأخت، يا بنت الأشراف. - شكرا لك.. قالتها وقد زادت من ابتسامتها. تفاجأ ابو سفيان، شعر برهبة شديدة.. قال لنفسه: لا يعقل أننا أنا وهند نتخيل.. جلس أمامها بعد أن سلّم عليها خصوصا أنه تلهف لسماع صوتها الغريب، أسلوب نطق الحروف بتشدد واضح، لكنه جميل، بعد أن سلم عليها بـ: -عُمتِ مساءً يا أخت العرب. - وعليكم السلام يافخر العرب، سيد قريش وشجاعها وحكيمها.. أنا قدمت إليك حاملة رسالة لا يستطيع حملها غيرك. أنا أدرك لو أنني ظهرت لغير هند ولغيرك لكان قد فرَّ مني دون أن يسمع مني حرفا.. ومن أرسلني تقصَّد أن يبعث امرأة لا رجلا كي يقلل الخوف عندكم.. فهم يعلمون أنكم ترددون أقاويل الجن وتخافون منهم كثيرا.. وفي الحقيقة أنا لست من الجن. - ماذا؟ ماذا انت إذن، أنا وهند حسبناك من الجن وقد تقمصت جسد وملابس امرأة من أشراف العرب. - أؤكد لك بأنني من البشر، صورة (قالت لنفسها لم يفهم معنى صورة).. رسم في الهواء لامرأة من البشر.. سأوضح لك أكثر.. هل فكرت في المستقبل البعيد؟ .. عندما تتوالى منكم أجيال بعدها أجيال؟ - رسم في الهواء؟ أيعقل هذا ؟ كيف يكون هذا؟ - لنأت إلى السؤال. لا تستعجل الفهم .. الفهم صعب لكن ستفهمه شيئا فشيئا. - لم أفكر كثيرا.. فكرت كيف يكون الأحفاد في المستقبل، كم سيكون عدد قريش، ومن سيحكمها.. - انتم ستتكاثرون، وستنتشرون في أصقاع الأرض مثل غيركم من الروم والفرس والأحباش، سيكون منهم آلاف الآلاف. - ثم؟ - الأجيال ستتوالى في اكتشافات أكثر، ستتعرف على الأرض أكثر، جبالها وصحاريها وبحارها.. ستدقق في السماء أكثر.. ستدقق أكثر في الإنسان والحيوان والنبات مم يتكون، ستجمع ملاحظات مع ملاحظات وستعرف ماهي الحياة التي نعيش فيها أكثر.. كيف بنيت وكيف استمرت. - لا أستطيع ان اتخيل ما تعنين.. قليل من الخيال فقط. جاء في بال هند أن تقدم لها ما تشربه أو تأكله، باعتبارها ضيفة، وفي الوقت نفسه تعرف هل بامكانها ان تتناول الطعام فقالت لها: - من عادات العرب أن يقدموا الطعام والشراب للضيف، فماذا أقدم لك؟ - شكرا لك، لا أستطيع فعل هذا، كما قلت لكما أنا رسم في الهواء، رسم لامرأة موجودة في الحقيقة. - أين في الحقيقة؟ على الأرض أم في السماء؟ في بلاد العرب أم غيرهم؟ - سأكمل حديثي، في المستقبل ستصنع الأجيال أشياء كثيرة، العربات التي تركبون سيصنعون ما هو أسرع منها وأفضل منها، السيوف سيصنعون ماهو أفتك منها.. الملابس التي ترتدون سيصنعون الآت تنسجها بشكل أسرع وأفضل.. قاطعها أبو سفيان. - تركزين حديثك على المستقبل. على زمان لاندري ماسيكون، ماغايتك ؟ صار الفهم أصعب علينا. - بل أسهل، ولا يوجد طريقة أخرى للفهم.. هل فكرت يوما ان تتكلم مع الناس الذين صاروا في الماضي؟ - ماذا؟ أن تكوني من الجن يمكن تحمل هذا، لكن أن تكوني ميتة وتتكلمين فهذا شيء مخيف، ولولا أبو سفيان من هو أمامك لفرّ مسرعا، وربما سيتوقف قلبه خوفا، لكنني سمعت من الكهنة اقاويلا كثيرة، كثير منه كذبا، يضحكون به على الناس من أجل المال وتبديد مخاوفهم. - أنا لست ميتة، أنا حية تماما. أنا قصدت هل فكرت أن ترجع بروحك إلى زمنهم؟ - هذا مستحيل. - ألم تتمنى ذلك؟ ألم يتمنى الشيب منكم أن يرجعوا إلى زمن الشباب؟ - بلى، ولكن هذا مستحيل أيضا. - للأجيال في المستقبل البعيد لن يكون مستحيلا. سيكون الناس أذكياء جدا إلى درجة أنهم يفهمون ماهو الزمن، وكيف يرجعون إلى الزمن الذي يريدون ليتصلوا به وكأنهم فيه.. هل فهمت ما أعني؟ - لا لم أفهم، وما أفهمه لم أستطع تصديقه. - بل ستفهمه وتصدقه، أنا بشر مثلك، أنا من أحفاد أحفادكم البعيدون جدا، أنا جئت من المستقبل وأحمل رسالة مستعجلة.. نحن البشر في المستقبل في خطر ونحتاج مساعدتكم لئلا نهلك. - ماذا؟ لقد تعب رأسي مما تقولين. شعرت هي أن صخرا لم يعد صخرا أمامها، فقد تفتت نفسه، وتفتت أفكاره حتى كادت تطير وتتفرق مثل غيمة الصيف.. فسارعت الجواب: - أنا أعلم أن مجيئي وأقوالي يشكلان صدمة لكما.. لذا سأختفي الآن، وغدا سأظهر هنا مجددا في الوقت نفسه.. وكي تريح نفسك اجتمع بسادة قريش وكهنتها.. هم لن يصدقوك، لكن غدا سيصدقوك ولن يصدقوا أنفسهم.. لكنكم في النهاية ستصدقون ما قلت وما سأقول لاحقا. كان بامكاني أن أظهر فجأة لكل الناس، لكني رأيت هذا صعبا لأن كل منهم ولاسيما السذج سينتابهم الهلع ويظنون أنهم اقتربوا من الموت الجماعي. لذا فانني فضلت أن أبدأ بالصادقين، الأذكياء، الشجعان منهم حتى يروون صدقا ما رأوا وسمعوا، فيكون الناس بين مصدق وبين مكذب، حتى تتهيأ نفوسهم لأن يروا ويسمعوا بأنفسهم.. أنا ذاهبة الآن... أختفت صورتها. دهشة الاختفاء خففت خوف وقلق وحيرة الاثنين فرجعا قليلا إلى توازنهما النفسي، لكن كيف سيبلغان الآخرين، كيف سيقتنع سادة قريش بكلامهما. هي قالت إنها ستظهر غدا في الوقت نفسه لتواجههم، لكن إذا لم تظهر مرّة ثانية، ألا سيعتبرهما الناس مجنونين؟ - ولماذا مجنونان؟ أجابت هند على مخاوفه بمجرد أن رأته مستغرقا في تفكير عميق للحظات وكأنها تجيب على توارد أفكار متشابهة.. ثم أكملت: - الكهنة نفسهم يروون حكايات مثل ما رأينا. نحن نبلغهم الحضور إلى هنا بعد أن نروي لهم أدق التفاصيل.. - لا يا هند، أنا أفكر أن ندعوهم لوليمة غداء بحجة ما في باحة الدار، ولا نقول لهم شيئا وأنت تنتظرين هنا في الغرفة، حتى إذا ظهرت نخبرهم قبل أن يدخلوا ويروها حتى تخفّ الصدمة.. وإذا لم تظهر لا نكون في حرج وأقاويل. مرّ يوم طويل، أطول من أيام تجارة أبي سفيان أوقات الحرْ في صحراء أو طرق خالية من مكة الى الشام، لم يقلق بمثله في أيام الحرب وأيام ترقب الربح والخسارة لتجارته. وهند، نست حتى غيرتها من نساء أبي سفيان الأخريات. حضر سادة قريش وكبار كهنتها لوليمة الغداء بحجة تكملة ما انقطعوا عنه من تداول في أمور قريش قبل أن تقطعه هند البارحة. وبعد الغداء ظهرت المرأة الغريبة في الوقت نفسه وفي نفس مكان جلوسها وكأنها تكمل جلستها. أخبر أبو سفيان القوم، فاستمعوا بين مكذب ومصدق ومتسائل فطلب منهم الدخول إلى الغرفة ليروا بأم أعينهم الغريبة وهي تتحدث. دخل أبو سفيان الغرفة قبلهم مسلما فردت السلام مبتسمة، فيما شكك الداخلون من بعده لأول وهلة أنها غريبة مثلما قال، حتى دققوا أكثر بعد سلامهم عليها ليروا جسدها الشفاف وكأنها روح مرسومة في الهواء.. فرددوا أسماء الآلهة، كل حسب دهشته. بادرت هي القول: - كيف هم أخيار قريش وأخيار العرب، لقد أسعدني أن ألتقي بكم. بالتأكيد أن صدمة المفاجأة قد خفّت كثيرا عليهم بعد أن سبقهم اللقاء سيد قريش وزوجته، وها هما معهم دون أن يصيبهما ضرر. صمت بعضهم فيما رد الآخرون بصوت متلكئ بالترحاب. أعادت ما قالته بالأمس ثم قالت: - سأختفي الآن وسأظهر غدا في الوقت نفسه، لأنني لا أريد أن أتعب أعصابكم وفكركم.. أتمنى أن تحضروا غدا ومعكم أزواجكم. وبعدها سيكون مناسبا أن يراني كل أهل مكة. وفي اليوم التالي أعادت نفس الكلام ثم أضافت: - أنا آتية من المستقبل، مستقبل بعد حوالي ألف وخمسمائة سنة من هذا الزمن. في زمننا نحن نعيش أفضل منكم بكثير.. نحن نعيش في خير وفير في المأكل والملبس والصحة.. حتى نحن أجمل منكم بكثير.. طورنا وسائل النقل حتى استطعنا أن نطير إلى السماء أسرع من الطيور.. لا تستطيع الوحوش الضارية أن تقترب منا خوفا . لكن رغم كل هذا فوجئنا أنّ خطرا يقترب منّا.. هناك كتلة كبيرة من الهواء السام تريد أن تهبط من السماء فتهلكنا جميعا، نحن وكل ما على اليابسة وما في البحار، ولا مفر منها، فقلنا لابد من حل، لابد من صنع المستحيل، وهو أن تبدأ المسيرة منكم بشكل أفضل، تتعلمون أنتم بشكل أفضل، ويتعلم ابناؤكم وأحفادكم بشكل أفضل؛ حتى يحين نفس الزمن في المستقبل، فيكون البشر قد تطوروا أكثر وصاروا أذكى في مواجهة وصناعة ما يصد هذه الكارثة. سنزودكم بكل ما علمناه وخبرناه واخترعناه خلال هذه المدة ومعه اقتراحنا في كيفية مواجهتها. ثم اختتمت حديثها: - دوختكم اليوم كثيرا.. أنا آسفة.. سأختفي الآن وأظهر غدا.. سأظهر في الساعة الثامنة صباحا في سوق عكاظ ليراني من يحب.. واختفت. جهزت مئات من المعدات التكنلوجية التي يديرها دوكنز وآلاف العلماء والمختصين في موقع العمل، في مكة ومن حولها، يجهدون كي ينتجوا الجديد من القديم.. الجديد المخالف له، وفق الخطة التي وضعها الزوجان بكل دقة.. الموقع الذي بدا لايرتاده ويسكنه إلا قليل من البشر في عام 2100م. ظهرت المرأة الشفافة، جينيفر الشفافة للناس في سوق عكاظ فأصابتهم خوفا وتوترا وقلقا وحيرة وانبهارا، حتى فزع بعضهم وهرب، وتسمّر بعضهم وسجد. طلبت من الساجدين أن ينهضوا، مشت تتفقد السوق لدقائق يتبعها ابو سفيان وزوجته هند، ربما كي يبينوا أحقيتهم بها وشجاعتهم في تقبل واجترار المجهول. وقفت، نظرت في وجوههم الواحد تلو الآخر سريعا، ثم قالت: - اتبعوني..لاتخافوا، سأريكم أشياءً مهمة تجعلكم كلكم أغنياء، المكان بعيد عن هنا مسافة نصف ساعة من المشي وعليكم التحمل، فمشى خلفها أبو سفيان وأخيار قريش يتبعهم عبيدهم، ثم باقي الناس ممن تجرأ أو من وثق بقادته. في مكان صحراوي خال تماما، وقفت وقالت: أنظروا ما سيحدث أمامكم ولا تخافوا. بدا لهم الهواء الشفاف على بعد خمسين مترا وكأنه يفقد شفافيته، يضيء ثم يخفت، يتنقط بالضوء على ارتفاع ثلاثة امتار. ثم بني حائطا أبيض بطول خمسين مترا. - ردد أبو سفيان ومن بعده القوم: إن الله على كل شيء قدير، ولم يعيروا اهتماما لعدم ترديدها معهم. نادتهم من خلفها: تعالوا انظروا. اقترب الكل.. شاهدوا أن الحائط مربع. فيه فتحة دخول وكأنها باب، طلبت منهم الدخول معها، صار أمامه مربعا آخر أصغر ، ثم فتحة أخرى لمربع أصغر ثم مربع أصغر، وكلها بنفس اللون الأبيض، الصافي، اللمّاع قليلا. وحين قالت لها هند: ما هذا؟ ماذا يعني هذا؟ قالت: - اخرجوا الآن، بعد قليل ستمتلئ هذه الجدران كتابة ورسومات توضيحية.. ستدلكم على اماكن الذهب والفضة وباقي المعادن كي تستخرجونها، وأماكن فيها سائل نُسميه نحن النفط يستعمل كوقود ومادة لكثير من الصناعات على بعد مئات الفراسخ شرقا، وأماكن الآبار عذبة المياه .. وكتابات أخرى وأخرى، ستعلمكم كيف تزرعون زراعة ناجحة، وكيف تصنعون أشياءً جديدة.. ستزودكم بكل المعارف التي توصلنا إليها، موقع الأرض التي تدوسون عليها بالنسبة للنجوم التي تسمو فوق رؤوسكم، خريطتها، يابستها وبحارها.. ستتغير مفاهيمكم تماما عن الحياة والوجود، ربما أجيالكم الحالية ستضطرب فكريا، لكن من سيولد سيتعامل معه كواقع عادي. واثناء حديثها بدأت الجدران تتلون بالكتابة بالوان مختلفة.. وعلى كل جدار من الخارج والداخل، وكل كتابة فيها خط فاصل عما بعدها وهناك أسهم كثيرة تبين التتابع، مع رسوم توضيحية جميلة، متحرك بعضها مثل فلم. كتبت العلوم تباعا، من تعليم الكتابة الأولية حتى تأتي بعدها تخصصات المعارف والعلوم.. ثم تتعقد، وتتعقد في المربع التالي ثم التالي، كل علم أو تخصص كتب بلون أو تشكيل لوني، لتمييزها وتداخلها . وهنا قالت: ستتعلمون كتابة جديدة، هناك أحرف جديدة ستضاف وستلاحظون أهميتها فيما بعد، وسيظهر معها اللفظ بالصوت.. أطفالكم سيتعلمون بسرعة أكبر منكم.. عندما ستجدون أول آبار الماء وأول منجم للذهب كما هو مرسوم في الخرائط ستتشجعون لمتابعة فهم كل ما هو مكتوب.. ستطوفون لتنهلوا العلم كل يوم من الصباح حتى المساء.. وستتعلمون كيف تجعلونها مرئية بالانارة حتى في المساء، فقد يحتاجها المضطر لمعلومة طبية مستعجلة. انتبه أحد قادة قريش لكلمة الطواف فسأل: - ولا نطوف حول الكعبة؟ - لا أحد يمنعكم، لكن ستتعلمون إنّ اشياءً كثيرة قد تعلمتموها لاتحتاجونها فيما بعد، تدريجيا. ثم أردفت: كذلك لا نريد أن يضطرب نظامكم السياسي والاجتماعي، سيبقى حكام قريش يحكمون، وسيتعدل النظام لما هو أفضل مستقبلا.. ستتعلمون أن الحكم ليس للجاه فقط، وانما لخدمة الرعية بأعدل ما يكون. ثم اختتمت: أنهيكم عن القتل وعن الاعتداء، انهيكم عن الحرب والاقتتال ، أنهيكم عن الأسر والسبي والسرقة، حرروا عبيدكم، فهم بشر مثلكم، ومن يخالف سيعرف أنه سيحرم من رؤية أي شيء على الجدار.. قاطعها أبو سفيان: - كيف لنا أن نحررعبيدنا؟ وكيف لنا أن لا نأسر ونسبي ممن يضمر الاعتداء علينا؟ - ستعرفون بعد أمرنا هذا انكم تحتاجون العبيد بشكل آخر، باناس أحرار يفتحون أذهانهم وسواعدهم لمساعدتكم أكثر، وبكل محبة. ولن يضمر أحد لكم الشر، بل سيأتي الى هنا البشر من كل صوب وناحية، من الفرس والروم والأحباش وغيرهم ليتعلموا منكم وسيعلى صيتكم، دعوهم يتعلمون مثلكم، فلا فرق بين انسان وآخر مهما تنوعت الألوان والأعراق، فكلكم يجب أن تقفوا صفا واحدا أمام صعوبات الحياة، أمام حيواناتها المفترسة وأوبئتها وظواهرها المخيفة والمدمرة.. سأختفي وأظهر بعد شهرين هنا لأرى ماذا فعلتم. بعد شهرين، التي يقابلها عشرات من الدقائق بالنسبة لمعدي برنامج التاريخ الموازي ظهرت لهم، فوجئت بترحاب كبير من أبي سفيان وقومه. أروها قطعا من الذهب المستخرج وقال لها ابو سفيان انهم ينوون سك عملة ذهبية، وانهم استخرجوا مياها عذبة من آبار جديدة وكثيرة، وشرعوا الزراعة في أماكن جديدة بطرق جديدة، ولم يقتل أحدٌ أحدا طيلة هذه الفترة، وأن الناس صاروا أكثر طيبة وتعاونا مع بعضهم وسهلت قيادتهم، وصار العبيد أحرارا، ومع ذلك هم شكروا من كانوا أسيادهم وبقوا على أهبة الاستعداد لمعاونتهم. وأنه سمح للغرباء من خارج مكة أو من بلاد بعيدة أيضا أن يبحثوا عن الذهب وغيره مثل أهل مكة مقابل نسبة عشرة بالمائة من الربح، وانه سيستفيد من هذا المال كي يبني مدينة جديدة أو صناعات جديدة، وأنهم لم يعقلوا بعد كروية الأرض، وهنا أضافت المرأة الشفافة طلبات جديدة: مساواة المرأة مع الرجل في كل الحقوق والميراث، منع الزواج لأقل من ستة عشر عاما، منع تعدد الزوجات. فلابد من كرامة المرأة، وبلوغها الجنسي والثقافي حتى تتزوج، وعلى الشباب أن يصبروا، وهم قادرون على ذلك بانشغالهم بالتعلم، فتقبلوا طلبها على مضض، وترجوها أن يخففوا ذلك بخطوات تشريعية متتابعة. اطمأنّت المرأة الشفافة لما يحدث من موران وتغييرات وقالت لهم: لن أظهر لكم بعد الآن لكنني سأتابعكم في الخفاء.. اتمنى لكم كل الخير.. واختفت. شهور مرّت، تم استخراج النفط من شواطئ الخليج ومناطق كثيرة من العالم، شبكات من الكهرباء والأجهزة الكهربائية، جامعات في بقع كثيرة من العالم، البواخر تملأ البحار، والاقمار الصناعية تملأ السماء، لم تحدث حروب، ولا قنبلة ذرية قد صنعت. شهور عادلت أكثر من الف سنة موازية لها، لكن كل ذلك كان يعرض في صور يشاهده المسؤولون عن المشروع، يتم بتشبيك معلوماتي متتالِ، بتفاعلات كيميائية مفترضة، تزاوجات مفترضة تبنى عليها كي يتم الوصول إلى آخر حالة لتخرج إلى الواقع، أخر مجتمع بشري يظهر فجأة ليحل محل الموجود، يظهر مثل المهر الذي يتكمن من الوقوف والجري والابصار والسمع فور ولادته ليقوم بعد فترة وجيزة بدوره وهو يحمل خبرات سلفه. مجتمع أعد على شاشات الحاسوب وعبأ معلوماتيا وكأنه يحمل ذاكرة حقيقية لكل أحداث سلفه التي تم فيها وضع ردود الفعل الأفضل لمتغيرات الطبيعة.. أجساد حقيقية من دم ولحم ما تدري حالة الانقطاع عن الأجساد الحقيقية قبل أكثر من ألف سنة. وفكر متّقد وجد نفسه مسلّحا قبل ظهوره لمجابهة الكارثة.. علماء معهم خطط التنفيذ القديمة وطرق تصنيعها الجديدة والسريعة التي حيكت بفضل التطور الهائل للخوارزميات التي حاكت تطور الأدمغة المفترضة ففرضت نفسها على حواسيب دوكنز.. من ثم الوصول إلى كتلة الهيدروجين خلال أشهر وهي لم تصل إلا قرب زحل. اتخذ الرئيس ساندرز وحكومته قرارات عاجلة كي يضمنوا استمرار العيش قبل موتهم الجماعي.. أن لا يموتوا قبل أن يموتوا. أن يضمنوا للبشر الغذاء والدواء وماهو ضروري للعيش فقط.. اقتنع الرأسماليون والعمال والمزارعين والطلبة الذين تركوا مقاعد دراستهم أن يتحولوا فورا إلى مجتمع اشتراكي يعمل كله طواعية لأخر يوم من عمر البشرية.. قسّموا الواجبات وكأنهم عائلة واحدة كل فرد منها يحب الآخر ويتفانى في عمله. زال الافتراق إلا ما ندر، وعم التجمع حتى ساد الحب ولم يبقَ من الكره إلا نغزات صغيرة تظهر أحيانا في النفوس. فكر الناس ماذا سيعملون، ماذا يتصرفون في آخر يوم بشري، في آخر ساعة هي ليست كل الساعات التي مضت، فخلصوا إلى أن كل فرد لابد أن يمسك أيادي أفراد عائلته، لكنهم انتبهوا أن لكل عائلة تشابكات مع عوائل أخر مثل الشبكة العنكبوتية، حتى وصل مقترح للرئيس أن يتشابك كل البشر، بل، ليس شرطا أن يكون التشابك عائليا كله، فهناك الأقرب مكانا وهناك من ليس عنده عائلة ، ولاسيما أنهم شعروا ليس مثل أي وقت سابق بأنهم الأن عائلة واحدة. ثم قفز إليه مقترح آخر: أن يشكل كلهم عبارة كبيرة على سطح الأرض المدور باللغة الإنكليزية هو.. we will survive .. أي نحن سنحيا، يرددون كلهم أغنية غلوريا غيانور I will survive بعدما ألحّ أحد الفلاسفة بأن البشر لن يموتوا وانما سينتقلون إلى كوكب آخر يشبه الأرض لكن ظروفه أفضل.. ليلحقوا بمن اعتقدوا أنه مات قبلهم، فصدقه بعض البشر إلى درجة أن بعض الحوامل لم يقبلن إجهاض من في بطونهن. فلماذا يمتن جنينا قبل أوانه، لماذا لاندعه يستمتع بالتنفس وتحسس حياة جديدة ولو لفترة بعد ملل المكوث في الرحم ؟.. قد يكتب له حياة في كوكب آخر سواء ولد أم لم يولد بسبب الكارثة. عدا أنها ستتحمل آلام الاجهاض لأيام يجب أن تعيشها بسعادة قدر الإمكان. حتى اقتربت النهاية وصار احساس غريب ينتاب كل البشر، فصرح عالم الماضي دوكنز: - استعدوا للنهاية، البرنامج توقف تلقائيا لانه وصل إلى نهايته، هدوء كبير سيعم نفوسكم.. افكاركم ستتلاشى ، وبعدها سنموت كلنا بهدوء، بدون الألم الذي كان لابد أن يصيبنا اثناءه في الظروف السابقة. ومان أن نختفي سيظهر محلنا بشر جدد يكملون المسيرة متخطين عقبة سحابة الهيدروجين. وما أن أكمل كلامه حتى رأى كل البشر ان السماء من فوقهم بدأت تبيَّض وتنزل إليهم، وأن شعورا بداخلهم يتوق نزولها أكثر وكأنها أم حنون تريد احتضانهم.. وما أن غمرتهم حتى تلاشت أجسادهم وكل ما صنعوه فوق الأرض ........... ثم تلاشى البياض وكأنه ستارة مسرح، لتظهر حضارة جديدة لبني البشر. ----------------------------------------------------------------------------- عام 2100 من جديد كانت تركض وكلاب ضخمة تهبط من السماء وتجري خلفها، حتى وصلت الى بيت ضخم، ضغطت على زر في جانب الباب كي يفتح.. دق منبه قريبا من سرير بيرندرا رئيسة كوكب الأرض والكواكب التابعة لها، واشتعل الضوء الأخضر فأيقظها من حلمها حينما كانت نائمة في غرفتها على متن مركبة فضائية أبعد من مدار المريخ. صوت المنبه المرتبط بمجلس الأمن الفضائي يطلب الاتصال... ضغطت زرا أخرى لتستمع: - نعم. - سيدتي الرئيسة نحن جاهزون وبعد ست ساعات سنبدأ. - طيب، دمتم بخير. بعد لحظات من الرد، بدأت الوصلات العصبية في دماغ بيرندرا الذي يزن ثلاثة كيلوغرامات تقريبا بتشبيك ذكريات لشخصيات متعددة، تلك التي شكلت شخصيتها الأخيرة، ذكريات هند بنت عتبة وجنيفر، حتى باتت تشعر بتغير الشخصية كلما تركزت الدائرة الكهربائية في كل شخصية منهن، فتتلذذ بها، وتتلذذ بالسير حافية على خط الزمن. من نتائج التاريخ الموازي الذي ظهر بعد ولادات خوارزمية عسيرة أن البشر طوروا انفسهم جينيا فوصلت أطوالهم إلى ثلاثة أمتار، وبذلك كبرت أدمغتهم أيضا فصارت أكثر ذكاءً وأكثر سعة في خزن المعلومات.. اختصروا اعدادهم إلى ثلاثة مليارات تقريبا، بقي نصفهم على كوكب الأرض، بينما ضجت كواكب آخرى اكتشفوها خارج المجموعة الشمسية بالعدد الباقي، يضاف له من سكنوا في مركبات فضائية ضخمة وفروا لها كل شيء لتكون سكنا دائما، والغاية منها هو أن يكونوا أكثر حرية في التنقل في أرجاء المجرة؛ للاستكشافات الجديدة والمتعة. اخترعوا الحواسيب الكمّية فصار الاتصال بينهم لحظوي رغم المسافات الضوئية التي تصل إلى مئات السنين. وصار تفادي خطر الماضي مثل سهولة إبعاد كرة قدم سريعة قادمة نحو حارس مرمى ماهر. ورغم الانتشار في كواكب عديدة جميلة أسهل عيشا بقيت الأرض هي الأكثر اعتزازا بها، بقيت هي هويتهم الأصلية التي يسمّون أنفسهم أبناءها. بعد ساعات تم إطلاق الكبسولات الأوكسجينية ونجحت خطة إبعاد مسارها نحو الأرض. وحان مرورها بعيدا، هتف بعض من البشر الذين تدينوا بدين جديد اعتقدوا فيه أن الزوجين أصحاب فكرة التاريخ الموازي قد تلقوا إيحاءً من الله: إن الله على كل شيء قدير. بعد أيام من الحدث اكتشف أحد تلسكوبات المسابر خارج المجموعة الشمسية مسبارا غريبا تنطلق منه ترددات لاسلكية مشابهة بأطوالها الموجية للترددات التي يطلقها البشر، يبدو أنه قد انطلق من كوكب يدور حول نجم آخر، فكانت أحدى مقاطعه تردد: نحن سنحيا.. هي نفس العبارة التي اكتشفها علماء الآثار قبل أشهر فوق كوكب الأرض التي تبدو أن البشر من قبلهم قد كتبوها، ضمن اكتشاف كبير فكّ كل ألغاز الماضي جراء تداخل المسارين. وهكذا توحد التاريخان مرّة أخرى بعدما حدث التواصل بين الكوكبين بعد أشهر قليلة. وعرفا أنهما كانا أبناء تاريخ واحد. 29/7/ 2020
#رائف_أمير_اسماعيل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحيرة في فهم وعي الإنسان المتفرق لذاته الواحدة
-
حب زينوني
-
رأي جديد في سبب حدوث مرض السرطان وكيفية علاجه
-
دين الروبوتات
-
نحو سرعة أعلى من سرعة الضوء- الحالة الثالثة
-
شياطين طالبان
-
أسس فسلجة الضحك
-
هنا العراق
-
وداعا أيها الموت
-
تسلل الإيمان - قصة قصيرة جدا
-
رماد هندوسي بارد
-
رسل - قصة قصيرة جدا
-
أحب القصور الملكية (مصححة)
-
أفكار في فهم الوجود من منظور فلسفة الفيزياء - افتراض جديد لل
...
-
معنى كلمة أدب بصياغة جديدة
-
أحب القصور الملكية
-
الشاعرة رند الربيعي .. وأقشر قصائدي فيك
-
لماذا يحب الأطفال أفلام الكارتون
-
ما الجمال ؟..الجواب الجمالي
-
تحديد مفهوم الله فلسفيا
المزيد.....
-
مهرجان مراكش الدولي للفيلم يكرم أربع شخصيات بارزة في عالم ال
...
-
-العملاق- يفتتح الدورة الخامسة من مهرجان البحر الأحمر السينم
...
-
منصور أبو شقرا... مسيرة شعرية وثقافية تتجسد في إصدار مجموعته
...
-
نردين أبو نبعة: الكتابة المقاومة جبهة للوعي في مواجهة السردي
...
-
مصر: نقيب الممثلين ينفي فتح تحقيق مع عباس أبو الحسن بعد تصري
...
-
جدل بعد بث أغنية أم كلثوم عبر أثير إذاعة القرآن الكريم المصر
...
-
أشبه بالأفلام.. سيدة تُقل شرطيًا بسيارتها لملاحقة سارقة متجر
...
-
-البيت الفارغ- والملاحم العائلية يمنحان الفرنسي لوران موفيني
...
-
المهرجان الدولي للفيلم بمراكش يكرّم جودي فوستر وحسين فهمي
-
لوران موفينييه يفوز بجائزة غونكور الأدبية الفرنسية عن روايته
...
المزيد.....
-
الذين باركوا القتل رواية
...
/ رانية مرجية
-
المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
...
/ د. محمود محمد حمزة
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
/ د. أمل درويش
-
مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
...
/ السيد حافظ
-
إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
المزيد.....
|