| 
                    
                 | 
                
                    
                        
                        
                        
                            
                            
                                
                             
                            
                                
                                    (لذة العطر )
                                
                            
                            
                               
                                    
                               
                                
                                
                                   
                                     
 
                                         
                                        
                                            خيرالله قاسم المالكي
                                        
                                            
                                                
                                        
                                        
                 
                
                 
                
                
                 
                 
              
                                        
                                        
                                      
                                         
                                        
                                            الحوار المتمدن-العدد: 8515 - 2025 / 11 / 3 - 21:57
                                        
                                         
                                        المحور:
                                            الادب والفن
                                        
                                         
                                            
                                        
                                         
                                     
                                      
                                        
                                        
                                        
                                        
                                            
    
    
 
                                       
                                         
                                         
                                 
                                
                                   
                                        
                                            
                                              متاهة الروح بين صدى الأمس ووجع الغد
  ما رأيتُه في الصبا لم يكن مجرد مشهد عابر يُطوى في سجلات الذاكرة، بل ما تذوقته روحي في ذلك الزمن المضيء - ذلك الزمن الذي كان يتدفق كنهر من ذهب سائل - كان جوهر اللذة بعينها، شراباً أزلياً استقر عذبه في فمي، وحلاوته في عمق يقيني الذي لم يكن يعرف الشك أو التردد. كان حلواً كطعم ارطب البرحي، لا ذلك الرطب  المهجّن المُصطنع الذي تبيعه أسواق العصر الحديث في علب بلاستيكية باردة، بل رطب البرحي  العتيق الذي كنا نغترف حباته الأرجوانية والياقوتية - تلك الجواهر الصغيرة التي كانت تنبض بالحياة - وهي لا تزال دافئة بندى الصباح الطاهر، من حدائق الطفولة المنسيّة، حدائق “بيت الخالة حصة” الذي كان ينام بسكينة على ارض  خضراء تطل على منحدر ، كأنه حارس أبدي للزمن الجميل. كانت الخالة حصة، بعينيها الكحيلتين اللتين تحملان خريطة ألف عام من الحكمة المُكتسبة والفطرة النقية، وبيديها المتشققتين من عمل الأرض الصادق، هي حارسة تلك اللذة الأولى. كانت امرأة من طراز نادر، من ذلك الجيل الذي كان يعرف أسرار الأرض والسماء معاً. وجهها المجعّد كان خريطة للزمن، وكل تجعيدة فيه حكاية، وكل نظرة من عينيها درس في الحياة. كانت تلبس ثوباً أسود دائماً، مطرزاً بخيوط فضية على الأطراف، وتغطي شعرها الأبيض بفوطة  حريرية ينساب على كتفيها كشلال من النور الخافت. هي من علمتنا، بصبر لا ينفد وحنان لا يُوصف، كيف نختار الحبة الممتلئة التي تفرقع في الفم بطعم ساحر يغسل القلب من كل أحزانه، وكيف نتفادى العثق  الماكر الذي يحيط بها كأنه يحرس الجمال من العابثين. كانت تقول بصوتها الرخيم الذي يشبه خرير الماء: “ الرطب مثل السعادة يا أولادي، محاط بالعثوق، لكن من يصبر ويتعلم يصل إليه دون جروح”. كنا نجمع الرطب  في سلال من الخوص النخيل  التي كانت تنسجها بيديها في ليالي  الشتاء الطويلة، وكانت الأيام تمتد أمامنا كشريط سينمائي لا ينتهي، كأنها لن تنقضي أبداً، سلسلة من الأعياد المتواصلة، حيث لا يُقاس الزمن بعقارب الساعة الميكانيكية القاسية، بل برحلة الشمس البطيئة الحانية من شجرة الحناء العملاقة إلى شجيرة  الآس  المُعمّرة الدائمة الخضرة  التي كانت تقف في زاوية الحديقة كحكيم صامت. كان كل شيء في تلك الأيام الغابرة والمباركة، تلك الأيام التي تبدو الآن كحلم جميل حُلِم في زمن آخر، واضحاً جليّاً، مُعرَّفاً بلا ظل للشك أو الالتباس. كانت الحياة جوهرة مصقولة بعناية إلهية، تلمع تحت شمس الضحى الذهبية كقطرات الندى الماسية التي كانت تتشبث بعناد بأطراف أوراق شجر الحناء  العملاقة، كأنها تأبى التبخر، تأبى الرحيل. كنا نملك اليقين المطلق، ذلك اليقين الطفولي الساذج والعميق في آن، بأن هذا النور الدافئ سيبقى دليلنا الأبدي، وأن هذه السعادة البسيطة النقية لن تغادرنا أبداً. كانت رفيقتي في تلك البستان السحري فتاة تدعى ليلى، بضفائرها السوداء الطويلة التي كانت تتمايل كمبال شجر العرنوص  في مهب نسيم الصيف اللطيف. كانت ليلى في التاسعة من عمرها حين التقيتها أول مرة، وأنا في العاشرة. جاءت مع عائلتها لزيارة الخالة حصة في ذلك الصيف الذي لن أنساه، الصيف الذي بدأت فيه روحي تفهم معنى الجمال. كانت ليلى تجسيداً حياً لليقين، كائناً ملائكياً نزل إلى عالمنا بثوب طفولي. فصوت ضحكتها الرنّانة الصافية - تلك الضحكة التي كانت تشبة زقزقة العصافير  في الفجر - كان كافياً لطرد أي خوف يتسلل إلى قلوبنا الصغيرة، كان بلسماً شافياً لكل جراح الروح. كانت عيناها بلون خضرة الأوراق  الصافي، وفيهما بريق لا يمكن وصفه، بريق الحياة في أنقى صورها. كنا نتنافس، بروح طفولية خالصة لا تعرف الحقد أو الحسد، على من يجد التمرة  الأكبر والأجمل، ثم نقتسمها في النهاية بعدالة مطلقة، في صمت روحاني يُغني عن كل الكلام، صمت كان أبلغ من ألف خطاب. كان عطر الرطب الطازج على أيدينا الصغيرة المتسخة بعصيره الأرجواني هو العهد المقدس بيننا وبين العالم، عهد بالبراءة الأبدية والصدق الفطري الذي لا يشيخ ولا يتآكل بفعل السنين. أتذكر تلك الأيام بتفاصيل دقيقة تكاد تكون مؤلمة في وضوحها. أتذكر كيف كانت الخالة حصة تجلس تحت ظل شجرة النخل العالية  الضخمة، وهي تراقبنا بعيني أم حانية، وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيها الرقيقتين. كانت تحمل معها دائماً جرة  من الماء البارد المُنعش وكأساً من الفخار، وحين نعود إليها بسلالنا المليئة، كانت تغسل أيدينا بالماء وتمسحها قماش  أبيض معطر بماء الورد ، ثم تُطعمنا من الرطب  بيديها، كأننا ملوك صغار في مملكة الطفولة السعيدة.
  لكن الزمن، ذلك الساحر  البارع والساحر الماكر الذي لا يعرف الرحمة ولا يعترف بالعهود، أصرَّ بعناد على أن يكسر مرآة الكمال تلك. لم يستطع أن يمحو تلك اللذة الأولى تماماً - فالزمن رغم قسوته لا يملك هذه القوة المطلقة - بل حولها بمكره إلى مادة أكثر شاعرية وأكثر إيلاماً في الوقت ذاته. حوَّلها بتؤدة وقصد إلى عطر يأتي من بعيد، من أعماق لا قرار لها،  طعم ريح  خفيف شفاف لا يُرى بالعين المجردة ولكنه يُحَسُّ عميقاً في الروح، عطر شوقٍ لاذع حارق يداعب أنفي في لحظات الصفاء النادرة والعابرة، تلك اللحظات التي أغتنمها اختلاساً من صخب العيش اليومي المُمِض ورتابته القاتلة. حينها فقط، في تلك اللحظات المسروقة من قلب الفوضى، يوقظ هذا العطر الغامض في أعماق روحي المتعبة حنيناً عميقاً يشبه وقع الأقدام الحافية في أطلال متروكة  منذ قرون، حنيناً لاذعاً مؤلماً إلى ما كان وما لن يعود أبداً، إلى ذلك الزمن الذي كان فيه كل شيء ممكناً وكل حلم قابلاً للتحقق. لقد تحولت حياتي كلها، كل لحظة أعيشها وكل نفس أتنفسه، إلى رحلة بحث محمومة ويائسة عن مصدر هذا العطر المراوغ، عن ذلك الينبوع الأول الذي تدفقت منه اللذة النقية. في السنوات التي تلت ذلك الصيف المبارك، حاولت مراراً أن أعود إلى بيت الخالة حصة. كانت أول زيارة بعد خمس سنوات من مغادرتنا. كنت في الخامسة عشرة حينها، مراهقاً يظن أنه فهم العالم ولكنه في الحقيقة لم يفهم شيئاً. وصلت إلى البيت في ظهيرة صيفية حارقة، والشمس تسكب ناراً على الأرض المتشققة. كان البيت لا يزال هناك، لكنه بدا أصغر مما كنت أتذكر، أقل بهاءً، كأن الزمن قد سحب منه شيئاً جوهرياً. دخلت إلى البستان  بخطوات مترددة، وقلبي يخفق بعنف. كانت شجرة النخيل  لا تزال واقفة، لكن سعفها  كان أقل كثافة، و بدت متعبة تحت وطأة سنين الجفاف. لم يكن هناك تمر  ذلك اليوم، الموسم كان قد انتهى. وجدت الخالة حصة جالسة في مكانها المعتاد تحت شجيرة  الآس ، لكنها بدت أكثر هشاشة، أكثر شفافية، كأن الزمن كان يمحوها تدريجياً. ابتسمت حين رأتني، ابتسامة حزينة فيها الكثير من الفهم. “عدت تبحث عن شيء فقدته هنا، أليس كذلك يا بني؟” قالت بصوت أضعف مما كنت أتذكر. لم أستطع الإجابة. جلست بجانبها، وشعرت بدموع تحرق عيني. لم تكن دموعاً على الماضي فقط، بل على إدراكي المفاجئ أن الماضي لا يمكن استعادته، وأن محاولة العودة إليه هي أشبه بمحاولة الإمساك بالماء بين أصابع مفتوحة. “كل شيء يتغير يا ولدي،” تابعت الخالة حصة، وهي تربت على يدي بحنان. “حتى الذكريات تتغير في عقولنا. ما تبحث عنه ليس هنا، إنه في مكان آخر، في داخلك أنت.” لم أفهم كلامها حينها. كيف يمكن أن يكون ما أبحث عنه في داخلي وأنا أشعر بهذا الفراغ الرهيب؟ لكن السنوات علمتني لاحقاً أنها كانت على حق. العطر الذي أبحث عنه ليس عطراً خارجياً يمكن العثور عليه في مكان محدد، بل هو حالة روحية، لحظة من التناغم الكامل بين الذات والعالم، لحظة نادرة لا تتكرر كثيراً في حياة الإنسان.
  والآن، بعد أن مرت السنون الطويلة القاسية كعمال الموانىء ، وتبدلت الوجوه المألوفة وتغيرت المعالم، وهجرت الخالة حصة بيتها - أو بالأحرى أُجبِرت على هجرانه حين مرضت ونُقِلت إلى دار للعجزة والمسنين  في المدينة - وصارتبستان  النخيل  الغنّاء أطلالاً مهجورة تأكلها الأعشاب البرية والنسيان، لم يعد لي ونيس حقيقي سوى ريحة  ذلك العطر الأبدي المراوغ. أشم ذلك العطر الذي يحمل في طياته وثناياه سجلّاً كاملاً مفصلاً لكل ما فقدته من أشخاص أحبهم ويقين كنت أملكه وبراءة لم أعد أعرف طعمها. إنه ليس مجرد رائحة عابرة تهب مع النسيم ثم تختفي، أو ذكرى باهتة مهزوزة؛ بل هو ذكرى حية تنبض بقوة وتتأجج في أعماقي كجمرة لا تنطفئ، تقاوم النسيان بعناد لا يلين ولا يستسلم. كان هذا العطر الملعون والمبارك في آن يتجسد أمامي في شكل صور باهتة متقطعة ترفض أن تخفت أو تتلاشى، لوجوه أحببتها بكل ما في قلبي من طاقة ثم غابت في زحمة الحياة وفوضاها، وعلى رأسها ليلى التي اختفت كأنها لم تكن، كأنها كانت مجرد شبح جميل زار حياتي لفترة ثم رحل دون وداع، ولحظات عشتها بكل جوارحي وبكل اندفاعي الأحمق الذي لم يعرف الحسابات العقلانية أو الحذر المنطقي. أصبحتُ مُداناً لهذا العطر، مسجوناً بلا محاكمة في ذاكرة صلبة قاسية ترفض الإفراج عني، ترفض أن تمنحني حريتي أو سلامي. سافرت إلى مدن كثيرة في محاولة للهروب من هذا السجن غير المرئي. ظننت أن المسافة قد تضعف قبضة الذاكرة، أن الأماكن الجديدة قد تمنحني نسياناً رحيماً. زرت دمشق بأسواقها العتيقة ورائحة الياسمين التي تملأ حاراتها الضيقة. وقفت في جامع دمشقي ، محاطاً بالفسيفساء الذهبية والأعمدة الرخامية، وشعرت بعظمة التاريخ تسحقني. لكن حتى هناك، في قلب تلك الروعة الأثرية، كان العطر يجدني. كان يختبئ في زاوية مظلمة من سوق المدينة ، حيث يبيع عجوز صغير العطور التقليدية في قوارير زجاجية قديمة. اقتربت منه بلهفة، وسألته عن عطر معين، لكنني لم أستطع وصفه بدقة. كيف تصف عطراً ليس له اسم، عطراً هو خليط من ذكريات وأحاسيس أكثر منه مادة كيميائية؟ نظر إليّ العجوز بعينين حكيمتين وقال: “أنت لا تبحث عن عطر، بل عن زمن. والزمن لا يُباع في قوارير.” سافرت بعدها إلى إسطنبول، تلك المدينة التي تقف على حافة قارتين، حيث يلتقي الشرق بالغرب في عناق أبدي. تجولت في شوارع السلطان أحمد، وشربت الشاي التركي في مقاهي تطل على البوسفور، وشاهدت غروب الشمس يصبغ مياه المضيق بألوان نحاسية خلابة. لكن في كل مكان، كان العطر يطاردني. كان في رائحة الخبز الطازج الذي يُخبز في الأفران الحجرية القديمة، وفي عبق البخور الذي يتصاعد من الجوامع عند وقت الصلاة، وفي عطر الورود التي تزين حدائق قصر توبكابي. ثم ذهبت إلى مراكش، إلى ساحة جامع الفنا الصاخبة حيث تختلط روائح التوابل والجلد المدبوغ ودخان الأطعمة المشوية. كنت أبحث عن الضياع في الزحام، عن التيه في متاهة الأزقة الضيقة للمدينة القديمة. لكن حتى هناك، في قلب تلك الفوضى الحسية المذهلة، كان العطر ينادي عليّ بصوت خافت ولكن واضح. كان في رائحة أكوام النعناع الطازج في السوق، وفي عطر زهر البرتقال الذي يملأ حدائق الرياضات التقليدية. أدركت بعد كل هذه الرحلات أن الهروب مستحيل. العطر لم يكن مرتبطاً بمكان معين، بل كان مرتبطاً بي أنا، بروحي، بذاكرتي. كان جزءاً مني لا يمكن بتره أو التخلص منه. وكلما حاولت الفرار، كلما اقترب مني أكثر.
  قررت أخيراً أن أنهض من يأسي، متحدياً واقعي الرمادي الكئيب الذي لا لون فيه ولا طعم ولا رائحة. سرتُ نحو العطر بخطوات متلهفة وغير منتظمة، خطوات رجل فقد بوصلته في عالم ليس عالمه، كمن يسير بلا هدى في صحراء قاحلة موحشة نحو سراب خادع يلوح في الأفق البعيد المتراقص. سراب يَعِد كذباً بالماء العذب والظل الوارف والراحة، لكنه يخدع ويُضل ويسخر من عطش السائر. ولا زلت أسير حتى هذه اللحظة بالذات، لا أتوقف ولا أستريح، خلف ذلك العطر المراوغ الماكر الذي لا يمنحني لحظة واحدة من الراحة أو السكينة. يقترب أحياناً ليمنحني دفئاً كاذباً مؤقتاً ووهماً بالوصول، فأكاد ألمس الحقيقة بأطراف أصابعي المرتجفة، ثم يبتعد فجأة ليتركني في صقيع الوحدة القارس والضياع المطلق، كأنه يلعب معي لعبة قاسية لا نهاية لها ولا فوز فيها ولا معنى. في خضم هذا السير المضني المتواصل، في إحدى تلك الليالي التي لا تُنسى، التقت خطواتي الحائرة بـ”ظل” غامض. لم يكن جسداً كاملاً من لحم ودم، بل كان هيكلاً عاطفياً شفافاً يعيش على الهامش، شبحاً مبهماً لليلى التي كنت أعرفها في الماضي البعيد. في كل مدينة أزورها هرباً أو بحثاً، وفي كل مقهى قديم متهالك أجلس فيه محاولاً أن أستجمع خيوط روحي المبعثرة، كنت أرى وجهاً أنثوياً يحمل شيئاً خافتاً من لمعة عينيها العسليتين، أو أسمع ضحكة رنانة تردد بشكل مشوه صدى ضحكتها الطفولية النقية. كانت تلك الوجوه الجديدة الغريبة مجرد تكرار خيالي ناقص ومؤلم لـ”ليلى القديمة”، نسخ مزيفة لا تحمل الجوهر، ولكنها تكرارات ناقصة فاشلة لا تحمل ذلك العطر الأصيل الذي أبحث عنه بيأس. ذات مساء رطب في مدينة اثرية  تاريخيّة  مجهولة الاسم - أو ربما نسيت اسمها لأن كل المدن بدأت تبدو متشابهة في عيني المتعبتين - مدينة تقع على شاطئ بحر هائج يصطدم بصخور سوداء ضخمة، أقسمتُ بكل ما هو مقدس أنني شممت العطر بقوة غير مسبوقة قرب بائعة حناء  عجوز شمطاء كانت تجلس في زاوية مظلمة من ساحة متروكة . اقتربتُ منها بقلب يرتجف بعنف كأنه سيخرج من صدري، وأنفاس متقطعة خانقة، متأكداً بكل كياني أن هذه المرة هي الحقيقة المطلقة، أن الرحلة قد وصلت أخيراً إلى نهايتها السعيدة. سألتها بصوت متهدج عن سر حنتها  الغامضة تلك، عن مصدر تلك الرائحة التي أيقظت في روحي كل الذكريات دفعة واحدة. نظرت إليّ بعينين زرقاوين باهتتين كماء البحر في يوم غائم، وقالت بصوت يا بني، جلبتها من مدينة الفاو  البعيدة. رائحتها تأسر القلوب وتستعبد الأرواح، هكذا يقولون.” لكنني كنت أعرف الحقيقة. لم تكن مجرد رائحة حناء  عادية. كانت بالتحديد رائحة التمر  الطازج ممزوجة بدقة إلهية بعبق تراب بستان الخالة حصة الرطب بعد مطر الربيع، مع شيء آخر لا أستطيع تحديده، شيء يشبه رائحة الزمن نفسه. في تلك اللحظة المشحونة بالتوتر والترقب، ظهرت أمامي فجأة من العدم فتاة شابة، في العشرينات من عمرها، تشبه ليلى تماماً بشكل مرعب ومذهل - نفس القامة النحيلة الرشيقة، نفس ملامح الوجه الدقيقة، نفس لون الشعر الأسود اللامع - لكنها كانت ترتدي ثوب العصر الحديث: جينز ممزق وقميص أبيض فضفاض وحذاء رياضي أنيق. كانت عيناها زائغتان مشتتتان لا تحملان ذلك اليقين الطفولي القديم الذي كنت أتذكره بوضوح، وفي يدها هاتفها الذكي الذي كانت تحدق فيه بتركيز كامل، منفصلة عن العالم المحيط بها. لقد كانت هي التكرار المادي الناقص لليلى، الجميلة والمحطمة في آن واحد، القريبة جداً والبعيدة جداً في نفس اللحظة، كأنها موجودة وغائبة معاً. اقتربتُ منها بحذر، بقلب يكاد ينفجر من الخفقان، وبصوت مبحوح متصدع قلت: “ليلى؟” رفعت عينيها من الشاشة المضيئة ونظرت إليّ باستغراب واضح وشيء من الحذر، كمن ينظر إلى مجنون غريب، وقالت بصوتناعم لكنه خالٍ من أي دفء حقيقي: “أنا معتادة على أن يناديني البعض بهذا الاسم، لكن اسمي الحقيقي في هذا العالم هو سلمى.” أدركتُ في تلك اللحظة الصاعقة، بوضوح مؤلم كوخزة سكين في القلب، أنني لم أكن أبحث عن ليلى الشخص، بل عن الذات التي غادرتني معها في ذلك الزمن البعيد. أدركت أن العطر الذي أطارده هو الذاكرة الكاملة المتكاملة، بينما سلمى هذه - أو ليلى الجديدة كما أردت أن أسميها في سري - هي مجرد الجسد الفارغ المجوف الذي لا يحمل الروح ولا الجوهر ولا العطر الأصيل. هذا اللقاء القصير العابر كان كافياً ليلقي بي مرة أخرى، بقسوة أشد وعنف أكبر، في متاهة أعمق وأشد ظلمة. حاولت أن أتحدث معها، أن أشرح لها شيئاً لا أفهمه أنا نفسي. دعوتها لتناول القهوة في مقهى قريب يطل على البحر. وافقت بتردد، ربما من باب الفضول أو الملل. جلسنا على طاولة خشبية متآكلة، وأمامنا فناجين القهوة السوداء المُرة. حاولت أن أجد في عينيها شيئاً من ليلى القديمة، لكنني لم أجد سوى فراغ مقلق. تحدثت سلمى عن حياتها بصوت رتيب: دراستها للتصميم الجرافيكي، عملها في شركة إعلانات صغيرة، علاقتها المتعثرة مع حبيب غائب، أحلامها المحدودة بشقة صغيرة وسيارة جديدة وزواج تقليدي.
  كنت أستمع إليها لكنني لم أكن أسمعها حقاً. كنت أبحث خلف الكلمات عن صدى ذلك الماضي، عن أي أثر لتلك الطفولة المشتركة التي ربما لم تحدث أصلاً إلا في خيالي. وحين سألتها إن كانت تتذكر بستان  الخالة حصة، نظرت إليّ بحيرة كاملة وقالت: “أنا لم أذهب يوماً إلى أي بستان  مع خالة اسمها حصة. أظنك تخلط بيني وبين شخص آخر.” شعرت حينها كأن الأرض تنفتح تحت قدمي. هل كانت ليلى التي أتذكرها شخصاً آخر تماماً؟ هل كانت مجرد تركيب ذهني صنعته ذاكرتي المضطربة من عدة وجوه وعدة أشخاص؟ أم أن هذه الفتاة التي أمامي هي فعلاً ليلى لكنها نست، محت ذاكرتها ذلك الماضي لأنه لم يكن بنفس الأهمية بالنسبة لها كما كان بالنسبة لي؟ افترقنا بعد ساعة بعد تبادل أرقام الهواتف من باب المجاملة الفارغة. وقفت أنا على الرصيف أراقبها تبتعد، وظلها يذوب تدريجياً في زحام المدينة. كان العطر قد اختفى تماماً الآن، تركني في صحراء من الجفاف الحسي والروحي.
  لكن خطواتي خابت وتعثرت بعد ذلك اللقاء المؤلم الذي فتح جراحاً قديمة ظننتها قد اندملت، وضللت الطريق ليس في المسافات الجغرافية المادية فحسب، بل في متاهة الزمن نفسه وفي دهاليز الذاكرة المظلمة المتشابكة. تحول رأسي الثقيل إلى دروب متعرجة لا تنتهي ومتاهات متشابكة كشبكة عنكبوت معقدة، حيث لم يعد هناك أي فرق واضح بين حقيقة ما كان فعلاً، وخيال ما تمنيت بشدة أن يكون. تختلط الحقيقة بالخيال في مرارة قاسية، والماضي بالحاضر في تداخل موجع لا ينتهي ولا يرحم، كأنهما خيطان من ألوان مختلفة انصهرا معاً في نسيج واحد مشوه لا يمكن فصله. وضاع مني بشكل نهائي ذلك الذي كنت أبحث عنه بكل جوارحي، ليس العطر ذاته بجزيئاته المادية، بل مصدر العطر الحقيقي، جذوره الأولى. تلك اللذة العظيمة البدائية التي ذقتها في صباي البعيد، ذلك اليقين الساذج والمبارك الذي كان يملأ قلبي الصغير طمأنينة عميقة وسلاماً روحياً لا يعرف الرياء ولا التعقيد. لقد تحوَّل قلبي المثقل بالأسى إلى محرقة مشتعلة للأسئلة الوجودية التي لا تنتهي، أسئلة تحرق نفسها وتولد من جديد من رمادها كطائر الفينيق الملعون. بقيت حائراً تائهاً كشجرة عملاقة اجتثت بعنف من جذورها العميقة، أقف مشلولاً على مفترق طرق متعدد لا يشي بأي وجهة واضحة، لا أعرف أيها يقودني إلى ما أنشده بكل كياني وما أحتاجه لأكمل حياتي. تحولت إلى كيان مُعلق ومُجمد بين نقطتين متضادتين، نقطة البداية البعيدة الضائعة في ضباب الماضي، ونقطة الفناء المحتوم القريبة التي تلوح في الأفق.
  في تلك الفترة العصيبة، بدأت أكتب. لم يكن الكتابة خياراً واعياً، بل كانت ضرورة بيولوجية، كالتنفس. كنت أملأ دفاتر سوداء صغيرة بخط مرتعش غير منتظم، أحاول أن أرسم خريطة لهذا التيه. كتبت عن الخالة حصة، عن حديقة الحناء، عن ليلى الأولى وسلمى الأخيرة، عن كل المدن التي زرتها، عن كل اللحظات التي ظننت فيها أنني على وشك أن ألمس العطر. قرأت أيضاً بنهم شديد. قرأت بروست وبحثه المضني عن الزمن المفقود، وكيف أن مذاق قطعة المادلين المغموسة في الشاي أعاده إلى طفولته كاملة. قرأت بورخيس ومتاهاته اللانهائية، حيث كل ممر يقود إلى ممر آخر في دورة أبدية من التيه. قرأت درويش وحنينه الأبدي إلى مكان لم يعد موجوداً إلا في القصيدة. وجدت في كل هؤلاء الكتّاب صدى لمعاناتي، لكنني لم أجد حلاً أو خلاصاً. كان ملجأي الوحيد الحقيقي هو الاعتكاف التام على صمتي الثقيل. هذا الصمت العميق لم يكن سكوناً أو هدوءاً بأي شكل، بل كان ضجيجاً داخلياً صاخباً ثقيلاً يصم الآذان، صمتٌ يحمل في طياته وأعماقه آلاف الكلمات غير المنطوقة التي كان يفترض أن تُقال لليلى في ذلك الزمن البعيد، وللخالة حصة قبل رحيلها، وللحياة ذاتها التي لم تعطني فرصة ثانية لأصحح أخطائي. ويحمل أيضاً آلاف الأسئلة المربكة الفلسفية التي لا إجابة حقيقية لها وربما لا يجب أن يكون لها إجابة؛ لماذا يغادرنا كل شيء جميل ونقي بهذه السرعة القاسية؟ وهل كنا فعلاً نملك حق الإمساك بالماضي أم أن محاولة الإمساك به هي خطيئتنا الأصلية؟ لقد كان هذا الصمت الكثيف هو سجني الأبدي المظلم، ورفيقي الوفي الوحيد الذي لا يغادر ولا يخون.
  في هذا الصمت العميق والمُهاب الذي صار مأواي الدائم ومسكني الأخير، حدثت تلك الظاهرة الروحية الفريدة والغريبة التي لم أكن أتوقعها. حطت على قلبي المتعب المثقل حمامات الهوى البيضاء الناصعة، لم تكن مجرد طيور عادية من لحم وريش؛ بل كانت تجسيداً مثالياً ورمزياً لخفة الروح التي كانت تعيش وتحلق بحرية في ذلك الزمن المبارك. كان هبوطها الناعم على قلبي هادئاً ومدروساً بعناية إلهية، كأنها تعرف تماماً بحكمة غامضة أن روحي المتعبة المنهكة قد سئمت المقاومة الطويلة وتحتاج الآن بشدة إلى عزاء سماوي لا يفنى ولا يتبخر. لم تكن تلك الحمامات البيضاء تحمل في أجنحتها الناعمة رسائل مكتوبة بحبر على ورق، بل رسائل أعمق وأصدق، رسائل مُحمَّلة بالرائحة المُسكرة واللون الأبيض الطاهر والشعور النقي. كانت تلك الحمامات الغامضة رموزاً حية متحركة لخيوط الأمل الذهبية التي كنا ننسجها بأيدينا الصغيرة في طفولتنا البريئة، والتي غزلناها سويةً بصبر ومحبة، أنا وليلى والخالة حصة الحكيمة. كانت تحمل في طياتها البيضاء وعداً قديماً لم يُنجز بعد، ونداءً خافتاً لم يُسمع من أحد، ورسالة مشفرة لم تُفك رموزها. وألبست حيرتي المزمنة ثوباً شفافاً رقيقاً مطرزاً بخيوط دقيقة من عطر الشوق المشتعل الذي لا ينطفئ، ذلك العطر الأسطوري الذي جاء من بعيد جداً، من أعماق الماضي السحيق الضائع الذي يرفض بعناد أن يُصبح مجرد حكاية عابرة تُروى في السهرات ثم تُنسى. لقد أدركت في تلك اللحظة الفارقة أن هذا العطر المراوغ ليس للوصول النهائي أو للامتلاك الكامل، بل للحركة المستمرة والسعي الدائم. إنه الوقود الروحي الذي يدفعني باستمرار للاستمرار في البحث الأبدي عن معنى أعمق لهذا الفقد المؤلم، عن حكمة مخفية وراء كل هذا الألم. هذا العطر الأزلي كان يحمل في جزيئاته الدقيقة غير المرئية كل الأحلام الجميلة التي لم تتحقق بسبب قسوة الحياة وصدماتها، وكل الوعود البريئة التي تبخرت في الهواء الثقيل كالدخان الأزرق لأننا لم نكن أقوياء بما يكفي للوفاء بها أو حكماء بما يكفي لحمايتها. العطر لم يكن ماضياً ميتاً، بل كان مشروع مستقبل ضائع، حلم لم يكتمل، وعد معلق في الفضاء ينتظر من يحققه. في تلك الفترة الانتقالية الغريبة، بدأت ألاحظ تفاصيل صغيرة في العالم من حولي لم أكن أنتبه إليها من قبل. وجدت أن العطر - أو بالأحرى شبح العطر - يظهر في أماكن غير متوقعة وبأشكال مختلفة. كان في ابتسامة طفل صغير يلعب في حديقة عامة، في لحظة صمت بين نوتتين موسيقيتين، في بريق عابر في عيني امرأة عجوز تجلس وحيدة في محطة قطار، في لون السماء عند الفجر الباكر قبل أن تستيقظ المدينة. أدركت أن العطر لم يكن شيئاً واحداً محدداً، بل كان حالة من الوعي، طريقة في رؤية العالم. كان اللحظات النادرة التي تنفتح فيها بوابة بين الزمن الحاضر والزمن الماضي، حيث يصبحان زمناً واحداً متداخلاً. كان الإحساس بأن الحياة، رغم كل قسوتها وخسائرها، لا تزال تحمل شيئاً من تلك البراءة الأولى، شيئاً من تلك اللذة النقية التي عرفتها في حديقة النخيل والحناء والآس.
  فسرنا معاً في مسيرة طويلة لا يهم بدايتها الغامضة أو نهايتها المجهولة، أنا وذاك العطر الغامض الأسطوري الذي صار دليلي الوحيد في هذا العالم المربك، نشق طريقنا ببطء شديد وتعثر متكرر عبر دروب الحياة المتعرجة الوعرة والقاسية التي ترفض بعناد أن تمهد نفسها أو تصبح سهلة. سرنا تحت شمس النهار الحارقة القاسية التي تحاول بإصرار أن تجفف منابع الذكريات الرطبة بالمنطق الصارم والواقعية المُرة، وعبر ظلال الأشجار الوارفة الكثيفة التي تمنح بصيص أمل خافت ببعض السكينة المؤقتة العابرة. سرنا ونحن نحمل في قلوبنا المتعبة أملاً خافتاً متذبذباً، متوهجاً كشمعة وحيدة في مهب الريح العاتية، بأننا سنجد في نهاية هذه الرحلة المعقدة الطويلة ما كنا نبحث عنه منذ البداية. لكنّ الطريق كان أطول بكثير من عمر إنسان واحد، والمسافة أبعد من أن تُقطع بالأقدام المادية أو حتى بأسرع الوسائل، بل كانت مسافة ميتافيزيقية بين الروح والجسد، بين الرغبة والتحقق، بين الحلم واليقظة. في إحدى محطات هذه الرحلة الطويلة، وجدت نفسي في قرية جبلية صغيرة معزولة، محاطة بغابات كثيفة من أشجار الصنوبر والبلوط. كان الهواء هناك نقياً بارداً، يحمل رائحة الراتنج والأرض الرطبة. استأجرت غرفة صغيرة في نُزل قديم يديره رجل عجوز صامت بلحية بيضاء طويلة وعينين زرقاوين عميقتين. كانت الغرفة بسيطة: سرير خشبي صغير، طاولة متهالكة، نافذة تطل على الوادي. لكن في تلك البساطة وجدت نوعاً من السلام لم أعرفه منذ زمن طويل. كنت أستيقظ قبل الفجر وأجلس عند النافذة أراقب الضباب وهو يرتفع ببطء من الوادي، كاشفاً تدريجياً عن أشجار وصخور وجدول صغير يتلوى كثعبان فضي في قاع الوادي. في تلك القرية النائية، التقيت برجل غريب الأطوار، شاعر متقاعد يدعى عزيز. كان في السبعينات من عمره، يعيش وحيداً في كوخ حجري على أطراف القرية. كان يقضي أيامه في المشي في الغابة وكتابة قصائد لا ينشرها أحد. حين علم بقصتي - أو على الأقل الجزء الذي استطعت أن أرويه له - ابتسم بحزن وقال: “كلنا نطارد عطراً ما. البعض يسميه الحب، والبعض يسميه الله، والبعض يسميه المعنى. لكن الاسم لا يهم. ما يهم هو الرحلة نفسها، الطريقة التي تغيرنا بها.” قضيت معه أسابيع طويلة. كان يعلمني كيف أمشي في الغابة بصمت، كيف أستمع إلى صوت الريح في الأشجار، كيف أتأمل حركة النمل وهو يبني مستعمراته المعقدة، كيف أشم رائحة الأرض بعد المطر وأميز بين عشرات الروائح المختلفة المخبأة فيها. علمني أن الحضور الكامل في اللحظة الراهنة هو الطريقة الوحيدة للتواصل مع ذلك الماضي الذي نبحث عنه. “الماضي ليس خلفنا،” كان يقول وهو يشعل غليونه الخشبي العتيق. “الماضي داخلنا، في كل خلية من خلايا أجسادنا، في كل فكرة تمر بعقولنا. نحن لا نبحث عن الماضي، بل نبحث عن طريقة للمصالحة معه، لقبوله كجزء منا دون أن يستعبدنا.” وبينما كانت رحلتنا توشك على أن تتحول إلى روتين قاسٍ متكرر يُفقِد الحياة معناها، إذا بالليل يدهم الكون بغتة وبلا مقدمات، يسدل ستاره الأسود الكثيف الثقيل على الأفق المترامي بلا هوادة أو رحمة. لم يكن هذا الليل كأي ليل مضى في حياتي الطويلة؛ كان ليلاً حاسماً فاصلاً نهائياً. جاء الليل بظلامه المطبق الشامل، ببرودته الموحشة القارسة التي تتغلغل في العظام وتستقر في النخاع، وبنجومه البعيدة الباردة التي تتلألأ كدموع صامتة متجمدة في عيني السماء الواسعة اللامبالية، تشهد على النهاية الحتمية دون أن تتدخل أو تغير شيئاً. جاء الليل حاملاً معه الحقيقة المُرَّة القاسية التي لا تقبل الجدل أو النقاش، فقد جاء بأصابعه السوداء الطويلة ليسرق العطر المتبقي، ذلك العطر الثمين النادر الذي كنت أتبعه بكل ما أوتيت من قوة جسدية وإصرار روحي، والذي لم يتبق منه الآن إلا القليل القليل، مجرد ذرات متطايرة في الهواء. جاء الليل بأصابعه الباردة القاسية ليقتلع بعنف آخر ذرة باقية من ذلك الأثر العطري الغالي، ليمحو نهائياً آخر بصمة خافتة لتلك اللذة الطاهرة النقية التي عرفتها في الصبا الغابر البعيد، وليترك في قلبي المثقل فراغاً هائلاً مظلماً لا يملأه أي شيء آخر سواه، فراغاً بحجم كل الذكريات المفقودة المتراكمة عبر السنين. شعرت حينها أن العطر الأخير يتلاشى ببطء مؤلم كأشعة الشمس الأخيرة عند الغروب الحزين، يتبخر وجوده الرقيق تاركاً خلفه رائحة خفيفة جداً من العدم المطلق، من اللاشيء. كنت قد عدت من القرية الجبلية إلى المدينة حين حدث ذلك. كان خريفاً متأخراً، والأوراق الصفراء والحمراء تتساقط من الأشجار في رقصة حزينة بطيئة. تلقيت اتصالاً هاتفياً من دار العجزة يخبرني بأن الخالة حصة في حالة حرجة. أسرعت إليها بقلب مثقل بالخوف والحزن. وجدتها في غرفة صغيرة بيضاء، نائمة على سرير معدني ضيق، محاطة بأجهزة طبية تُصدر أصواتاً منتظمة مخيفة. كانت أصغر بكثير مما أتذكر، كأن المرض قد قلص جسدها. وجهها كان أكثر شحوباً، وتنفسها ضعيفاً متقطعاً. جلست بجانبها وأمسكت بيدها الهزيلة الباردة. فتحت عينيها ببطء ونظرت إليّ. استغرقها بعض الوقت لتتعرف عليّ، ثم ابتسمت ابتسامة ضعيفة. “عدت،” همست بصوت متهدج. “عدت تبحث عن العطر.” لم أستطع الكلام. كانت الدموع تسد حلقي. أومأت برأسي فقط. “العطر لم يذهب يا ولدي،” قالت بصعوبة. “أنت فقط توقفت عن الشعور به لأنك صرت تبحث عنه بعقلك بدلاً من قلبك. العطر دائماً هنا.” وضعت يدها الحرة على صدري، على قلبي مباشرة. بقيت معها حتى الفجر. وحين أشرقت أولى خيوط النور الباهت من النافذة الصغيرة، أخذت نفساً أخيراً هادئاً وسلمت روحها. في تلك اللحظة بالذات، ولأول مرة منذ سنوات طويلة، شممت العطر بوضوح تام. لم يكن قادماً من الخارج، بل من الداخل، من مكان عميق في روحي ظننت أنه قد جف ومات. وبقيت هناك، وحيداً تماماً، واقفاً خارج دار العجزة في قلب هذا الفجر البارد الذي يلف الصمت المدينة النائمة، في قلب هذا الظلام الدامس الذي يبتلع الأمل الأخير والذاكرة الأخيرة معاً في فمه الأسود الشره. حاولت بيأس مرير أن أستنشق آخر ذرة عالقة من ذلك العطر المتلاشي قبل أن يختفي نهائياً في الهواء البارد الصباحي، متشبثاً بالوهم الأخير قبل أن ينكشف زيفه بلا رحمة. لكن بدلاً من الفراغ المتوقع، وجدت شيئاً آخر. وجدت أن العطر لم
  لم يعد ذلك الأريج الطاغي الذي كنت أطارده بجنون، بل أصبح شيئاً أكثر هدوءاً وعمقاً، نسيماً داخلياً يتنفس في أعماقي بإيقاع منتظم كدقات القلب. أدركت حينها أن الرحلة قد انتهت فعلاً، لكن ليس بالفقد النهائي كما ظننت، بل بنوع مختلف من الوجود، وجود أكثر حميمية وأقل صخباً.
  في تلك اللحظة الفارقة، تحت سماء الفجر التي بدأت تتحول من الأسود إلى الرمادي المزرق، لم أعد أسأل عن ليلى أو الخالة حصة بالطريقة القديمة اليائسة. تجمعت الأسئلة الحقيقية على لساني كعقد قديم انفرط فجأة، لكنها كانت أسئلة من نوع مختلف: هل كان ذلك العطر حقيقياً على الإطلاق، أم كان مجرد وهم باذخ صنعته ذاكرتي المرهقة والمتعطشة للماضي؟ وهل كان البحث عنه هو الحقيقة الوحيدة المتبقية لي، أم أن الحقيقة كانت في شيء آخر لم أنتبه إليه؟ مشيت في شوارع المدينة الخالية تماماً في تلك الساعة المبكرة. كانت المحال مغلقة، والأرصفة رطبة من ندى الليل. كل خطوة أخطوها كانت تحمل وزناً جديداً، كأنني أتعلم المشي من جديد. وصلت إلى حديقة عامة صغيرة وجلست على مقعد خشبي بارد تحت شجرة كبيرة. هناك، في تلك العزلة الصباحية المطلقة، بدأت أفهم. العطر لم يكن شيئاً يجب العثور عليه في العالم الخارجي، بل كان طريقة في الوجود، حالة من الانفتاح على الحياة. بستان الخالة حصة لم تكن مكاناً جغرافياً فقط، بل كانت حالة من البراءة والحضور الكامل، حيث كنا - أنا وليلى - نعيش كل لحظة بكليتنا دون تفكير في الماضي أو المستقبل.
  والبحث عن العطر على مدى كل هذه السنوات لم يكن خطأ أو ضلالاً، بل كان ضرورة. كان عليّ أن أمر بكل تلك المدن، أن ألتقي بكل تلك الوجوه، أن أعيش كل تلك الخيبات، لكي أصل إلى هذه اللحظة من الفهم. الرحلة ذاتها كانت هي الوجهة، والبحث كان هو الوصول.
  في الأيام التي تلت وفاة الخالة حصة، عدت إلى بيتها القديم للمرة الأخيرة. كان قد بيع لعائلة شابة، وكانوا في طور تجديده. الحديقة التي كانت مهملة لسنوات طويلة كانت الآن تشهد ميلاداً جديداً. رأيت طفلين صغيرين - صبي وفتاة - يلعبان بين أشجار الحناء  التي بدأت تستعيد عافيتها تحت رعاية أصحابها الجدد. وقفت عند البوابة أراقبهم. كانت الفتاة تضحك بنفس الطريقة التي كانت تضحك بها ليلى، والصبي كان يتسلق الشجرة بنفس الحماس الذي كنت أتسلقها به. رأيت في عيونهم نفس البريق، نفس اللذة النقية، نفس اليقين الذي عرفته في صباي. اقتربت منهم ببطء. نظرت إليّ الأم بحذر في البداية، لكن حين شرحت لها من أنا وعلاقتي بالبيت، دعتني للدخول. المنزل قد تغير كثيراً - جدران جديدة، ألوان زاهية، أثاث عصري - لكن الروح كانت لا تزال هناك. رائحة الخشب القديم، صوت الريح في الأشجار، ضوء الشمس الذي يتسلل من النافذة الشرقية بنفس الزاوية. سألتني الأم إن كنت أريد بعض التمر . كان الموسم قد بدأ للتو. قالت إن الأطفال يحبون جمعه كل صباح. خرجنا إلى الحديقة، وأعطتني سلة صغيرة. بدأت أجمع التوت، وكانت يداي ترتعشان قليلاً. حين وضعت أول تمرة في فمي، انفجر الطعم على لساني بنفس القوة التي أتذكرها، لكن بمعنى مختلف. لم يعد طعم الماضي الذي أحاول استعادته، بل كان طعم اللحظة الحاضرة، طعم الحياة المستمرة، طعم الدورة الأبدية للأشياء. البستان  لم يمت ، بل تجدد. والعطر لم يختفِ، بل انتقل إلى جيل جديد يعيشه بنفس النقاء الذي عشناه نحن. جلس الطفلان بجانبي، فضوليين. سألني الصبي: “هل كنت تلعب هنا عندما كنت صغيراً؟” أومأت برأسي، وابتسمت. “نعم، منذ زمن طويل جداً.” “وهل كان التمر  بنفس الطعم؟” سألت الفتاة. نظرت إليها، ورأيت في عينيها كل الأطفال الذين لعبوا في هذا البستان عبر الأجيال، كل الأرواح التي تذوقت هذه اللذة البسيطة. “نعم،” قلت بهدوء. “نفس الطعم بالضبط. وسيبقى دائماً كذلك.”
  غادرت البيت بعد ساعات، محملاً بسلة صغيرة من الرطب  أصرت الأم على أن أخذها معي. مشيت عائداً إلى المدينة، لكنني لم أكن نفس الشخص الذي جاء. كان هناك شيء قد تغير في داخلي، شيء لا يمكن وصفه بالكلمات بسهولة. في الأيام التالية، بدأت أكتب بطريقة مختلفة. لم أعد أحاول أن أمسك بالماضي أو أن أعيد بناءه، بل بدأت أكتب عن الحاضر، عن اللحظات الصغيرة التي تحمل في طياتها صدى ذلك العطر القديم. كتبت عن امرأة عجوز رأيتها تطعم الحمام في الساحة، عن طفل يبكي لأنه فقد بالونه الأحمر، عن زوجين مسنين يمشيان متشابكي الأيدي في الحديقة، عن بائع الفول الذي يقف في نفس الزاوية منذ ثلاثين عاماً. كل هذه اللحظات كانت تحمل شيئاً من العطر، لكن بأشكال مختلفة. العطر لم يكن حكراً على الماضي، بل كان موجوداً في كل مكان، لمن يعرف كيف يشمه، لمن يملك العينين لرؤيته. اتصلت بسلمى، تلك الفتاة التي ظننت لبرهة أنها ليلى. قابلتها في نفس المقهى الذي التقينا فيه أول مرة. لكن هذه المرة، لم أبحث فيها عن شبح الماضي. تحدثنا كغريبين يحاولان التعارف، وكان الحديث أكثر سهولة ووضوحاً. اكتشفت أنها إنسانة مثيرة للاهتمام بذاتها، لها أحلامها ومخاوفها وتاريخها الخاص. حين سألتني عن سبب اتصالي بها، قلت بصدق: “أردت أن أعتذر. اعتذر لأنني حين التقيتك أول مرة، لم أرك أنتِ. كنت أرى شخصاً آخر، شبح من الماضي. لكنني الآن أريد أن أتعرف عليكِ كما أنتِ.” ابتسمت، وكان في ابتسامتها شيء من الفهم. “كلنا نحمل أشباحنا،” قالت. “المهم أن نتعلم كيف نعيش معها دون أن تسيطر علينا.” لم تصبح سلمى صديقة مقربة، لكن ذلك اللقاء الثاني كان مهماً. علمني أن كل شخص يستحق أن يُرى كما هو، لا كانعكاس لماضينا أو رغباتنا.
  أدركت بعد كل ذلك أن لذة العطر لم تكن في العطر نفسه، بل في الشوق الذي يدفعه، وفي الخطوات التي قادني إليها. كانت الرحلة هي اليقين الجديد، أما الوصول فكان مجرد لذة قديمة لم يعد الزمن يسمح بها. لكن هذا الإدراك لم يملأني باليأس كما كان يمكن أن يحدث في الماضي، بل ملأني بنوع غريب من السلام. بدأت أبحث عن العطر بطريقة جديدة، ليس كشيء مفقود يجب استعادته، بل كشيء حاضر يجب الانتباه إليه. وجدته في أماكن لم أكن أتوقعها: في رائحة القهوة الصباحية، في صوت المطر على النافذة، في لمسة يد صديق على كتفي، في صمت الليل العميق، في أغنية قديمة تُذاع في الراديو، في طعم الخبز الطازج، في دفء الشمس على وجهي في يوم شتوي بارد. كل هذه الأشياء الصغيرة كانت تحمل نفس الجوهر الذي كان في حديقة الحناء والآس ، نفس اللذة النقية، لكن بأشكال مختلفة متنوعة. أدركت أن العطر لم يكن شيئاً محدداً يمكن الإمساك به، بل كان طريقة في الوجود، حالة من الوعي والحضور. بدأت أمارس نوعاً من التأمل اليومي. كل صباح، قبل أن أبدأ يومي، كنت أجلس لمدة عشرين دقيقة في صمت، أركز على أنفاسي، وأحاول أن أكون حاضراً تماماً في اللحظة. في البداية كان ذلك صعباً - كان عقلي يتشتت باستمرار، يسافر إلى الماضي أو المستقبل. لكن تدريجياً، بدأت أتعلم كيف أبقى في الحاضر. وفي تلك اللحظات من الحضور الكامل، كان العطر يأتي. ليس كذكرى من الماضي، بل كتجربة حية في الحاضر. كنت أشعر بنفس السلام، نفس اليقين، نفس الاتصال العميق بالحياة الذي شعرت به في ذلك البستان بستان الحناء والآس والنخيل .
  مرت السنوات، وأصبحت هذه الممارسة جزءاً من حياتي اليومية. لم يعد البحث عن العطر هاجساً يستهلكني، بل أصبح رحلة يومية لطيفة، مليئة بالاكتشافات الصغيرة. زرت حديقة الخالة حصة مرات عديدة بعد ذلك. أصبحت صديقاً للعائلة التي تعيش هناك الآن. كانوا يدعونني أحياناً لتناول العشاء، وكنت ألعب مع أطفالهم، وأحكي لهم قصصاً عن الحديقة في الزمن القديم. كانوا يستمعون بفضول وإعجاب، وفي عيونهم كنت أرى نفس البريق الذي كان في عيني حين كنت طفلاً. في إحدى المرات، قال لي الصبي الصغير: “أريد أن تبقى الحديقة هكذا إلى الأبد.” ابتسمت وقلت له: “لا شيء يبقى كما هو إلى الأبد يا صغيري. كل شيء يتغير. لكن هذا ليس شيئاً سيئاً. التغيير هو جزء من الحياة. المهم أن نعيش كل لحظة بكل قلوبنا.” نظر إليّ بعينين واسعتين، يحاول أن يفهم. لم يكن يستوعب تماماً ما أقوله - كيف يمكن لطفل في السادسة أن يفهم فلسفة الزوال والتغيير؟ - لكنني كنت أعرف أنه سيفهم يوماً ما، عندما يكبر ويخوض رحلته الخاصة في البحث عن عطره المفقود.
  في إحدى الليالي، رأيت حلماً غريباً وجميلاً. كنت في بستان الحناء لكنها كانت مختلفة. كانت أكبر، أكثر اتساعاً، وكأنها امتدت لتشمل كل البساتين  التي زرتها في حياتي. كانت الخالة حصة هناك، جالسة تحت شجرة شجيرة إس ، لكنها كانت أصغر سناً، أكثر حيوية. وليلى كانت هناك أيضاً، تركض بين الأشجار بضفائرها السوداء، تضحك بصوتها الرنان. اقتربت منهم، وكان قلبي يفيض بالسعادة. لكن حين وصلت إليهم، لم يتحدثوا. نظروا إليّ فقط، ابتسموا، ثم بدأوا يتلاشون ببطء، يتحولون إلى نور أبيض ناعم. حاولت أن أمسك بهم، أن أوقف تلاشيهم، لكن النور كان يتسرب من بين أصابعي كالماء. استيقظت والدموع تبلل وجهي. لكنها لم تكن دموع حزن. كانت دموعاً من نوع آخر، دموع تطهير، دموع قبول. فهمت أن الحلم كان رسالة: أن الأشخاص الذين نحبهم لا يغادروننا حقاً، بل يتحولون، يصبحون جزءاً من النور الذي يضيء حياتنا. في الصباح، ذهبت إلى مقبرة المدينة حيث دُفنت الخالة حصة. كان شاهد قبرها بسيطاً، حجر رمادي محفور عليه اسمها وتاريخا ميلادها ووفاتها. جلست بجانب القبر، ووضعت باقة من الزهور البرية التي جمعتها في طريقي. “شكراً،” همست بصوت خافت. “شكراً على البستان ، شكراً على الرطب ، شكراً على العطر. شكراً لأنك علمتني أن الجمال موجود، حتى لو كان عابراً.” جلست هناك لساعات، في صمت، أستمع إلى صوت الريح في الأشجار، وزقزقة العصافير، وأصوات المدينة البعيدة. شعرت بسلام عميق، سلام لم أعرفه منذ زمن طويل. كأن شيئاً ثقيلاً قد رُفع عن كتفي، حمل كنت أحمله لسنوات دون أن أدرك وزنه.
  عدت إلى حياتي اليومية، لكن بمنظور جديد. بدأت ألاحظ الأشياء الصغيرة التي كنت أتجاهلها من قبل. الطريقة التي تتكسر بها أشعة الشمس على الماء في النافورة، صوت ضحك الأطفال في الحديقة، رائحة الأرض بعد المطر، طعم الطماطم الطازجة من السوق، دفء كوب الشاي بين يدي في صباح بارد. كل هذه الأشياء كانت تحمل العطر. ليس عطر وصب البرحي  من الماضي، بل عطر الحياة نفسها، عطر اللحظة الحاضرة. أدركت أن ما كنت أبحث عنه طوال هذه السنوات لم يكن في الماضي، بل كان دائماً هنا، في الحاضر، ينتظرني أن أنتبه إليه. بدأت أكتب مجموعة قصصية عن هذه التجربة، عن رحلة البحث عن العطر. لكنني لم أكتبها كمأساة عن الفقد، بل كاحتفال بالحياة وتحولاتها. كتبت عن الخالة حصة وحكمتها، عن ليلى وبراءتها، عن كل المدن التي زرتها، عن كل الوجوه التي قابلتها، عن كل اللحظات التي شكلت رحلتي. ولأول مرة في حياتي، كنت أكتب دون أن أحاول أن أمسك بالماضي أو أستعيده. كنت أكتب لأحتفي به، لأشكره، ثم لأتركه يذهب. كنت أكتب من مكان السلام، لا من مكان الألم.
  في مساء ربيعي دافئ، بينما كنت أجلس في شرفة بيتي الصغير أراجع مخطوطات قصصي، حطت على درابزين الشرفة حمامة بيضاء. نظرت إليّ بعينيها السوداوين الهادئتين، وبقيت هناك، لا تتحرك، كأنها تنتظر شيئاً. تذكرت حمامات الهوى التي حطت على قلبي منذ سنوات، في أحلك لحظات رحلتي. ابتسمت للحمامة، وهمست: “عدتِ.” نظرت الحمامة إليّ بهدوء، ثم طارت، لكنها لم تذهب بعيداً. حطت على شجرة قريبة، وبقيت هناك. وبينما كنت أراقبها، بدأت حمامات أخرى تصل، واحدة تلو الأخرى، حتى امتلأت الشجرة بها. شعرت بالعطر يأتي، واضحاً قوياً نقياً. لكنه لم يكن عطر تمر البرحي  من الماضي، بل كان عطراً جديداً، عطر الحاضر، عطر الحياة المتجددة، عطر القبول والسلام. كان عطراً يحمل في طياته كل ما مضى، لكنه لا يسكن في الماضي. كان يسكن هنا، الآن، في هذه اللحظة بالذات. أدركت أخيراً الحقيقة الكاملة: العطر لم يكن شيئاً فقدته ويجب أن أستعيده. العطر كان دائماً معي، في كل خطوة، في كل نفس. كان في الرحلة نفسها، في البحث، في الضلال، في الألم، في الأمل، في الخيبة، في القبول. كان العطر هو الحياة نفسها، بكل تعقيداتها وتحولاتها. والآن، بعد كل هذه السنوات الطويلة من البحث، وجدت السلام ليس في الوصول، بل في القبول. قبول أن الأشياء تتغير، أن الناس يغادرون، أن اللحظات تمضي، لكن العطر - عطر اللذة، عطر الحياة، عطر الحب - يبقى، ليس كشيء مادي يمكن الإمساك به، بل كحالة روحية يمكن العيش فيها. نظرت إلى الحمامات على الشجرة، وابتسمت. لم تكن رسلاً من الماضي، بل كانت شهوداً على الحاضر. كانت تقول لي: أنت هنا، الآن، حي، وهذا يكفي. هذا هو العطر الحقيقي. وفي تلك اللحظة، أطلقت أخيراً كل ما كنت أتشبث به. أطلقت بستان الحناء ، أطلقت ليلى، أطلقت الخالة حصة، أطلقت ذلك الطفل الذي كنته. لم أطلقهم في النسيان، بل في الحرية. حررتهم ليكونوا ما هم: ذكريات جميلة، جزء من الرحلة، لكن ليسوا الرحلة نفسها. والرحلة تستمر، الآن، في هذه اللحظة، وفي كل لحظة قادمة. لم يعد البحث عن عطر ضائع، بل أصبح احتفاء بالعطر الموجود، هنا، الآن، دائماً. رفعت رأسي إلى السماء، وأخذت نفساً عميقاً. الهواء كان مليئاً بروائح الربيع: الزهور، التراب الرطب، البحر البعيد، الحياة. كل هذا كان العطر. كل هذا كان اللذة. وفي قلبي، للمرة الأولى منذ عقود، شعرت باليقين الذي عرفته في طفولتي، لكن بشكل أعمق وأكثر نضجاً. يقين لا يعتمد على ثبات الأشياء، بل على قبول تغيرها. يقين لا يبحث عن السعادة في استعادة الماضي، بل في العيش الكامل للحاضر. هذا هو العطر الحقيقي: لذة العيش، رغم كل شيء، رغم الفقد، رغم الألم، رغم التحولات. لذة أن تكون حياً، أن تتنفس، أن تشعر، أن تحب، أن تتذكر، أن تأمل. وسأستمر في السير، لكن لم يعد السير بحثاً عن شيء مفقود، بل احتفاء بشيء موجود. سأسير مع العطر، لا خلفه. سأسير في العطر، لا نحوه. لأن العطر ليس وجهة، بل هو الطريق نفسه.
                                                  
                                            
                                            
                                          
                                   
                                     
              
                                        
                         #خيرالله_قاسم_المالكي (هاشتاغ) 
                           
                          
                            
                          
                        
                           
                          
                         
                
                                           
                                            
                                             
                                              
                                            
                                            ترجم الموضوع 
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other 
languages
                                        
                                            
                                             
                                             
الحوار المتمدن مشروع 
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم 
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. 
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في 
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة 
في دعم هذا المشروع. 
  
  
                                                               
           
			
         
                                          
                                        
                                        
                                        
                                        
                                         
                                         
    
    
    
                                              
                                    
                                    
    
    
   
                                
    
    
                                    
   
   
                                         
			
			كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية 
			على الانترنت؟
     
      
                                 
                              
                              
    
                                    
                                    
                                    
                                    
                                    
                                     
                               
                                  
                                  
 
                                
                          
                     
                    
                    
                    
                    
                        
                            
                                رأيكم مهم للجميع
                                - شارك في الحوار
                                والتعليق على الموضوع 
                                للاطلاع وإضافة
                                التعليقات من خلال
                                الموقع نرجو النقر
                                على - تعليقات الحوار
                                المتمدن -
                             | 
                         
                        
                            
                            
                            | 
                             | 
                         
                     
                    
                    
                    
                    
                    
                    
                    
                     
                    | 
                        نسخة  قابلة  للطباعة
                         
                    | 
                        ارسل هذا الموضوع الى صديق
                         
                    | 
                        حفظ - ورد
                         
                     
                    | 
                        حفظ
                          |
                    
                        بحث
                         
                    | 
                          إضافة إلى المفضلة
                    | 
                         
                        للاتصال بالكاتب-ة
                     
                    
                             عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
                    
                    
                     
                    
                      	
                    
                    
               
                
                 | 
                
                    
                
                
                     - 
                    
                     
                        
                    أتذكرين يا شقية
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    رواية (غموض الأبواب والإشارات السوداء)
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    (خذلان)
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    هُذَيان
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    أكواخ الكهف
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    تَعْرِيفَة
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    لَوْ أَنِّي أَبْحَرْتُ
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    تفكيك الخرافة
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    مداد البحر المر
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    الطوفان الخبز
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    عُرْزَالُ مَنْفَى
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    (وطنٌ يَرْفُضُ الاكْتِمَال)
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    (المسرح / منصة الصمت)
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    ضياع آخر
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    أنا مَنْ أَنَا
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    الوجه الآخر للنجوم
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    خفافيش النهار
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    مناجاة في السواد
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    أسطورة الصوت المقطوع
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    ذات مساء – مدينة الطائر
                     
                    
                     
                    
         
         
        
        المزيد.....
        
        
 
  
                        
                        
             
  
                
                
                     - 
                    
                     
                      
                        
                    أول فنانة ذكاء اصطناعي توقع عقدًا بملايين الدولارات.. تعرفوا
                        ...
                    
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                      
                        
                    د. سناء الشّعلان عضو تحكيم في جائزة التّأليف المسرحيّ الموجّ
                        ...
                    
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                      
                        
                    السينما الكورية الصاعدة.. من يصنع الحلم ومن يُسمح له بعرضه؟
                        ...
                    
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                      
                        
                    -ريغريتنغ يو- يتصدّر شباك التذاكر وسط إيرادات ضعيفة في سينما
                        ...
                    
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                      
                        
                    6 كتب لفهم أبرز محطات إنشاء إسرائيل على حساب الفلسطينيين
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                      
                        
                    كفيفات يقدّمن عروضًا موسيقية مميزة في مصر وخارجها
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                      
                        
                    عميل فيدرالي يضرب رجلًا مثبتًا على الأرض زعم أنه قام بفعل مخ
                        ...
                    
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                      
                        
                    انقطاع الطمث المبكر يزيد خطر الإصابة بمتلازمة التمثيل الغذائ
                        ...
                    
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                      
                        
                    إشهار كتاب  دم على أوراق الذاكرة
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                      
                        
                    مثنى طليع يستعرض رؤيته الفنية في معرضه الثاني على قاعة أكد ل
                        ...
                    
                     
                    
                     
                    
         
         
        
        المزيد.....
        
        
  
                
                
                     - 
                    
                     
                        
                                 الذين باركوا القتل                       رواية 
                        ...
                    
                     / رانية مرجية
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون
                        ...
                    
                     / د. محمود محمد حمزة
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    مداخل أوليّة   إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية
                     / د. أمل درويش 
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز.
                        ...
                    
                     / السيد حافظ
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا
                        ...
                    
                     / عبدالرؤوف بطيخ
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    المرجان في سلة خوص كتاب كامل
                     / كاظم حسن سعيد
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    بيبي  أمّ الجواريب الطويلة
                     / استريد ليندجرين- ترجمة  حميد كشكولي
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
                     / كارين بوي
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
                     / د. خالد زغريت
                     
                    
                     
                    
                     - 
                    
                     
                        
                    الممالك السبع
                     / محمد عبد المرضي منصور 
                     
                    
                     
                    
         
         
        
        المزيد.....
        
        
                    
                     
        
        
        
      
       
        
    
                 
                                
                                
                     
             
                            
                            
          
                 |