|
أكواخ الكهف
خيرالله قاسم المالكي
الحوار المتمدن-العدد: 8502 - 2025 / 10 / 21 - 22:52
المحور:
الادب والفن
في تخوم المدينة، حيث تنتهي الأرصفة وتبدأ الأساطير، وحيث يغدو الغبار ذاكرة، والريح شاهداً، كان هناك كهفٌ، نُسي موقعه من الخرائط كما تُنسى الوجوه القديمة في مرايا الطفولة. في عمق ذلك الكهف عاش رجلٌ وحيد، لم يعرف أحد اسمه، ولا أحد يعرف متى جاء، أو من أين. كانوا يطلقون عليه ببساطة لقب “الحارس”.
كان الكهفُ بيتَه ومعبده وسجنه في آنٍ واحد. أمام مدخله كوخ صغير من الطين والحجر، متصلٌ بأحشاء الأرض عبر دهليزٍ ملتفٍّ ينحدر نحو العتمة. هناك، في القاع، تصطف جرارٌ فخارية ضخمة، محفورة بزخارف غريبة تشبه الأبجدية الأولى، تلك التي كُتبت بها وصايا الحضارات المنقرضة. كان الرجل يعتني بتلك الجرار كما لو كانت أطفالَه، يلمّسها بأصابعه كأنها أجسادٌ حية تنبض في طينها ذاكرة الكون.
يبدأ يومه قبل أن تشرق الشمس، حين يتسلّل شعاعٌ باهت من فوهة الكهف العليا كأنّه خيط من الضوء الإلهي. يجلس عند موقدٍ حجري صغير، يضع فوقه وعاءً نحاسيًا عتيقًا، ويبدأ بتحضير مزيجه الغامض — الإكسير الذي كان يسميه “خمر الذاكرة”. لكنها لم تكن خمراً كما يعرفها الناس. كانت تلك الجرعات تُعيد لمن يشربها رؤىً غابرة: صور مدنٍ اندثرت، أصوات موتى، طيوف عشاقٍ لم يولدوا بعد.
كان الحارس يعتقد أن هذا الشراب هو الصلة بين العالمين: عالم الأحياء وعالم ما قبل الولادة، وأنه وحده القادر على تذكير البشر بأصلهم الطيني النوراني، قبل أن تفسدهم المدنية. ولهذا السبب عاش في عزلة، يحرس سره كما يُحرس نَفَس الله في صدر الأرض.
ذات مساءٍ غريب، بينما كانت الرياح تصفر في فم الكهف كناياتٍ منتحبة، سمع الحارس وقع أقدامٍ خفيفة على الحصى. لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب من تلك الناحية من المدينة. من بين الظلال ظهرت امرأة، مبللة بالمطر، تحمل بيدها فانوساً صغيراً يشبه قلبًا خافقًا في العتمة. كانت ترتجف، وملامحها غارقة بين الخوف والدهشة.
قالت بصوتٍ خافت: ـ “قيل لي إنك تصنع شرابًا يُعيد الذاكرة لمن فقدها…” ابتسم الحارس دون أن يرفع نظره. ـ “الذاكرة؟ أم الروح؟ فالفرق بينهما وهمٌ عند من نسي ذاته.”
دخلت المرأة وجلست قرب النار. راحت تحدق في الجرار كأنها ترى فيها انعكاس ماضٍ غابر. ثم قالت: ـ “فقدتُ اسمي منذ عامٍ كامل. أستيقظ كل صباحٍ على وجهي دون أن أتعرف إليه. كل شيء يبدو مألوفًا وغريبًا في الوقت نفسه. أخبرني أحدهم عنك، قال إنك تحرس خمر الحقيقة.”
اقترب منها الحارس ببطء. تناول إحدى الجرار، وسكب منها قطراتٍ في كأسٍ زجاجية قديمة، وقال: ـ “اشربيها ببطء. ستذكّرك بمن كنتِ، لكن لا تضمني أنكِ ستحبين ما سترين.”
شربت، وسقطت الكأس من يدها قبل أن تنطق. ارتعش جسدها، وانسابت دمعةٌ من عينيها كقطرة عنبرٍ تذوب في النار. كانت تتذكر. رأت طفلة تركض في حقلٍ أخضر، وأمًّا تغني قرب نافذة، ورجلاً يكتب قصائد على ورقٍ أبيض ثم يحرقها. رأت مدينةً تحترق، ورجالاً يختبئون في أقبيةٍ من الخوف، ورأت نفسها تهرب، تهرب إلى كهفٍ يشبه هذا الكهف تمامًا.
وحين فتحت عينيها، وجدت الحارس ينظر إليها بعينين تلمعان كجمرتين. ـ “لقد عدتِ إلى الأصل، يا ابنة الطين والظل.”
لكنها لم تجب. نهضت وخرجت في صمت، تاركة وراءها عبقًا من العطر والتراب، كأنها لم تكن سوى طيفٍ استدعاه الخمر من ذاكرة الأرض ثم أعاده إليها.
مرت أيامٌ طويلة بعد رحيل المرأة، ولم يزر الكهف أحد. وفي الخارج، كانت المدينة تغيّر جلدها. الأبراج تزداد ارتفاعاً، والأرصفة تمتد كأنها ألسنة من إسفلتٍ تحاصر الفضاء. الناس يمشون برؤوسٍ منحنية، يحدّقون في شاشاتٍ صغيرة تُخبرهم من يكونون، ومتى يفرحون، ومتى ينامون. لم يعد أحدٌ يتحدث عن الأرواح أو الأحلام أو الخمر المقدس.
لكن الحارس كان يرى في نومه رؤىً مقلقة: نهرٌ من زجاجٍ يجري في قلب المدينة، يحمل في موجه وجوهًا بلا أعين. أطفالٌ يولدون بلا أسماء. وشموسٌ تشرق وتغيب بلا حرارة. كان يشعر أن المدينة بدأت تنسى نفسها، كما نسيها هو يوم تركها.
في إحدى الليالي الشتوية، سمع بكاءً عند مدخل الكهف. خرج مسرعاً، فوجد طفلاً صغيراً، لا يتجاوز الثامنة، يرتجف من البرد، يحتضن كيساً قماشيًا ممزقاً. اقترب منه وسأله: ـ “من أنت؟” رد الطفل بصوتٍ باكٍ: ـ “لا أعرف… كنت أمشي خلف الضوء، حتى وصلت إلى هنا.”
أخذه إلى الداخل، أدفأه، وقدّم له قطعة خبزٍ وبعض الماء. ثم سأله مرة أخرى عن اسمه. لكن الطفل لم يكن يعرف شيئاً، لا عن نفسه ولا عن عائلته. نظر إليه الحارس طويلاً، وقال في نفسه: “ها هو الزمن يعيد نفسه. هذا الطفل، ربما هو أنا حين كنتُ نسيًا منسيًا.”
منذ تلك الليلة، صار الطفل يعيش معه. علّمه كيف يصنع الخمر، وكيف يسمع نبض الأرض حين يضع أذنه على الجدار الصخري. ومع مرور الأيام، صار الكهف أكثر دفئًا، كأن الحياة عادت لتسكنه.
لكن الغريب، أن كل من شرب من ذلك الإكسير بعد مجيء الطفل، كان يرى في رؤاه وجهًا صغيرًا يبتسم وسط الظلام، وجهًا لا ينسى.
وذات ليلةٍ، بينما كان الحارس نائمًا قرب موقده، استيقظ على صوت غريب. لم يكن بكاء الطفل، ولا صفير الريح، بل كان أشبه بترتيلٍ جماعيٍّ قادمٍ من أعماق الكهف. أمسك بمصباحه، وسار نحو الجرار. رأى أن السائل بداخلها بدأ يغلي دون نار، يصدر ضوءاً أزرق باهتاً كأن الأرواح تستيقظ فيه. وفجأة، خرج الطفل من الظلّ وقال بصوتٍ عميقٍ لا يشبه صوته: ـ “لقد حان الوقت يا حارس الكهف… هذا الخمر لم يُخلق للبشر فحسب، بل للأرض نفسها.”
تراجع الرجل مذعورًا، لكنه تمالك نفسه وسأل: ـ “من أنت؟” ـ “أنا ذاكرة المدينة. أنا الصبي الذي نسيه الجميع، فصرتُ جسدًا من الطين والضوء. جئت لأعيد التوازن لما أفسده البشر بخمرهم الزائف.”
ثم تقدّم الطفل ولمس إحدى الجرار، فانتشر الضوء في كل أرجاء الكهف، وتحوّل المكان إلى نهرٍ من لهيبٍ ناعمٍ، كأن الأرض تبتلع أسرارها لتولد من جديد. اختفى الطفل، ولم يبقَ منه سوى أثرُ يدٍ صغيرة على الطين.
في اليوم التالي، اجتاحت المدينة عاصفة لم يرَ الناس مثلها من قبل. أمطارٌ من رمادٍ أسود، ورياحٌ تحمل أصواتاً غامضة كأنها أناشيد نسيها الزمن. في الأسواق، كانت الجرار الزجاجية التي تصنع فيها مصانع الخمر الحديثة تتفتت فجأة دون سبب. وفي كل بيت، كان الناس يشعرون بعطشٍ غريبٍ لا يُروى بالماء، بل بالحلم.
وفي قلب العاصفة، كان الكهف يتوهج. جلس الحارس أمام مدخله، ينظر إلى المدينة الغارقة في المطر، ويفكر في مصيرها. هل كانت تلك نهاية العالم القديم؟ أم بداية عالمٍ آخر أكثر صدقًا؟
رفع إحدى الجرار الأخيرة وسكب منها قطراتٍ على الأرض، وقال بصوتٍ خافت: ـ “ليعد الطين إلى أصله، ولتعود الذاكرة إلى جسدها.”
فانشقّت الأرض قليلاً، وخرج منها بخارٌ دافئ يشبه أنفاس طفلٍ نائم. ثم سكن كل شيء.
بعد أعوام لم يبقَ من المدينة سوى أطلالٍ وزجاجٍ مهشّم. لكن في صباحاتٍ معينة، عندما تشرق الشمس على الجبال، يمكن للمارّين أن يروا من بعيد كوخًا صغيرًا ينبعث منه دخانٌ خفيف، وصوت رجلٍ يغني لحفيدٍ صغير. يقول بعض الرواة إن الحارس لم يمت، بل تحوّل إلى روحٍ في هيئة شيخٍ يعلّم الأطفال كيف يسمعون صوت الأرض. ويقول آخرون إن الكهف نفسه اختفى، وإن من يقترب من تخوم المدينة يُصاب بالدوار، كأن الأرض تخفي شيئًا لا يريد أن يُكشف.
لكن من يملك قلبًا نقيًّا، ويصغي إلى الصمت، يستطيع أن يسمع في ليالي الشتاء صوتًا يشبه أنين الخمر في الجرار القديمة، وكأنه نشيد الأجداد وهم يعودون من النسيان.
تقول الأسطورة إن خمر الكهف لم يكن سوى استعارةٍ عن الحقيقة نفسها، وأن الحارس لم يكن سوى الإنسان في بحثه الأبدي عن ذاته الأولى. فالكوخ هو الجسد، والكهف هو الروح، والخمر هو الوعي، والطفل هو البذرة التي تعيد الخلق كلما نسي الإنسان طريقه. وحين تتلاقى هذه الرموز، يولد عالمٌ جديد لا مكان فيه للزيف، عالمٌ تضيئه ذاكرة واحدة: أن كل ما نحرسه في النهاية… هو أنفسنا
#خيرالله_قاسم_المالكي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تَعْرِيفَة
-
لَوْ أَنِّي أَبْحَرْتُ
-
تفكيك الخرافة
-
مداد البحر المر
-
الطوفان الخبز
-
عُرْزَالُ مَنْفَى
-
(وطنٌ يَرْفُضُ الاكْتِمَال)
-
(المسرح / منصة الصمت)
-
ضياع آخر
-
أنا مَنْ أَنَا
-
الوجه الآخر للنجوم
-
خفافيش النهار
-
مناجاة في السواد
-
أسطورة الصوت المقطوع
-
ذات مساء – مدينة الطائر
-
موسم الذباب
-
يا زُهْدي
-
صيحات ومآسي الأرض
-
عزف منفرد
-
ما وراء الوجود
المزيد.....
-
-أعتذر عن إزعاجكم-.. إبراهيم عيسى يثير قضية منع عرض فيلم -ال
...
-
مخرجا فيلم -لا أرض أخرى- يتحدثان لـCNN عن واقع الحياة تحت ال
...
-
قبل اللوفر… سرقات ضخمة طالت متاحف عالمية بالعقود الأخيرة
-
إطلاق الإعلان الترويجي الأوّل لفيلم -أسد- من بطولة محمد رمضا
...
-
محسن الوكيلي: -الرواية لعبة خطرة تعيد ترتيب الأشياء-
-
من الأحلام إلى اللاوعي: كيف صوّرت السينما ما يدور داخل عقل ا
...
-
موهبتان من الشتات تمثلان فلسطين بالفنون القتالية المختلطة في
...
-
الممثل الخاص لبوتين يلتقي علي لاريجاني في طهران
-
تركيا.. 3 أفلام تتناول المأساة الفلسطينية حاضرة بمهرجان أنطا
...
-
تركيا.. 3 أفلام تتناول المأساة الفلسطينية حاضرة بمهرجان أنطا
...
المزيد.....
-
المرجان في سلة خوص كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
بيبي أمّ الجواريب الطويلة
/ استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
-
قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي
/ كارين بوي
-
ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا
/ د. خالد زغريت
-
الممالك السبع
/ محمد عبد المرضي منصور
-
الذين لا يحتفلون كتاب كامل
/ كاظم حسن سعيد
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|