أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - رواية (غموض الأبواب والإشارات السوداء)















المزيد.....


رواية (غموض الأبواب والإشارات السوداء)


خيرالله قاسم المالكي

الحوار المتمدن-العدد: 8514 - 2025 / 11 / 2 - 08:43
المحور: الادب والفن
    


رواية
(غموض الأبواب والإشارات السوداء)

الفصل الأول: الغريق الأخير

دفتر الإشارات وبذرة المدينة

لم يكن “أثَر” يعرف متى بدأ الحبر يتسرّب من أصابعه، ولا كيف صار ظلّه يكتب قبله.
كلّ ما تذكّره هو أن المدينة كانت مغلقة منذ بدء الوعي، أبوابها تصطكّ كذاكرةٍ منسيّة، وأنّ الناس كانوا يمشون فيها كأنهم صدى لمشيٍ سابق، مكرّرٍ في الزمن مثل خطأ مطبعيّ أبديّ.

كان “أثَر” يعيش في حافة الحافة، حيث الشوارع لا تؤدّي إلى مكانٍ محدّد، بل إلى ما يشبه الانتظار.
وحين كان الليل يهبط، كانت العلامات تُضاء على الجدران: دوائر، عيون، أسهم، طيور محروقة، وكلّها مطبوعة بحبرٍ لا يشبه السواد، بل ما بعده.
قال له شيخ المقبرة ذات مساءٍ:

“كلّ بابٍ هنا هو ذاكرةٌ لم تُكتَب بعد. مَن يجرؤ على فتحها يُصبح علامة.”

تلك الليلة لم ينم.
فتح دفتره للمرة الأولى منذ أعوام، وكتب بخطٍّ مرتجف:

“لعلّي آخر من يرى المدينة قبل أن تنطفئ.”

ومع الكلمة الأخيرة، بدأ الحبر يسيل من الصفحة، ويتسرّب إلى الأرض، كأنه يبحث عن طريقٍ إلى الأسفل.
وحين أشرقت الشمس، كان أمامه شيء لم يره من قبل: بذرة صغيرة بلون الحبر نفسه.

ظنّها حلمًا. لكنه عندما لمسها، نبضت مثل قلبٍ خفيّ.
دفنها في زاوية الغرفة، ثم خرج إلى الشارع، فوجد أن أحد الأبواب التي كانت مغلقة منذ قرون، قد فُتح قليلًا.
من خلفه، كان يُسمع خرير ماء.

دخل “أثَر” المدينة للمرة الأولى، لا كغريبٍ، بل كحرفٍ تائه يبحث عن جملته.
الشوارع بدت كصفحاتٍ ممزّقة، والأصوات مثل كلماتٍ تسعى لأن تُنطَق.
وفي الساحة الكبرى، رأى تمثالًا بلا وجه، تحته عبارة محفورة:

“مَن يكتب اسمي يُعيد العالم إلى بدايته.”

منذ تلك اللحظة، لم يعد يعرف هل هو يسير داخل المدينة أم داخل نفسه.
البيوت كانت تتنفس، النوافذ تغمض عيونها حين يمرّ، والهواء يحمل رائحة الورق المحترق.
كان عليه أن يبحث عن “دفتر الإشارات”، المخطوط الأسطوري الذي قيل إنه يحتوي على رموز فتح الأبواب.

وفي إحدى الأزقة، وجد طفلًا يحمل قفصًا فيه طائر من حبرٍ صافٍ.
قال الطفل:

“حين يُطلق هذا الطائر جناحه، تُرى المدينة كما كانت قبل الخطيئة.”
ثم اختفى.

في الليلة نفسها، عاد إلى غرفته فوجد أن البذرة قد نمت.
لكنها لم تُخرج ساقًا ولا ورقة، بل عَيْنًا صغيرة تنظر إليه.
حين اقترب منها، رأى فيها انعكاس المدينة — ولكنها كانت هناك من دون بشر، من دون ضوء، من دون زمن.
وبين جدران ذلك الانعكاس، رأى نفسه يسير نحو بابٍ أبيض يُشِعّ بالماء.

فهم أن كل بابٍ في المدينة يحتاج إلى “إشارة” كي يُفتح، وأن الإشارات ليست رموزًا، بل أجزاء من الوعي.
كلّ ما يكتبه بالحبر يتحوّل إلى بابٍ صغير، وكل بابٍ مفتوح يبدّل مجرى الماء في الأعماق.
ولأول مرة أدرك أن الحبر ليس أسود لأنه مظلم، بل لأنه يحمل في عمقه ضوءًا لم يولد بعد.

في اليوم الأخير من ذلك الأسبوع، بدأ الناس يرون آثارًا غريبة على الجدران — كلماتٍ تشبه الأسماء ولكنها تتحرك.
قيل إن المدينة بدأت “تستيقظ”، وإن الأبواب التي لم تُفتح منذ الخلق بدأت تتنفس.

جلس “أثَر” قرب بذرة الحبر، وقال:

“ربّما لم أُكتب بعد، وربما كنتُ منذ البداية مجرّد إشارة تنتظر من يفسّرها.”

ومع كلماته الأخيرة، تساقطت من سقف الغرفة نقاطٌ من الضوء المائي، وتكوّن منها سطر واحد فوق الجدار:

“لكي تحيا، اكتب بالماء.”

الفصل الثاني: يقظة المدينة السوداء

لم يكن الفجر يشبه ما كان عليه من قبل.
فحين أطلّ الضوء على المدينة، لم يُضيئها، بل أعاد تظليلها بطبقة جديدة من الحبر.
كل نافذة صارت مرآة سوداء، وكل وجه انعكس فيها بدا كأنّه يحاول التخلّص من شكله.
الناس في الطرقات يمشون بصمتٍ كأنهم يجرّون ذاكرتهم من أزمنة بعيدة.
وفي كل مكان، كانت هناك إشارات جديدة، تُكتب وحدها، بحبرٍ لا أحد يعرف مصدره.

أدرك “أثَر” أن البذرة التي زرعها لم تعد حبرًا ولا عينًا، بل قلب المدينة نفسها.
كانت تنبض تحت الأرض، وكلّ نبضةٍ منها تُحدث اهتزازًا خفيفًا في الجدران، كأن المدينة تتنفّس بعد موتٍ طويل.
الهواء صار أثقل، وأصوات خفية تهمس بأسماء لم تُنطق من قبل.

في الساحة القديمة، اجتمع المارة حول نافورةٍ جافّة.
كانت المياه قد انحبست فيها منذ عقود، لكنها بدأت الآن تفيض بالحبر المائي الذي يشعّ كالليل المضيء.
رفع أحد الشيوخ يده الملطّخة بالسواد وقال:

“لقد عادت المدينة لتقرأ نفسها.”

شعر “أثَر” ببرودةٍ غريبة تسري في عروقه، كأن دمه يُستبدَل بماءٍ شفيف.
ومن حوله، بدأت الأشياء تفقد مادتها: الجدران تتحوّل إلى كلمات، الحجارة إلى مقاطع، الطيور إلى سطور محلّقة.
كان كلّ شيء يُعاد كتابته من جديد.

سمع صوتًا داخليًا لم يعرف مصدره:

“حين تنطق المدينة اسمك، ستفقد وجودك القديم.”

في تلك اللحظة، رأى على أحد الجدران رسمًا له، بالحبر ذاته.
ملامحه محفورة بخوفٍ نبيل، عيناه تنظران إلى الأفق كمن يرى نهاية اللغة.
اقترب ولمس الجدار، فشعر بالبرد.
الصورة ابتسمت له، ثم سارت خارجةً من سطح الجدار كأنها كائن من ضوءٍ داكن، تمشي في الشارع أمامه، تشبهه تمامًا لكنها أكثر سكونًا.

لم يعرف من منهما الحقيقي.
بدأ الناس يمرّون قربهما، لا يرون الفرق بين الأصل والظلّ، لأن المدينة صارت تنسخ وجوههم على جدرانها.
كلّ وجهٍ يُرى مرتين: مرة في الواقع، ومرة في الحبر.
ومن يلمس صورته، يُمحى وجوده في اليوم التالي.

المدينة تغيّرت: لم تعُد طرقاتها كما كانت.
البيوت تنمو من تحت الأرض، الشوارع تتقلّص وتتمدد كأفاعٍ من ذاكرة.
وأصوات الأجراس التي كانت تُعلن الصباح، صارت الآن تصدر من أعماق الآبار.
كأن الصوت نفسه تذكّر أنه وُجد قبل اللغة.

في الليل، جلس “أثَر” قرب النافذة.
كانت العتمة تتكلّم بصوتٍ ناعم:

“كُتبتَ لتُعيدنا من الموت، لا لتعيش بيننا.”

كان يشعر أنه يُمحى تدريجيًا من ذاكرته.
الأسماء التي يعرفها تتفكك.
حتى اسمه بدأ يتبدّل:
في كل مرآة يمرّ بها، يظهر حرف مختلف.
حتى صار اسمه في النهاية مجرّد شكلٍ منقط، مثل أثرٍ لم يُكتمل.

وفي اليوم السابع من يقظة المدينة، حدث شيء لم يكن في الحسبان.
انشقّت الأرض في وسط الساحة الكبرى، وخرج منها ضوء مائي، شكلُه كلسانٍ عملاق يكتب في الهواء.
كتب:

“أعيدوا الكتابة بالحياة، لا بالحبر.”

ارتعد الجميع.
لكن “أثَر” وحده فهم المعنى:
أن المدينة تريد أن تتحرّر من الكتابة نفسها.
أن الحروف التي أعادت بناءها أصبحت سجنًا جديدًا، وأن الحبر — مهما كان مائيًا — لا يوازي النبض.

سار إلى البئر القديمة، حيث كانت أول بذرةٍ قد دُفنت.
كانت تنبض كقلبٍ مكشوف، ينبعث منه بخار من ماءٍ حيّ.
جلس قربها، وقال:

“أيّها الحبر الذي صار روحًا، ماذا تريد منّي؟”

لم تُجب البذرة بصوت، لكنّ جدران المدينة اهتزّت.
وارتفع من أعماقها لحنٌ يشبه الأنين، كأن الأرصفة تذكر القصص التي نُسيت فوقها.
رأى فوق السماء خطوطًا من ضوءٍ تتحوّل إلى كتابةٍ ضخمة:

“المدينة هي الكتاب، والكتاب هو جسدك.”

وفي تلك اللحظة، شعر أن جلده أصبح صفحة، وأن الشرايين تحوّلت إلى حروفٍ تسبح في سائلٍ مائيّ.
لم يعد يرى نفسه، بل شعر فقط بأنه يُقرأ.

ومع كل نبضة، كان يسمع صوت الباب الأول يُفتح في مكانٍ بعيد.
لم يكن بابًا ماديًا، بل بابًا من ضوءٍ يصدر من قلب المدينة السوداء.
ومن خلاله، لمح وجوهًا من زمنٍ آخر — وجوهًا تُطلّ من العدم، وتكتب أسماءها على هواء الليل.

ثم سمع همسًا جديدًا، أكثر وضوحًا:

“حين يكتمل النور المائي، ستُمحى كل الأبواب، لأن الإنسان سيصبح هو المدينة.”

كانت هذه اللحظة أول نَفَسٍ حقيقيّ للمدينة منذ خُلق الحبر.
أما “أثَر”، فقد بدأ يشعر بأن الحروف التي كتبها يومًا، بدأت تكتبُه الآن

الفصل الثالث: تفكك المرايا والخرائط

لم تكن المدينة كما تركها في الليلة السابقة.
فحين استيقظ “أثَر” في الصباح — إن كان ما يعيشه صباحًا حقًّا — وجد نفسه في مكانٍ بلا زمنٍ واضح.
الشمس لم تكن تشرق، بل تتدلّى في الهواء مثل مصباحٍ مريض، يتنفس بصعوبة فوق الأزقة التي لم تعد تعرف أين تبدأ وأين تنتهي.
البيوت تغيّرت؛ بعضها صار شفافًا كالماء، وبعضها الآخر تحوّل إلى جدران من ضوءٍ كثيف، كأنها تتردّد بين الوجود والغياب.

حين خرج، أدرك أن الأزقة لم تعد تؤدي إلى الأماكن التي يعرفها.
كلّ زقاق صار يمتدّ نحو ذاته، يلتفّ حول نفسه كما لو كان يُفكّر،
والشوارع تحوّلت إلى نصوصٍ مفتوحة، حروفها تتبدّل عند كل خطوة.
كانت المدينة تعيد كتابة جغرافيتها في كل لحظة،
كأنها تعيد اختراع الذاكرة، ثم تمحوها فورًا قبل أن يقرأها أحد.

عند الزاوية التي كان فيها متجر الساعات، وجد مرآةً كبيرة مثبتة على جدارٍ من حبرٍ متيبس.
نظر فيها فرأى وجهًا لا يعرفه.
كان يشبهه في الملامح، لكنه بدا أكبر بعدّة أعمار،
ووراء الوجه، انعكست المدينة — لكن مقلوبة، كل شيء فيها يسير إلى الوراء:
الناس يدخلون البيوت قبل أن يخرجوا منها،
الأصوات تُبتلع بعد أن تُقال،
والخطوات تُمحى قبل أن تُسمع.

مدّ يده نحو الزجاج، فغاصت أصابعه فيه كما يغوص الحجر في الماء.
المرآة لم تكن صلبة، بل كانت سطحًا من ذاكرةٍ سائلة.
وعندما سحب يده، وجد على جلده نقشًا أسود جديدًا، شكل دائرةٍ تتشظّى إلى أسهمٍ تتجه إلى كلّ الجهات.
كان ذلك الرمز هو ما سيسمّيه لاحقًا “بوصلة العدم”.

ومنذ تلك اللحظة، بدأت المدينة تتحدث إليه بصيغٍ لا تُقال بالكلمات.
كانت الإشارات تظهر على الجدران، ثم تتلاشى، وكأنها تحلم باللغة.
كان يفهمها دون أن يقرأها، لأن الحروف لم تعد تفصل بين العين والعقل، بل بين “الأنا” والمدينة.
كان يسمع صدى الجدران في داخله.
كانت تقول له:

“كلّ بابٍ يُفتح، يُغلق قلبًا.
وكلّ مرآةٍ تُنير، تُطفئ وجهًا.”

في المساء، عندما سار في الأزقة الطويلة، وجد خرائط المدينة مبعثرة على الأرض،
خرائط ورقية قديمة، تتآكل أطرافها وتلتهمها الرطوبة،
لكن الغريب أن كل خريطة كانت تتغيّر أمام عينيه،
الخطوط تتلوى كأفاعٍ من مداد،
والأسماء تُمحى وتُكتب من جديد بخطٍ يشبه خطّه تمامًا.
كأن المدينة كانت ترسم نفسها بنفسها على الورق الذي استخدمه يومًا لتوثيقها.

وعندما انحنى ليلتقط إحداها، رأى شيئًا غريبًا:
الخريطة لم تكن مرسومة من الخارج، بل من الداخل — كأنها صورة لأعضائه.
الأزقة كانت أوعيته الدموية، والميادين تجاويف في روحه.
حتى الأبواب التي رسمها بالحبر المائي كانت ترتسم الآن على جلده كممراتٍ حقيقية.

أدرك أن الخرائط لم تكن تصف المكان، بل كانت تصف “تحوّله هو”.
كلّ ما كان يوثّقه في المدينة، كان المدينة توثّقه فيه بالمقابل.
صار الاثنان كيانًا واحدًا، متاهة تسير على قدمين.

في إحدى الليالي، سمع في المنام صوتًا يشبه نقر الحروف على الورق، لكنه كان يأتي من داخله.
قال له الصوت:

“المدينة ليست مكانك.
أنت مجرد مرآة كتبتها لتعرف أنك موجود.”

استيقظ فزعًا، فوجد المرآة التي كان ينظر فيها قد اختفت.
لكن انعكاسه ظلّ باقياً على الجدار المقابل، يتحرّك وحده، ينام ويستيقظ دون أن يقلّده.
كان الظلّ قد تحرّر، وصار كائنًا مستقلًا.
كلّ يومٍ كان يراه يسير في الأزقة قبل أن يخرج هو من البيت،
يضع الإشارات السوداء في أماكن لم يذهب إليها بعد،
كأن ظله صار يكتب مستقبله قبله.

وفي اليوم الثالث من هذا التحوّل، حدث ما لم يكن يتوقّعه أحد:
المدينة فقدت انعكاسها.
لم يعد فيها زجاج ولا ماء ولا ظلّ.
كأن كلّ سطحٍ عاكس قد تكسّر فجأة في وقتٍ واحد،
وانبعث من الشظايا ضوءٌ مائل إلى الأزرق، ضوءٌ بلا حرارة، يتلوى في الهواء كأنّه يبحث عن شيءٍ ضائع.

تحت هذا الضوء، رأى الناس وجوههم الحقيقية للمرة الأولى،
فصرخوا جميعًا، لأن الوجوه لم تكن وجوههم، بل وجوه المدينة نفسها — متعبة، رمادية، غارقة في الكتابة.

ومنذ تلك الليلة، بدأت الخرائط تفقد معناها.
صار كل طريق يقود إلى ذاته، وكلّ بابٍ ينفتح على نفس الغرفة مهما اختلف المكان.
المدينة ألغت الاتجاهات، ألغت الشمال والجنوب، وأعلنت نفسها مركز الوجود.
أما “أثَر”، فكان يمشي بلا ظله، بلا خريطة،
يشعر أنه يسير داخل نصٍّ لا يعرف إن كان يكتبه أم يُكتب فيه.

وفي النهاية، حين وصل إلى الساحة القديمة، وجد على الجدار عبارةً جديدة، مكتوبة بالحبر المائي الذي لم يجفّ:

“من يبحث عن المدينة، يفقد نفسه.
ومن يفقد نفسه، يصبح بابها.”

ابتسم “أثَر” ابتسامة باهتة، كمن فهم السرّ متأخرًا جدًا.
رفع يده إلى الجدار، ومرّر أصابعه على العبارة،
فذابت الحروف، وسرى الحبر في جلده، ثم اختفى.
لم يبقَ سوى صدى الجملة يتردّد في هواء المدينة إلى الأبد

الفصل الرابع: أبواب الوعي المائي

كان الليل في تلك الليلة مختلفًا عن كلّ ما عرفه من قبل.
لم يكن ظلامًا بالمعنى المألوف، بل مادة سوداء حيّة تتحرّك بين الأزقة،
تتلوّى مثل لسانٍ يحاول أن يبتلع الكلام قبل أن يُقال.
الهواء صار أثقل من أن يُستنشق، كأن المدينة قرّرت أن تتنفس وحدها.

في البداية، لاحظ “أثَر” أنّ الكلمات بدأت تختفي من الذاكرة العامة:
الناس يتحدثون بنصف جمل،
الأسماء تتفكك كأوراق مبتلّة،
والإشارات التي رسمها هو بالحبر المائيّ قبل زمنٍ ما، صارت تبهت حتى تحوّلت إلى ضوءٍ رماديّ باهت، لا يُقرأ.

ثم بدأت الظاهرة تتسع.
اللافتات اختفت من الشوارع،
الكتب في البيوت صارت بيضاء كأجنحة حمامٍ محروقة،
حتى أصوات المؤذنين والشعراء والمجاذيب ذابت في هواء المدينة.

ولم يعد هناك من يتكلم سوى المدينة نفسها.
كانت تُصدر أصواتًا غامضة، أشبه بطنينٍ متقطّع، كأنها تُجرّب أن تنطق لغتها القديمة التي نسيها البشر.
كلّ جدارٍ كان يهتزّ بذبذبات خفيفة، تُشبه نَفَس كائنٍ نائمٍ في حجرٍ عميق.

في تلك العتمة المضيئة، أدرك “أثَر” أنّ المدينة بدأت تأكل لغتها.
كانت تمحو كلّ ما كُتب عنها، لتعود إلى الصفر،
إلى ما قبل الحرف، إلى مرحلة الصوت الأول، إلى ما قبل الوجود.

وقف وسط الساحة الكبرى، تلك التي كانت يومًا مليئة بالباعة والموسيقى والضجيج،
فوجدها الآن مجرد صمتٍ هائلٍ له طعم المعدن.
تحت قدميه، كانت الحجارة تتفتت إلى غبارٍ من كلماتٍ منسية،
وحين مدّ يده ليلتقط واحدة، ذابت في جلده كرمزٍ منسيّ.

سمع من أعماق المدينة صوتًا يشبه صرير بابٍ يُفتح داخل جمجمة.
الصوت كان يقول:

“لقد حان وقت القراءة الأخيرة.”

في تلك اللحظة، رأى الأبنية تنحني كأنها تصلي،
ورأى الأبواب التي رسم عليها إشاراته القديمة،
تتحوّل إلى أفواهٍ مفتوحة تبتلع الضوء.
كلّ بابٍ صار فمًا، وكلّ فمٍ يلفظ حروفًا محترقة.

حاول أن يكتب شيئًا على الأرض، لكن القلم لم يعد يترك أثرًا.
الحبر جفّ، والأرض لفظت الكتابة كما يلفظ الجسد السمّ.
عندها فهم أنّ الكتابة نفسها لم تعد ممكنة،
وأن الحروف لم تعد تحتاج إلى كاتبٍ لتتحرّك.

في الأفق، ظهرت ظلالٌ بشرية تمشي ببطء.
كانوا يشبهون سكان المدينة الذين رآهم في يقظتها الأولى،
لكنهم الآن كانوا بلا وجوه، بلا أصوات.
كائنات مكوّنة من محوٍ ناعم، تتحرك مثل رائحةٍ قديمة.
كلّ واحدٍ منهم يحمل في صدره فراغًا،
فراغًا له شكل كلمةٍ أُزيلت من نصّها.

اقتربوا منه ببطء، يحدّقون فيه كما يُحدّق الحجر في ماضيه.
إحدى الكائنات رفعت يدها، وأشارت إلى جبينه،
ثم نطقت بصوتٍ صدئٍ لكنه واضح:

“أنت آخر من بقي في الجملة.”

ارتجف. لم يفهم.
لكن عندما لمس جبينه، شعر أن جلده بدأ يتقشّر على شكل حروفٍ صغيرة.
كانت الكلمات تخرج من جسده، تتطاير في الهواء مثل رمادٍ لغويّ.
كلّ حرفٍ يخرج كان يأخذ معه ذكرى، أو صورة، أو رائحة من طفولته المنسية.

تدفق الحبر من عينيه بدل الدمع،
فأدرك أنّ الكتابة لم تكن وسيلته للنجاة،
بل كانت وسيلتها لابتلاعه.
لقد كان الحبر المائي الذي استخدمه منذ البداية، ماءَ الذاكرة نفسها.
ومثلما أحيا المدينة، بدأ الآن يذوب فيها.

وفي ذروة انهياره، سمع صوت المدينة يتحدث إليه بوضوحٍ لم يسمعه من قبل:

“كلّ من كتب اسمي، صار حرفًا فيّ.
أنتَ آخر سطرٍ لم يُقرأ بعد.”

أحسّ أن الأرض تهتزّ تحته، وأن البنايات تدور من حوله كدوّامةٍ من رموز.
كلّ نافذةٍ صارت عينًا، وكلّ شارعٍ صار شريانًا،
والسماء انحنت حتى مستّ رؤوس الناس، كأنها صفحةٌ طويت أخيرًا.

وفي لحظةٍ واحدة، سكن كلّ شيء.
المدينة توقفت عن الكلام،
والضوء انكمش حتى صار نقطةً بيضاء في قلب الساحة،
ثم انطفأ.

بعد زمنٍ لا يُقاس، حين عادت الريح تمرّ فوق الأنقاض،
كان هناك جدارٌ واحد باقٍ في قلب المدينة.
وعليه، بخطٍّ غامض لا يُمحى، جملة واحدة فقط:

“لقد أكلت المدينة حروفها، لتكتب نفسها من جديد.”

وفي أسفل الجدار، سطرٌ صغير، بالحبر المائيّ الأزرق،
كتبته يد لا تزال ترتجف في الغياب:

“أثَر لم يمت، بل صار الكلمة التي تُغلق الباب وتفتحه معًا.”

الفصل الخامس: الحبر الذي يحلم بالماء

لم يكن هناك ليل ولا نهار.
كان الزمن مجرّد دوّامة بطيئة تدور حول نقطةٍ من ضوءٍ لا يراها أحد.
كانت المدينة صامتة تمامًا، كأنها ابتلعت نفسها أخيرًا.
الهواء شفافٌ أكثر من اللازم، والماء الذي يتسرّب من جدران البيوت صار يشبه الحبر حين يُفكّر.

“أثَر” لم يعد موجودًا بالمعنى البشري.
كان هناك، لكنه بلا شكل.
كأن ذاته تبعثرت في جسد المدينة، تسكن الشقوق، والأنفاق، والأسقف المتروكة،
تتوزّع كصدى، كذكرى للحركة، كوشوشة بين الحروف التي لم تُكتب بعد.

ومع ذلك، كان يشعر أن شيئًا جديدًا يُولد من العدم.
صوتٌ خافتٌ بدأ يهمس في أرجاء المدينة، صوت لا يأتي من جهة محددة،
كان يقول:

“لقد آن للحبر أن يحلم بالماء.”

لم يفهم المعنى أول الأمر.
لكن في تلك اللحظة، رأى أن الجدران التي كانت تكتب نفسها بدأت تذوب،
والحروف التي كانت تسيل كالدم، صارت تتحوّل إلى خيوطٍ من بخارٍ مضيء.
الحبر لم يعد سوادًا، بل صار طيفًا من ألوانٍ خفيّة،
تتحرّك ككائناتٍ شفّافة تبحث عن أصلها.

أدرك أن كل ما كان يفعله، منذ الصفحة الأولى من دفتره الجلديّ القديم،
كان محاولة للعودة إلى الماء الأول — الماء الذي سبَق الخلق والكتابة معًا.
ذلك الماء الذي لا يُكتب، ولا يُرى، بل يُتذكَّر فقط حين يموت الحرف.

بدأت المدينة تُغادر مادتها.
الحجارة تحوّلت إلى صوتٍ،
والأبواب صارت نوافذ في الهواء،
والمرايا أُغلقت على انعكاسٍ لم يعد بحاجة إلى وجه.
كلّ شيءٍ كان يعود إلى أصله الأوّل: السيلان.

ومن بين هذا الانحلال العظيم، سمع “أثَر” نداءً يعرفه منذ زمنٍ بعيد.
صوتٌ يشبه صدى طفولته المنسية، يقول:

“اكتب بالماء، لا بالحبر.
فالحبر يذكّر بالموت، والماء يتذكّر الحياة.”

تذكّر حلمه الأول —
حين أراد أن يفتح أبواب المدينة بالحبر المائيّ لا بالأسود وحده،
لأن الأسود وحده لا يُنبت الإنسان، بل يدفنه في ظله.
ابتسم بصمتٍ غامضٍ حين فهم أخيرًا:
أن مهمته لم تكن التوثيق، بل الغسل —
تطهير المدينة من حروفها لتعود حيّةً بلا كتابة.

امتدّ الضوء في الشوارع مثل نهرٍ يصعد إلى السماء.
المدينة صارت شفّافة تمامًا،
والحروف القديمة كانت تطفو على سطحها مثل أوراقٍ تريد أن تبحر بعيدًا.
لم يعد هناك فصل بين الماء والحبر، بين الكلمة والشيء.
كأن اللغة كلها غسلت نفسها واستعدّت لولادةٍ جديدة.

ومن أعماق الساحة الكبرى، ارتفع عمودٌ من ضوءٍ أزرق مائلٍ إلى البياض،
فيه تتطاير الحروف التي نُسيت منذ الأزل،
كأنها عادت لتُقال أخيرًا دون أن تُحبس في فم.
في ذلك الضوء، رأى “أثَر” صورته الأخيرة:
كان جسده سائلًا، يذوب ويتشكّل ككلمةٍ لم تُقرّر بعد معناها.
ابتسم، ومدّ يده نحو الضوء.

وعندما لمست أصابعه البخار المضيء،
انفتح الباب الأخير — الباب الذي لا شكل له ولا اتجاه.
لم يكن بابًا يُفضي إلى مكان،
بل كان مجرّد تلاشيٍ كاملٍ في المعنى.

سمع الصوت الأخير:

“لقد صرت الكتاب، والماء هو الصفحة.”

ثم لم يبقَ شيء.
المدينة اختفت، أو ربما عادت إلى شكلها الأصليّ قبل أن تُسمّى.
لم يتبقَّ سوى انعكاسٍ مائيٍّ على سطحٍ لا يُرى،
يتشكّل عليه بين الحين والآخر نقشٌ من الضوء يشبه عبارة قديمة:

“من دخل المدينة بالحبر، خرج منها بالماء.”

وفي طرف العدم، صفحة بيضاء تتفتح كزهرةٍ لا تُمسّ،
تنتظر أول قطرةٍ من يدٍ جديدةٍ تكتبها.
لكن هذه المرة، لن تكون يدَ “أثَر”،
بل يدَ القارئ، الذي حين يقرأ،
يُعيد المدينة إلى الحلم.



#خيرالله_قاسم_المالكي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- (خذلان)
- هُذَيان
- أكواخ الكهف
- تَعْرِيفَة
- لَوْ أَنِّي أَبْحَرْتُ
- تفكيك الخرافة
- مداد البحر المر
- الطوفان الخبز
- عُرْزَالُ مَنْفَى
- (وطنٌ يَرْفُضُ الاكْتِمَال)
- (المسرح / منصة الصمت)
- ضياع آخر
- أنا مَنْ أَنَا
- الوجه الآخر للنجوم
- خفافيش النهار
- مناجاة في السواد
- أسطورة الصوت المقطوع
- ذات مساء – مدينة الطائر
- موسم الذباب
- يا زُهْدي


المزيد.....




- ثقافة السلام بالقوة
- هل غياب العقل شرط للحب؟
- الجوائز العربية.. والثقافة التي تضيء أفق المستقبل
- كوينتن تارانتينو يعود إلى التمثيل بدور رئيسي
- لونُ اللّونِ الأبيض
- أيقونة صوفية
- تــــابع كل المسلسلات والأفلام الهندي والعربي.. تردد قناة زي ...
- إطلاق ملتقى تورنتو الدولي لفن اليوميات وفلسطين ضيفة الشرف
- افتتاح المتحف المصري الكبير بعد عقدين من الزمن في أرضٍ لا يُ ...
- ماذا حدث عندما ظهر هذا النجم الهوليوودي فجأة بحفل زفاف مستوح ...


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - رواية (غموض الأبواب والإشارات السوداء)