أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - جمال الهنداوي - حقيبة (أم مكة)














المزيد.....

حقيبة (أم مكة)


جمال الهنداوي

الحوار المتمدن-العدد: 8509 - 2025 / 10 / 28 - 02:53
المحور: العولمة وتطورات العالم المعاصر
    


حدث أكثر من عادي، سيدة تمر من هنا الى هناك وهي تحمل حقيبة جلدية، يحدث هذا الأمر في كل لحظة، ولا يثير أي انتباه حتى لو كانت هذه الامرأة هي "أم مكة"، السيدة ماجي صادق زوجة اللاعب المصري الأشهر محمد صلاح والحقيبة هي من علامة "بيركين" التي قدرت سعرها بعض التقارير ما بين 24 إلى 98 ألف جنيه استرليني، فمثل هذا الأمر لا يمكن عده حدثًا استثنائيًا في الراهن المعاش من أيامنا الذي أصبحت فيه الصورة غاية بحد ذاتها لولا المقدرة اللافتة للشعب المصري في خلق " الترند" من أكثر الأحداث عادية..
لكن بعض التأمل في تلك الصور ، ومراجعة بعض الشروط التي تضعها دار "هيرميس " للراغبين بشراء احدى حقائبها ،يحيلنا إلى حقيقة أنَّ الحقيبة نفسها ليست هي القضية، بل هي مجرد عتبة لمقاربة واقع قد يكون أكثر عبثية تمثل فيه – الحقيبة- رمزا للتراتبية الطبقية ذات مدلولات هامسة ، تكشف أن المال - مهما كثر - لم يعد كافيًا في عالمٍ لا يعترف بمكانة الناس إلا إذا حملت مقتنياتهم توقيعًا فاخرًا ما.
يقول بيير بورديو :إنَّ الامتياز الطبقي لا يُصان بالمال وحده، بل بما يسميه "رأس المال الرمزي" ، أي القدرة على التمييز الذوقي. فالأغنياء هنا لا يحتكرون الثروة فحسب، بل يحتكرون التعريف بما هو راقٍ وما هو مبتذل، وهنا يكون الاستهلاك فعلًا نخبويًا. وامتلاك المال لا يعني بالضرورة التحصل على الوجاهة، إذ لا بدَّ من وجود "المعرفة بالذوق" التي تفتح أبواب القبول في نادي النخبة.
أغرب ما قرأت حول تلك الحقيبة هو أنه يحق للدار سحبها من صاحبتها إذا التقطت بعض الصور ظهرت فيه الحقيبة بشكل " مهين" ، كأن تكون على الأرض مثلا.. وهو مثال جيد لتفنن الرأسمالية الحديثة في إبتكار أكثر الألاعيب ذكاءً في استلاب جوهر إنسانية الإنسان. فهي لا تبيع له السلع فقط، بل تبيع له المعنى ذاته. وتمنحه مقابل أموال طائلة وهم الانتماء من خلال الشراء، وتجعله يظن أن امتلاك العلامة التجارية يعني تكامل الذات وتفوقها. مما يحول الحقيبة – وغيرها الكثير من المقتنيات الفاخرة - إلى ما يشبه الشارة الطبقية، تميّز من "يعرف" عمن "يجهل"، ومن "يملك الذائقة الصحيحة" عن من يحاول تقليده.
الغريب أن المسألة لم تعد مقتصرة على الطبقات العليا. فثقافة الاستهلاك أصبحت أكثر ديمقراطية إلى حدٍّ مقلق، إذ يسعى الجميع إلى اقتناء ما "يمنح الصورة" دون العناية بما لو كان يمنح "القيمة" أم لا.. الطبقات الفقيرة تقتني السلع المقلّدة، التي تهتم بوضع نسخ مطبوعة من العلامات الفاخرة على السلع الرديئة، وهناك من يبالغ بالأمر حد أن تكون العلامة هي الطاغية على المضمون، ومتوسطي الدخل يفضلون الحصول على السلع المستعملة مقابل الحفاظ على المظهر، أما أصحاب الثراء فيتنافسون على العلامة الأصلية ذاتها، في سجال ضخم للتمثيل الرمزي، يتسابق فيه الناس ليكونوا أكثر جلبا للأضواء.. حتى الزائف منها.
يقول زيغمونت بلاومان : إنَّ الإنسان المعاصر أصبح "مستهلكًا في ذاته"، يُقاس وجوده بقدر ما يشتري لا بقدر ما يُنتج. وثقافة الاستهلاك هي اللغة التي نتفاهم بها، والعلامة التجارية هي النحو الجديد الذي يصوغ صورتنا في وعي الآخرين. فمن يمتلك "بيركين" اليوم لا يحمل مجرد حقيبة، بل يرفع راية، يعلن بها موقعه المتقدم في الهرم الاجتماعي.. وليس فتحا هنا لو جادلنا أن مثل هذه الوجاهة المفترضة ليست – في أحسن الأحوال- أكثر من عبودية مقنّعة. فالسلع، كما كتب هربرت ماركيوز، تحوّلت إلى أدوات للسيطرة، تمنح الفرد إحساسًا زائفًا بالحرية بينما هي في الواقع تبقيه أسيرًا داخل النظام نفسه الذي يستنزفه. فحياة الإنسان - ضمن هذه الاشتراطات – لا تعد أكثر من مجرد سلسلة لا تنتهي من الرغبات المؤجلة والديون المغلّفة بالرفاه.
مأساة ثقافة الاستهلاك أنها لم تكتفِ بتحويل الأشياء إلى سلع، بل حوّلت البشر أنفسهم إلى وسائل عرض تحاكي واجهات المحال التجارية، حيث ترص السلع مصقولة، مرتبة بعناية، ومعدّة للفرجة.. وما حدث في جدل الحقيبة يختصر هذه المأساة الصامتة.. إذ كانت المقاربة تناقش " السعر" دون المرور على الذوق أو القيمة، فالسعر وحده، في ظل تواري قيم العمل والعلم والابداع، صار المعيار الأخلاقي الجديد..حيث كل شيء قابل للتسعير، حتى الكرامة التي تغيرت مقاييسها في عصرنا الراهن.
ربما لم تكن "أم مكة" تقصد أن تثير كل هذا النقاش، وربما كانت ببساطة امرأة تتابع الموضة وتمارس حقّها الطبيعي في الترف. لكن الضجّة التي رافقت ظهورها تكشف عن جرحٍ اجتماعيٍّ أعمق. جرح مجتمعٍ يقيس الإنسان من الخارج ، ويمنح الاحترام لمن يملك أكثر.. رغم أن المنطق، والعلم ، ونواميس الطبيعة، تقر أن القيمة الحقيقية لا تُشترى، بل تُصنع.. والسلعة - مهما غلا ثمنها - لا تستطيع أن تمنح صاحبها معنىً إنسانيًا أو احترامًا حقيقيًا.
ربما في نهاية الأمر، لم تكن "بيركين" ماجي صادق سوى تفصيلة صغيرة في حياةٍ أكبر من الموضة وأعمق من الجلد والخياطة.. ولكنها حقيبةٌ أثارت من الجدل ما لم تثره مئات الأهداف التي سجّلها زوجها في الملاعب، لأنَّ العالم الذي نعيش فيه بات يصفّق للماركة أكثر مما يصفّق للموهبة.. ولكن هذا لا يمكن له حجب حقيقة أن "محمد صلاح"، لم يحتج إلى حقيبة ليثبت قيمته، بينما احتاجت الحقيبة إلى اسمه لتُصبح حديث الناس.. في بلداننا على الأقل.



#جمال_الهنداوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التطبيع الثقافي .. حقاً؟؟
- العطر
- ما بعد (غزة).. ليس كما قبلها
- كلام في الحداثة
- موسم الرياض لأهل الرياض.. ما الخطأ في ذلك؟
- اختبار الضمير
- أنتخاب.. أم تزكية
- المال والثقافة
- أمريكا وأيران.. والعرب بينهما
- (سيلفي) خلف النعش
- حديث الدراما
- معاوية..درامياً
- الإعلام العربي.. بين الفشل والتواطؤ
- صراع السرديات.. معركة وجود
- كتب بلا صور
- الديكتاتورية الخوارزمية
- مقدمات جديدة..لتاريخ قديم
- الخلاف والاختلاف
- موقعة ( الأم بي سي)
- مثقفو القصاع


المزيد.....




- لماذا يحتاج ترامب إلى استمرار الحديث عن ولايته الثالثة؟
- إدارة ترامب تخطط لإعادة هيكلة إدارة الهجرة.. ومصادر تكشف لـC ...
- الخارجية السودانية تتهم الدعم السريع بارتكاب إبادة جماعية با ...
- زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب ولاية باليكسير غربي تركيا
- الصين - أمريكا: تجرّع سمّ الاتفاق أفضل من حرب تجارية طويلة ل ...
- تركيا تشتري 20 طائرة تايفون من بريطانيا وتسعى لصفقات مشابهة ...
- تركيا ـ زلزال بقوة 6.1 درجات يضرب غرب البلاد
- الاحتلال والمستوطنون ينفذون اعتداءات متزامنة في الضفة الغربي ...
- ظاهرة التصهين والحرب النفسية.. أنا أقاوم إذن أنا موجود
- بيان من الجيش الإسرائيلي و-الشاباك- بشأن تسلم رفات رهينة جدي ...


المزيد.....

- نبذ العدمية: هل نكون مخطئين حقًا: العدمية المستنيرة أم الطبي ... / زهير الخويلدي
- Express To Impress عبر لتؤثر / محمد عبد الكريم يوسف
- التدريب الاستراتيجي مفاهيم وآفاق / محمد عبد الكريم يوسف
- Incoterms 2000 القواعد التجارية الدولية / محمد عبد الكريم يوسف
- النتائج الايتيقية والجمالية لما بعد الحداثة أو نزيف الخطاب ف ... / زهير الخويلدي
- قضايا جيوستراتيجية / مرزوق الحلالي
- ثلاثة صيغ للنظرية الجديدة ( مخطوطات ) ....تنتظر دار النشر ال ... / حسين عجيب
- الكتاب السادس _ المخطوط الكامل ( جاهز للنشر ) / حسين عجيب
- التآكل الخفي لهيمنة الدولار: عوامل التنويع النشطة وصعود احتي ... / محمود الصباغ
- هل الانسان الحالي ذكي أم غبي ؟ _ النص الكامل / حسين عجيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العولمة وتطورات العالم المعاصر - جمال الهنداوي - حقيبة (أم مكة)