أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - جمال الهنداوي - كلام في الحداثة














المزيد.....

كلام في الحداثة


جمال الهنداوي

الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 02:47
المحور: قضايا ثقافية
    


لم تدخل كلمة حيّز التداول في الثقافة العربية المعاصرة كما دخلت كلمة الحداثة. فهي المفردة التي تستعيرها الخطابات الفكرية، وتتردد في المجالس الثقافية والإعلامية، حتى باتت أشبه بمرآة لأزماتنا وأسئلتنا المؤجلة. لكن المفارقة أن هذه الكلمة، التي كان يفترض أن تكون جسرًا نحو التفاهم والرؤية المشتركة، تحوّلت إلى ميدان صراع في التأويلات، يفسّرها كل طرف بحسب موقعه ورغبته، من غير أن يسعى أحد إلى تأسيس معنى جامع لها. مما قد يكون السبب في ما نكبده الان من فوضى الحداثة بدل أن ننشغل في تحديث الفوضى.. فالحداثة، في وعينا المعاصر، شبيهة بالعناوين العاجلة التي تتساقط علينا بين موجة إحباط وأخرى؛ نرفعها راية للتغيير، ثم نُسقطها في أول اختبار جاد. الجميع ينادي بها، لكن حين نسأل: أي حداثة نعني؟ تتكاثر الإجابات حتى تكاد تساوي عدد المتحدثين، ويضيع المعنى في غابة من الشعارات مما يفرغ الحداثة من طاقتها الإيجابية، ويحيلها إلى خطاب شكلي يضاعف الإحباط.
إن الحاجة ماسة اليوم إلى تأسيس أرضية ثقافية مشتركة ننطلق منها لفهم الحداثة كمسار لا كشعار. فالحداثة ليست مجرد استعارة من تجارب الأمم الأخرى، وليست حُلة تُرتدى في المؤتمرات والبرامج الإعلامية، بل هي عملية معقدة تتعلق بإعادة بناء علاقة الإنسان بزمانه ومجتمعه وقيمه. وهي مشروع يتطلب نقدًا دائمًا للقديم، لا بهدف القطيعة معه، بل بغرض استلهام ما هو حي فيه، وتجاوزه نحو أفق أكثر انفتاحًا.
وللحديث عن الحداثة لا يمكن تجاهل البعد التاريخي: فهي نتاج تجارب الشعوب في الانتقال من مجتمع إلى آخر، من نظام فكري إلى آخر، ومن قيم تقليدية إلى قيم معاصرة. الحداثة إذن ليست وليدة لحظة سياسية أو خطابية، بل هي تراكم معرفي وثقافي، يعكس تجارب الإنسان في محاولاته المستمرة لفهم ذاته ومحيطه، وإعادة تنظيم حياته بما يتوافق مع مقتضيات العصر.
المؤسسات الفكرية والأكاديمية تتحمل اليوم مسؤولية مضاعفة: أن تنتج خطابًا ثقافيًا جادًا يحدد ملامح الحداثة الممكنة في سياقنا، ويقدّمها كخيار عقلاني للمجتمع. فغياب هذا الدور يترك الساحة خالية أمام الاستخدام السياسي والإعلامي ، حيث تُرفع كشعار تجميلي لتغطية واقع مأزوم، بدل أن تكون أداة لتفكيك هذا الواقع وإعادة تركيبه على أسس أعمق. إن أخطر ما نواجهه ليس رفض الحداثة، بل تسطيحها وجعلها واجهة براقة تخفي وراءها التآكل والانسداد.
هنا يبرز دور المثقف: أن يميز بين حداثة أصيلة تنبع من حاجات المجتمع، وتراهن على تطوير وعيه وبناء إنسانه، وبين حداثة ملفقة تستنسخ أشكالًا بلا مضمون، وتحوّل المصطلح إلى أداة للتوظيف السياسي أو التجاري. فالمثقف الحقيقي هو القادر على حماية المفردة من التشويه، وعلى إبقائها حيّة في وجدان الناس باعتبارها مشروعًا لا شعارًا.
ومن زاوية اجتماعية، يمكن القول إن الحداثة تتعلق أيضًا بالقدرة على فهم المجتمعات المعاصرة، ومواجهتها لأزمات الفقر والفساد والبطالة وانقطاع الحوار بين المواطنين والدولة. فالحداثة ليست مجرد إصلاح شكلي للمؤسسات، بل هي إعادة صياغة للعلاقة بين الإنسان ومحيطه، بين الفرد والمجتمع، وبين المواطن والدولة. وعليه، تصبح الحداثة مشروعًا شاملًا يربط الثقافة بالقيم والتعليم والسياسة والاقتصاد، ويؤسس لجسور بين الماضي والحاضر والمستقبل.
قد يكون من الصعب أن نتفق جميعًا على تعريف واحد للحداثة، لكن يمكننا – وهذا هو الأهم – أن نؤسس حوارًا وطنيًا يضع معاييرها الكبرى: أن تكون شاملة، عقلانية، إنسانية، ومنفتحة على التغيير من دون أن تفقد جذورها في الهوية. إن العراق بحاجة إلى حداثة وطنية، مشروع يوازن بين قيم التراث الحي ومتطلبات العصر، ويُترجم إلى خطط واقعية في الثقافة والتعليم والاقتصاد والسياسة، بما يعيد الثقة بين الدولة والمجتمع.
إن فوضى المصطلح، حين تتحول إلى أداة للمناكفات، لا تسيء إلى الحداثة كمفهوم فحسب، بل تهدد بتحويلها إلى أزمة جديدة تضاف إلى أزماتنا المتراكمة. لذلك فإن أول الصواب – وآخره – أن نفرّق بوضوح بين حداثة تُبنى على أسس معرفية صلبة، وحداثة سطحية تُرفع كشعار للاستهلاك. وأن تدرك الدولة والنخب معًا أن مصلحتها تكمن في مأسسة حوار الحداثة بوصفه مشروعًا ثقافيًا جامعًا، لا شعارًا عابرًا.
وعندها فقط، ستتحول كلمة الحداثة من مفردة ملتبسة إلى طاقة تغيير حقيقية، ويغدو النداء بها صوتًا جمعيًا صادقًا. لن تبقى حينها شعارًا يرفع في المؤتمرات أو في أعمدة الصحف، بل ستصبح خيارًا وطنيًا تتبناه بيوت العراقيين ومقاهيهم ومنتدياتهم الثقافية، لأنهم أدركوا أنها الطريق الوحيد نحو العدالة والتنمية والحكم الرشيد.
وفي النهاية، الحداثة ليست حدثًا عابرًا، ولا مجرد شعار للتقليد، بل هي رحلة مستمرة لإعادة النظر في ماضينا، وفهم حاضرنا، وبناء مستقبل نطمح إليه جميعًا. رحلة تبدأ من الثقافة، وتنتهي بالوعي، وتُبنى على الصدق مع الذات ومع المجتمع، لتصبح لكل فرد، ولكل مؤسسة، ولكل مجتمع، قدرة حقيقية على التجديد والإبداع، بما يجعل كلمة الحداثة أكثر من مجرد لفظ، بل نمط حياة وروحًا فكرية تتجاوز حدود الزمان والمكان.



#جمال_الهنداوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- موسم الرياض لأهل الرياض.. ما الخطأ في ذلك؟
- اختبار الضمير
- أنتخاب.. أم تزكية
- المال والثقافة
- أمريكا وأيران.. والعرب بينهما
- (سيلفي) خلف النعش
- حديث الدراما
- معاوية..درامياً
- الإعلام العربي.. بين الفشل والتواطؤ
- صراع السرديات.. معركة وجود
- كتب بلا صور
- الديكتاتورية الخوارزمية
- مقدمات جديدة..لتاريخ قديم
- الخلاف والاختلاف
- موقعة ( الأم بي سي)
- مثقفو القصاع
- التاريخ المحكي..والتاريخ المكتوب
- السيرة.. بين التوثيق والتلفيق
- الثقافة العربية.. والآخر
- فقه التكسب


المزيد.....




- لقطات تفطر القلب.. فتيات يتيمات ينهلن بالدموع بحفل تخرجهن في ...
- ماذا تعني الضمانات الأمنية لأوكرانيا؟
- إيران أمام -معضلة استراتيجية- بعد الحرب مع إسرائيل: تفاوض صع ...
- عزلة وفقر.. الجزيرة نت تستطلع أحوال نازحي جنين بعد 7 أشهر من ...
- إلى أين تتجه مسارات السلام في السودان؟
- تحليل لغة جسد ترامب وقادة أوروبا وكيف جلسوا أمامه وحركة ميلو ...
- السفارة السعودية تعلق على وفاة سعود بن معدي القحطاني بعد سقو ...
- ترامب يستبعد إرسال قوات برية إلى أوكرانيا وسويسرا تعرض حصانة ...
- النظم العشبية.. الحليف المهمل في مكافحة تغير المناخ
- الجيش الإسرائيلي يكثف هجماته شمال ووسط قطاع غزة


المزيد.....

- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الساد ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الثال ... / منذر خدام
- أسئلة الديمقراطية في الوطن العربي في عصر العولمة(الفصل الأول ... / منذر خدام
- ازمة البحث العلمي بين الثقافة و البيئة / مضر خليل عمر
- العرب والعولمة( الفصل الرابع) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الثالث) / منذر خدام
- العرب والعولمة( الفصل الأول) / منذر خدام
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - جمال الهنداوي - كلام في الحداثة