أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - (خذلان)














المزيد.....

(خذلان)


خيرالله قاسم المالكي

الحوار المتمدن-العدد: 8507 - 2025 / 10 / 26 - 09:49
المحور: الادب والفن
    


كانت قطعةُ الجليد تلمع في عينيه من بعيد، كأنها وعدٌ أخير بالخلاص. تشبه نيزكًا صغيرًا سقط من سماءٍ نسيَت أن تُطفئ نيرانها، أو حبةَ نجاةٍ تائهة في صحراءٍ من العطش. هناك، عند آخر الزقاق، كانت تذوب ببطءٍ في إناءٍ نحاسيٍّ قديم، لكنه في نظره كان خلاصًا مؤجّلًا منذ طفولته.

جمع كلَّ الأواني النحاسية القديمة التي ورثها عن أبيه — تلك التي سكنت فيها رائحة الخبز والرماد — وصدأها الذي يشبه جروح الأيام. كانت شاهدةً على أعوامٍ من الحرمان، لكنها ما تزال تحتفظ بوميضٍ خافت، كبقية كرامةٍ لم تُستنزف بعد. حملها بلهاثٍ ثقيل، وركض نحو البريق البعيد كمن يطارد ظلًّا يعرف أنه لن يدركه، ومع ذلك لا يستطيع التوقف.

كانت خطواته تترنح على الأرض الترابية، والغبار يلتصق بوجهه كقناعٍ من الخيبة. وفي منتصف الطريق، خانته قواه. تعثّر، وكاد يسقط، فاحتواه الغبار بعباءةٍ رماديةٍ من الذكرى. أحسّ بثيابه الممزقة، التي التصقت بعرقه وفقره، كأنها إدانةٌ علنيةٌ له، فصرخ وسبّها بكل ما بقي في فمه من كلماتٍ جارحة، كمن يبحث عن مذنبٍ يُعاقبه بدلًا من أن يُعاقب نفسه.

ثم نهض ببطء، كمن يجرّ ظلَّه الثقيل وراءه. كانت قطعة الجليد قد بدأت تذوب، كأنها تسخر من ركضه العقيم. اقترب منها ويداه ترتعشان، لم يعرف إن كان ذلك من التعب أم من الخوف من أن يلمسها فتختفي. نظر إلى انعكاس وجهه على سطحها اللامع، فرأى طفلاً بعيداً يحمل كوباً صغيراً ويبتسم لأمّه عند نهرٍ لم يعد له وجود.

ابتسم الطفل في داخله، لكنه سرعان ما انطفأ حين تذكّر أن النهر جفَّ، وأن الأم ماتت، وأن الماء تحوّل إلى حلمٍ مالح. عندها، تراجع خطوة، ثم دفع الأواني أمامه دفعةً واحدة، فارتطم النحاس بالأرض وأصدر صدىً كأنّه صرخةُ قرنٍ قديمٍ نسيه الزمن. ارتدّ الصوت بين الجدران الخربة، وعاد إليه كأنّه يُذكّره بما فقده وما لن يعود.

جلس على ركبتيه، منهكاً، مبللاً بعرقه ودموعه وذوب الجليد الذي لم يبلّل فمه. حاول أن يضحك، لكنّ صوته خرج متكسّراً، كضحكةٍ ماتت قبل أن تُولد.

ثم جاءت هي.

لم تكن تملك ملامح النساء اللواتي يُكتب عنهن في القصص. لا جمال صارخ، ولا ثوب يلمع تحت الضوء. لكنها كانت تملك حضورًا يشبه الضوء حين يتسلل بخفةٍ إلى غرفةٍ مغلقة منذ أعوام. كانت تشبه نغمةً منسية في أغنيةٍ حزينة. اقتربت بصمتٍ كأنها تعرف مكانها مسبقًا، وجلست إلى جواره. لم تسأله عمّا حدث، لم تُعاتبه، فقط وضعت رأسه المثقل بالتعب في حجرها، ومسحت جبينه بأصابعها التي تحمل شيئًا من دفء العالم المفقود.

هناك، بين دفء حجرها وبرودة يأسه، أحسّ أنه يعود قليلاً إلى الحياة. بكى طويلاً، حتى غسلت دموعه ما تبقّى من صدى الغبار في صدره. ثم بلّلت قطعة قماشٍ صغيرة بالماء الباقي في الإناء، وبدأت تمسح وجهه، ببطءٍ وعنايةٍ كأنها تمسح تاريخًا من الخيبات لا غبار يومٍ عابر.

كانت عيناه تتابعان حركتها كطفلٍ خائفٍ من أن يفيق من حلمٍ جميل. عندها أدرك أن الحنان ليس نقيض الخذلان، بل امتداده الطبيعي حين يلتقي الوجع بالعطف.

أخذت ثيابه الممزقة التي سبّها قبل قليل، وغسلتها بأناملها الرقيقة، كأنها تغسل خطيئته لا قماشه. كانت تمسك كل قطعةٍ منه بحذرٍ كأنها تتعامل مع جزءٍ من روحه. حينها فقط، أدرك أن تلك الثياب ليست لعنة، بل شاهدٌ صامتٌ على معركته الطويلة ضد الجفاف والنسيان وضده نفسه.

نظرت إلى جراح جسده الكثيرة، تلك الشقوق التي حفرتها الأيام كخريطةٍ تُظهر تضاريس سقوطه وصعوده، وفهمت أن لا دواء لها في القرب، بل في البعد، في انتظارٍ طويلٍ يشبه الصبر الذي تُنبت منه الشجرة بعد موت الغابة.

خارج الغرفة الفقيرة، كان الليل يهبط على المدينة كستارٍ أسود، لكن نافذةً صغيرةً ظلت مفتوحة تُدخل نسمةً باردة، كأنها تذكيرٌ بأن العالم ما زال يتنفس. وقف ظلّه في الزاوية يراقبهما بصمتٍ مشبوه، كأنه يسجل المشهد ليقدّمه دليلاً في محكمة الخذلان الكبرى.

كان كل شيء متجمّدًا: قطعة الجليد، الأواني، الغرفة، حتى الهواء. لكن شيئًا في داخله كان يتحرك ببطء، كزرعةٍ صغيرةٍ تشقّ التراب لتطلّ على العالم. رفع عينيه نحوها — تلك المرأة الغامضة — ولم يعرف إن كانت ملاكًا أم وهماً من أوهامه المتكرّرة. لكنها ابتسمت.

ابتسامةٌ لم يرَ مثلها من قبل، كأنها تُعيد إليه تعريف الوجود نفسه.

قال بصوتٍ مبحوح:
– لماذا لم تتركيني أغرق؟

أجابته بهدوءٍ يشبه المطر:
– لأن الغرق لا يشبه النهاية، بل البداية حين نختار أن نصعد من جديد.

التفت نحو الأواني المرمية على الأرض، فوجدها تعكس ضوءاً غامضاً، كأنها استعادت فجأة بريقها القديم. رفع واحدةً منها ومسح عنها الغبار. كانت تلمع كما لم تفعل منذ زمن. وفي وسطها، كانت قطعة الجليد الصغيرة ما تزال هناك، نصف ذائبة، نصف حيّة، تُصدر صوتاً خافتاً يشبه نَفَسَ الحياة حين تعود بعد موتٍ طويل.

قالت له وهي تنظر إلى البريق الأخير:
– لا تمسك بها كثيراً، دعها تذوب كما تريد. ليست الجليد من يُنقذك، بل ما يبقى منك بعد ذوبانه.

أغمض عينيه وتنفّس بعمق. شعر لأول مرة منذ أعوام أن الهواء يدخل صدره بلا خوف. نهض، نظر إلى الباب، ثم إلى الأفق البعيد الذي لا يرى منه إلا خيطَ ضوءٍ خجولٍ يتسلل بين غيوم الغروب. أدرك حينها أن الخذلان لم يكن خسارة، بل كشفًا، كأنه مرآةٌ تُظهر وجهك الحقيقي حين تسقط كل الأقنعة.

خرج بخطواتٍ ثابتة. كانت هي خلفه تمسح الماء المتساقط، كأنها تمحو أثر الذوبان لا أثره. وحين وصل إلى الباب، التفت نحوها، فوجدها تنظر إليه بعينين تشبهان وعدًا جديدًا بالحياة.

همس لنفسه:
– ربما الخذلان هو المعجزة التي لا يفهمها إلا من نجا منها.

ثم مضى، تاركًا وراءه قطعة الجليد لتذوب، والأواني لتلمع، والغرفة لتتنفس للمرة الأولى منذ سنين



#خيرالله_قاسم_المالكي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هُذَيان
- أكواخ الكهف
- تَعْرِيفَة
- لَوْ أَنِّي أَبْحَرْتُ
- تفكيك الخرافة
- مداد البحر المر
- الطوفان الخبز
- عُرْزَالُ مَنْفَى
- (وطنٌ يَرْفُضُ الاكْتِمَال)
- (المسرح / منصة الصمت)
- ضياع آخر
- أنا مَنْ أَنَا
- الوجه الآخر للنجوم
- خفافيش النهار
- مناجاة في السواد
- أسطورة الصوت المقطوع
- ذات مساء – مدينة الطائر
- موسم الذباب
- يا زُهْدي
- صيحات ومآسي الأرض


المزيد.....




- ورشة صغيرة بلوس أنجلوس تحفظ ذاكرة نجوم السينما في -القوالب ا ...
- عائدات الموسيقى على -يوتيوب- تبلغ مستوى غير مسبوق وتحقق 8 مل ...
- الرواية غير الرسمية لما يحدث في غزة
- صدور كتاب -أبواب السويداء والجليل- للكاتبتين رانية مرجية وبس ...
- الممثل التجاري الأميركي: المحادثات مع الصين مهدت للقاء بين ت ...
- الممثل التجاري الأميركي: المحادثات مع الصين مهدت للقاء بين ت ...
- هل تصدق ان فيلم الرعب يفيد صحتك؟
- العمود الثامن: لجنة الثقافة البرلمانية ونظرية «المادون»
- في الذكرى العشرين للأندلسيات… الصويرة تحلم أن تكون -زرياب ال ...
- أَصْدَاءٌ فِي صَحْرَاءْ


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - (خذلان)