كرم خليل
سياسي و كاتب وباحث
(Karam Khalil)
الحوار المتمدن-العدد: 8501 - 2025 / 10 / 20 - 06:59
المحور:
قضايا ثقافية
ما الفرق بين البلشفية والبرغماتية؟ سؤال يبدو في ظاهره فكريًا، لكنه في جوهره امتحان للقيم والسياسة والضمير الإنساني. فهاتان المدرستان تمثلان طرفين متناقضين من التجربة البشرية: الأولى تقدّس المبدأ ولو دمّر الواقع، والثانية تقدّس النتيجة ولو خانت المبدأ. وبين هذين الحدّين يقف الإنسان المعاصر حائرًا بين الإخلاص للفكرة وبين الواقعية التي تفرضها الحياة.
نشأت البلشفية في خضم الثورة الروسية حين انقسم الحزب الاشتراكي إلى جناحين: المناشفة والبلشفية. وكلمة بولشيفيك في أصلها الروسي تعني “الأغلبية”. قاد فلاديمير لينين ذلك التيار الثوري الصارم، مؤمنًا بأن التغيير لا يتم إلا بالقوة، وأن الطبقة العاملة وحدها قادرة على هدم النظام الرأسمالي وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا. كانت البلشفية مشروعًا أخلاقيًا في بداياته، يحلم بالعدالة والمساواة، لكنها تحوّلت مع الوقت إلى منظومة مغلقة، حيث أصبحت النظرية أقدس من الإنسان، والوسيلة تبرَّر باسم الثورة. ومن هنا، بدأ الانزلاق نحو الشمولية، حين صار المبدأ نفسه قيدًا على الحرية التي جاء ليحررها.
أما البراغماتية، فهي النقيض التام. وُلدت في الولايات المتحدة في بيئة لا تعرف الصراع الطبقي الحاد، ولا الثورات الدموية. كانت محاولة فكرية للبحث عن منهج للحياة قائم على التجربة والمنفعة، لا على العقيدة الجامدة. أصل الكلمة من اليونانية براغما أي “العمل”، ومن هنا جاء مفهوم البراغماتيزم في الفلسفة الأمريكية كما صاغه ويليام جيمس وجون ديوي. فالقيمة في الفكر البراغماتي لا تُقاس بالمبدأ، بل بالنتيجة: ما ينفع فهو حق، وما يفشل فهو باطل.
في التجربة الإنسانية، كلا التيارين يحملان وجهًا من الحقيقة ووجهًا من الخطر. البلشفية علمتنا أن المبدأ بلا وعي واقعي يتحوّل إلى سيف يقطع من حمله، والبراغماتية علّمتنا أن النتيجة بلا قيم تتحول إلى مكر سياسي وانتهازية فكرية.
أنا شخصيًا أميل إلى الواقعية المبدئية — لا إلى المثالية المجرّدة ولا إلى الانتهازية الباردة. فالمبادئ هي البوصلة التي تمنح الطريق معناها، لكن الطريق نفسه لا يمكن أن يُسار بالأحلام وحدها. ومن لا يوازن بين الفكرة والنتيجة، بين العدالة الممكنة والمثال المستحيل، سينتهي إمّا إلى طغيان أيديولوجي أو إلى فراغ أخلاقي.
إنّ العالم اليوم، من الشرق إلى الغرب، يعيد إنتاج الصراع ذاته بأسماء مختلفة: الثورة مقابل النظام، المبدأ مقابل المصلحة، الإيمان بالفكرة مقابل عبادة الواقعية. والاختبار الحقيقي ليس في الانحياز لأحد الطرفين، بل في القدرة على التوفيق بينهما دون أن نفقد جوهرنا الإنساني.
فلا بلشفية العدالة المطلقة أنقذت الإنسان، ولا براغماتية المنفعة العارية منحته المعنى. وحدها الحرية الواعية – تلك التي تُدرك قيمة المبدأ دون أن تتنكر للواقع – قادرة على بناء عالم لا يكون فيه الإنسان وسيلة، بل غاية كل فكرة وكل سياسة.
#كرم_خليل (هاشتاغ)
Karam_Khalil#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟