أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - فاروق محمد الشاوي - حين يرهق العدل نفسه: دعوة لإصلاح القضاء















المزيد.....

حين يرهق العدل نفسه: دعوة لإصلاح القضاء


فاروق محمد الشاوي
(Farouk M. El-shawy)


الحوار المتمدن-العدد: 8497 - 2025 / 10 / 16 - 21:27
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


القضاء هو مرآة الدولة، ومن دون عدالة راسخة لا يمكن أن تستقيم مؤسساتها ولا يستقر أمنها. فالعدالة ليست شعارًا يُرفع ولا نصًا يُتلى في الدساتير، بل ممارسة يومية تُقاس بمدى احترام القاضي لوقته ووقت المتقاضين، ومدى شعور المواطن بأن المحكمة بيتٌ للإنصاف لا متاهة للانتظار. إن الإصلاح القضائي ليس ترفًا إداريًا، بل ضرورة وجودية لأي نظام قانوني يسعى لأن يكون عادلًا بحق، لا عادلًا بالاسم فقط.

أول ما يواجه المتقاضي اليوم هو الإرهاق الإجرائي. يذهب إلى المحكمة في الموعد المحدد، يجلس في الممرات ساعات طويلة، ثم يُفاجأ بأن جلسته أُجّلت ليوم آخر، أو شُطبت لسبب بسيط قد لا يتجاوز غياب أحد الأطراف أو تأخره دقائق معدودة. في المقابل، لا يجد المواطن تفسيرًا لتأخير المحكمة عن بدء الجلسات في موعدها، أو لرفع الجلسة دون سبب واضح، أو لغياب التنظيم الإداري الذي يحترم وقت الناس وكرامتهم.

هذه الظاهرة ليست مسألة مواعيد فحسب، بل مساس مباشر بمبدأ قانوني أصيل هو حق التقاضي الفعّال. فالقضاء ليس مجرد مكان لإصدار الأحكام، بل منظومة يجب أن تعمل بكفاءة وإنصاف. حين يضطر المواطن للانتظار ساعات من أجل جلسة قد تُؤجَّل بدقائق، فإننا لا نهدر وقته فقط، بل نهدر الثقة في العدالة نفسها.

من غير المعقول أن يتحمّل المتقاضون تبعات سوء التنظيم أو قلة الانضباط الإداري داخل المحاكم. فإذا كان القاضي هو ميزان العدالة، فإن الانضباط هو قاعدة هذا الميزان. العدالة التي لا تبدأ في وقتها لا تُحترم، لأنها تفقد أول مظاهر هيبتها أمام الناس: احترام المواعيد والالتزام بالمسؤولية.

من المفارقات المؤلمة أن بعض المحاكم تُشطب فيها القضايا إذا تأخر المتقاضي خمس دقائق، بينما قد يتأخر بدء الجلسة لساعات دون تبرير. هنا تختل الموازين، لأن العدالة لا تُقاس بالسلطة، بل بالإنصاف. فالتشدد مع المواطن يقابله تراخٍ في التنظيم، وهذا تناقض يضعف هيبة القضاء بدل أن يعزّزها.

ثمّة حاجة حقيقية لمراجعة القواعد الإجرائية من منظور إنساني، لا فقط من منظور قانوني جامد. فالتقاضي ليس معركة بين طرفين، بل مسار لإعادة التوازن إلى العلاقات، واستعادة الحقوق ضمن إطار من الاحترام المتبادل. عندما يشعر المتقاضي بأن المحكمة لا تبالي بوقته أو بمعاناته، فإن العدالة تتحوّل من ملاذٍ آمن إلى مصدر قلق.

غير أن التأخير الإداري وشطب الجلسات ليسا وحدهما ما يُرهق العدالة. هناك معضلة أخرى تتسلّل بصمت إلى قلب المنظومة القضائية: الرسوم القضائية المتصاعدة. فمن غير المقبول أن يتحول حق التقاضي — الذي يُفترض أن يكون مكفولًا للجميع — إلى عبء مالي لا يطيقه إلا الميسورون.

في السنوات الأخيرة، شهدت دول عربية مثل مصر والكويت ارتفاعًا ملحوظًا في الرسوم القضائية، بحجة تطوير المرافق العدلية أو الحد من الدعاوى الكيدية. ففي مصر، أقرّت تعديلات عام 2023 زادت رسوم رفع بعض الدعاوى المدنية والتجارية إلى نسب تجاوزت قدرة المواطن العادي، حتى باتت بعض القضايا البسيطة تتطلب سداد آلاف الجنيهات، وهو مبلغ يثني الكثيرين عن التقاضي. وفي الكويت، أثيرت انتقادات واسعة بعد زيادة الرسوم في عدد من الدعاوى المدنية والإدارية، إذ ارتفعت رسوم الاستئناف والتمييز إلى مئات الدنانير، ما شكّل عبئًا حقيقيًا على الأفراد وأصحاب القضايا الصغيرة.

هذه الزيادات لا يمكن تبريرها تحت شعار “تنظيم العدالة”، لأنها تمسّ جوهر الحق الدستوري في التقاضي. فحين يُجبر المواطن على المفاضلة بين المطالبة بحقه أو تجنّب الأعباء المالية، نكون أمام عدالة معروضة للبيع. صحيح أن القضاء يحتاج إلى موارد لتطوير بنيته التحتية، لكن تمويل العدالة لا يجب أن يأتي على حساب المظلومين، بل من خلال إدارة مالية رشيدة تضمن التوازن بين كلفة الخدمة وحق الوصول إليها.

القانون في جوهره يفترض المساواة بين الناس، لا أن يتحوّل إلى أداة لتمييزهم. الرسوم المرتفعة لا تردع الدعاوى الكيدية كما يُروَّج، بل تردع المواطن البسيط عن المطالبة بحقه. إنها تشلّ قدرة الأفراد على اللجوء إلى القضاء، وتتناقض مع أبسط المبادئ الدستورية التي تنص على أن “حق التقاضي مكفول للناس كافة”.

لذلك فإن الإصلاح القضائي الحقيقي لا يبدأ من النصوص، بل من الفلسفة التي تحكم العلاقة بين القضاء والمجتمع. يجب أن يُعاد النظر في مفهوم العدالة باعتبارها خدمة عامة لا امتيازًا. فإذا كانت الدولة توفر التعليم والصحة للجميع، فمن باب أولى أن تضمن وصول العدالة بنفس السهولة والكرامة.

ينبغي أيضًا أن تتأسس إدارة العدالة على مبدأ التناسب بين السلطة والمسؤولية. فاستقلال القاضي لا يعني تحرّره من الرقابة، بل تحصينه من التدخلات مقابل التزامه بأعلى درجات المهنية والانضباط. العدالة لا تُقاس بعدد القوانين، بل بنوعية من يطبّقها. وحين يفقد الجهاز القضائي حسّ الرقابة الذاتية، يضيع الفارق بين الخطأ البشري والتقصير المهني.

ومن المؤسف أن بعض الأنظمة القضائية ما زالت تتعامل مع المتقاضي كمتهم قبل أن يُثبت حقه، فتجعل من الإجراءات عقوبة مسبقة. هنا يتجلّى الخلل في فلسفة التقاضي نفسها. العدالة لا تُمارَس بسلطة اليد العليا، بل بطمأنينة القلب المتجرّد من الأهواء.

إصلاح القضاء يبدأ من الداخل، من إدراك القاضي أنه موظف عام يؤدي خدمة للمجتمع، وأن سلطته لا تكتسب شرعيتها إلا من عدالته ونزاهته. فحين تتسع المسافة بين القاضي والمتقاضي، تضيق مساحة الثقة، وحين تغيب الثقة تضيع العدالة، حتى لو بقي القانون حاضرًا.

كذلك فإن الرقمنة القضائية أصبحت ضرورة لا خيارًا. فالمحاكم التي لا تزال تعتمد الورق والانتظار اليدوي تستهلك وقت القضاة والمتقاضين معًا. يجب أن تُستثمر التكنولوجيا في تحديد المواعيد، وتوثيق الحضور إلكترونيًا، وتسهيل الاطلاع على القضايا، حتى تصبح العدالة أكثر شفافية وأقل بيروقراطية.

ولا يمكن الحديث عن إصلاح القضاء دون الحديث عن تكوين القاضي نفسه. فالقاضي ليس حافظًا للنصوص فقط، بل صاحب ضمير قانوني وإنساني. برامج التدريب، والتأهيل، والمراجعة المستمرة لأداء القضاة، يجب أن تكون جزءًا من منظومة التطوير، لأن العدالة الحقيقية تبدأ من وعي القاضي بأنه خادم للحق لا سيد عليه.

إن إصلاح القضاء ليس معركة ضد أحد، بل معركة من أجل الجميع. إنه مشروع إنساني يهدف إلى إعادة الثقة بين المواطن والمؤسسة القضائية. فالقضاء القوي لا يعني القاضي الصارم فقط، بل الجهاز الذي يشعر الناس بأنه ملاذهم لا خصمهم.

العدالة، في نهاية المطاف، ليست نصًا في قانون ولا قرارًا من محكمة، بل سلوك يومي وإحساس بالمسؤولية. القاضي الذي يحترم مواعيده، ويسمع للناس بإنصاف، ويبت في قضاياهم دون تأخير أو تمييز، هو المشرّع الحقيقي للثقة العامة. أما القضاء الذي يرهق المتقاضين، ويغلق أبوابه برسوم باهظة وتأجيلات متكررة، فإنه يرهق نفسه قبل أن يُرهق الناس.

إن الإصلاح المطلوب ليس ثورة على القضاء، بل ثورة في القضاء. إصلاح يبدأ من الداخل: من قواعد الإدارة والتنظيم والانضباط والشفافية. فالمؤسسة التي تُحاسب غيرها يجب أن تكون الأقدر على محاسبة نفسها. العدالة لا تحتاج إلى صخب، بل إلى ضمير يقظ، وميزان لا يختلّ، وزمنٍ يحترم قيمة الإنسان.

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن للعدالة أن تُنصف نفسها؟
الجواب بسيط بقدر ما هو عميق: نعم، إذا احترمت وقت الناس، وخفّفت أعباءهم، وفتحت أبوابها للجميع. فحينها فقط، تستعيد العدالة معناها، ويصبح القضاء بيت الحق، لا ممر الانتظار.



#فاروق_محمد_الشاوي (هاشتاغ)       Farouk_M._El-shawy#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نقاش حول مقال -عثرات على طريق الدولة- للكاتب فهد الشقيران
- خطة نتنياهو الوحشية في غزة: مجازفة بمستقبل إسرائيل للكاتب: س ...
- تجريم التضامن: قراءة نقدية في مقالة جورج مونبيوت حول فلسطين ...
- قراءة نقدية في مقال “لماذا تعادي أميركا الصين بهذه الشراسة؟” ...
- بين شرارة والسؤال المفتوح: ماذا لو لم تكن الحرب قدَرًا؟
- الهويات الهجينة: أدوات النفوذ الجغرافي في مناطق التماس الثقا ...
- جغرافيا غير مرئية: كيف تتحرك القوى الكبرى عبر الاقتصاد والهو ...
- رصد الأبعاد غير المرئية في العلاقات الدولية: السلطة الناعمة ...
- تشويه العدالة أم إعادة تعريفها؟ قراءة نقدية في مقال ديفيد فر ...
- الذكاء الاصطناعي والمراقبة في البحر الأحمر: أداة خفية لإعادة ...
- الرمزية الدينية في البحر الأحمر: صراع النفوذ بوسائل غير مرئي ...
- تكفير المخالف وتأبيد الاختلاف: قراءة في ضوء النصوص القرآنية ...
- جهنم كأداة ردع رمزي: إعادة تأويل مفهوم العقاب في العقيدة الإ ...
- تحديات العدالة الاجتماعية واستراتيجيات المواجهة
- جدل الحرية


المزيد.....




- إصابة شاب واعتقال آخر في قباطية
- النيابة العامة في بنغلاديش تطالب بإعدام الشيخة حسينة
- قادة الحركة الأسيرة يعانون من التعذيب والاحتجاز في السجون ال ...
- تونس: الآلاف يتظاهرون للمطالبة بتفكيك مصنع كيميائي
- صحة غزة: جثامين أسرى القطاع أعيدت وعليها آثار تعذيب وحروق
- حماس: مشاهد التعذيب على جثامين الشهداء إبادة جماعية ارتكبها ...
- الاحتلال يمدد اعتقال الطبيب حسام أبو صفية 6 أشهر
- القرار رقم 2758 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة لا يق ...
- الاحتلال يمدد اعتقال الطبيب حسام أبو صفية 6 أشهر
- إدانة استمرار الاعتداءات التي تستهدف مرشحي القوائم الانتخابي ...


المزيد.....

- الوضع الصحي والبيئي لعاملات معامل الطابوق في العراق / رابطة المرأة العراقية
- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - فاروق محمد الشاوي - حين يرهق العدل نفسه: دعوة لإصلاح القضاء