جابر احمد
الحوار المتمدن-العدد: 8496 - 2025 / 10 / 15 - 18:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
منذ أيام طفولتي وأوائل شبابي، كانت فلسطين تسكنني كما يسكن الإيمانُ قلب المؤمن. لم تكن يومًا خبرًا عابرًا في نشرات الأخبار، ولا حكايةً عابرةً تُروى في المجالس، بل كانت وما زالت جزءًا من تكويني الإنساني والسياسي، نبضًا لا يغيب وإن غابت الأصوات.
ومع مرور السنين، وتوغّلي في دروب النضال، ازداد هذا الانتماء عمقًا. فحين وجدت نفسي ناشطًا أهوازيًا ووطنيًا معارضًا لنظام الشاه، ومنتميًا إلى الجبهة الشعبية لتحرير الأحواز (1968 – 1979)، شاءت الأقدار أن أقترب أكثر من القضية الفلسطينية، لا كشعار، بل كعقيدةٍ نضاليةٍ جامعة.
وأثناء سبعينيات القرن الماضي، تعرّفت إلى قادتها الكبار: من أمثال جورج حبش، ونايف حواتمة، وأبو علي مصطفى، وبسام أبو شريف، وخليل الوزير، وسمير غوشة، والمناضلة الفلسطينية ليلى خالد، أولئك الذين جمعوا بين الفكر والسلاح، بين الحلم والواجب. لم يكن لقائي بهم عابرًا، بل التزامًا حقيقيًا بمصيرٍ مشترك، وموقفًا من أجل الحرية أينما كانت. ومن خلال عملي في مركز الدراسات الفلسطينية، غصت أكثر في عمق الجرح الفلسطيني، ووعيت حجم المأساة التي يعيشها هذا الشعب الصامد.
ثم جاءت التجربة الشخصية لتجعل القضية أكثر قربًا من قلبي، حين ربطتني الحياة بسيدةٍ فلسطينيةٍ ذاقت مع أسرتها مرارة النزوح. منذ ذلك الحين، لم تعد فلسطين قضية أتابعها، بل صارت بيتًا يسكنني ووجعًا لا ينطفئ.
واليوم، وأنا أرى الأسرى يخرجون من عتمة الزنازين إلى نور الحرية، انتابني طوفانٌ من المشاعر جعلني أنفجر بالبكاء. دموعٌ انهمرت بلا إذن، خليطٌ من فرحٍ وفخرٍ ووجعٍ دفين. إنها لحظة نادرة، تجمع النور والظلام في آنٍ واحد.
هو يوم فرح، نعم، لكنه فرحٌ مثقّل بالثمن. جاء بعد سنين طويلة من العذاب، وبعد حربٍ أكلت الأخضر واليابس، وأزهقت أرواح الأبرياء. نفرح، لكن بحذر، لأن من نحتفي بهم خرجوا من خلف القضبان، فيما آخرون ما زالوا هناك، أو ممن استشهدوا دون أن يلتقوا بأحبتهم وهم يخرجون من ظلام السجون إلى شمس الحرية.
وبحكم عملي كناشط في منظمة حقوق الإنسان الأهوازية، لا يسعني إلا أن أستمد الأمل من هذه اللحظة، أملٌ بأن أرى أبناء شعبي في الأهواز وهم يخرجون يومًا ما من سجون القهر والذل، كما خرج اليوم أسرى فلسطين من ظلام الزنازين إلى أجواء الحرية.
أبارك من أعماق القلب لكل أسيرٍ نال حريته، ولكل أمٍّ احتضنت ابنها بعد غيابٍ طويل، ولكل أسرةٍ انتظرت دهورًا ثم أشرقت شمسها.
إن الأسرى هم القلب النابض لكل قضية، وهم مرآة الصمود، وهم العنوان الأبقى لإرادة شعبٍ لا ينكسر.
ولئن كانت هذه الصفقة خطوةً نحو كسر القيد، فإن القيود لم تُكسر كلها بعد. فما زال آلاف الأسرى الفلسطينيين يقبعون في السجون، وهم ينتظرون أن يُنصفهم شرفاء العالم، وينتصروا لهم ولعدالة قضيتهم، ويُطلق سراحهم على أمل تحقيق ذلك.
#جابر_احمد (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟