|
طوفان الأقصى الأقصى 737 - الهدنة الغامضة في غزة: حين تتحول اللغة إلى ميدان حرب
زياد الزبيدي
الحوار المتمدن-العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 21:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
ترجمة وتحليل د. زياد الزبيدي
13 أكتوبر 2025
من قرار مجلس الأمن 242 إلى البند السري في هدنة غزة
في السياسة، كما في الحرب، لا تُطلق النار فقط من فوهات البنادق، بل أيضًا من حروف الكلمات. ومن يقرأ تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، يُدرك أن أخطر الأسلحة لم تكن دائمًا الصواريخ أو الدبابات، بل الألفاظ التي تُزرع في نصوص الإتفاقات، فتفجّر لاحقا صراعات جديدة تحت عباءة القانون.
اليوم، ومع الجدل حول “البند السري” المزعوم في إتفاق الهدنة بين إسرائيل وحركة حماس، يتكرّر المشهد ذاته الذي رافق قرار مجلس الأمن رقم 242 وإتفاقات أوسلو. فاللغة هنا ليست وسيطًا محايدًا، بل أداة هندسة سياسية، تُصاغ بها الهزيمة على شكل “تفاهم”، ويُدار بها الإحتلال بلسان القانون الدولي.
1. البند الذي قد يشعل الحرب من جديد
في تقريرٍ موسّع نشره الصحفي قسّام معدّي في موقع Mondoweiss (10 أكتوبر 2025)، كشف عن وجود “ملحقٍ غامض” في إتفاق وقف إطلاق النار الأخير، يُتيح لإسرائيل إستئناف العمليات العسكرية إذا لم تحدد حماس مكان جميع الأسرى الإسرائيليين خلال 72 ساعة من بدء تنفيذ الإتفاق. التقرير أشار إلى أن قناة “كان” الإسرائيلية كانت أول من تحدث عن “ملحق ب” في النسخة العبرية من الإتفاق، يتضمن عبارة مبهمة حول “ظروف إستثنائية تتيح الرد العسكري”.
وليد العمري، مدير مكتب الجزيرة في فلسطين، أكّد في بثٍ مباشر أن “الملحق غير المعلن” ورد فعلًا في المادة الثانية الخاصة بالأسرى، وأن صياغته تسمح لإسرائيل بإعادة القتال “دفاعًا عن أمنها القومي” – العبارة التي كانت دائمًا المفتاح القانوني لتبرير كل عدوان جديد. “الملحق ليس مجرد بند قانوني، بل رخصة مستقبلية لإعادة إشعال الحرب”،كتب قسّام معدّي، في Mondoweiss.
حماس سارعت إلى نفي وجود أي بنود سرية، معتبرة الأمر محاولةً لزرع الشك في الشارع الفلسطيني. لكن تصريح القيادي أسامة حمدان بأن “العثور على الأسرى يتطلب وقتًا ميدانيًا أطول من المهلة المحددة” منح المعلومة وجهاً واقعيًا. أما واشنطن، التي صاغت الهدنة ضمن ما سمّاه ترامب “خطة النقاط العشرين”، فقد تركت النصوص حمالة أوجه كعادتها، لتضمن مرونة في التفسير متى إحتاجت تل أبيب إلى غطاء سياسي.
هكذا، تحوّلت هدنةٌ وُصفت بأنها “بداية السلام” إلى إحتمالٍ دائمٍ لإستئناف الحرب.
2. من «الخوازيق اللغوية» إلى هندسة النصوص
ليست هذه المرة الأولى التي تُخفي فيها إسرائيل نواياها خلف ضباب اللغة. فالتاريخ الدبلوماسي مليء بما يسميه الكاتب عزمي بشارة “الخوازيق اللغوية” – تلك العبارات التي تبدو بريئة لكنها تحمل في طيّاتها فخاخ التأويل.
خذ مثلًا قرار مجلس الأمن رقم 242 لعام 1967، الذي صيغ بعد حرب حزيران. تنص النسخة الإنجليزية على: “withdrawal of Israeli armed forces from territories occupied in the recent conflict.” أي “إنسحاب القوات الإسرائيلية من أراضٍ إحتلتها في النزاع الأخير”، دون أداة التعريف the. أما لو كُتبت العبارة “from the territories”، لكان المعنى الإنسحاب الكامل من جميع الأراضي المحتلة.
هذا الفارق اللغوي البسيط فتح الباب أمام تلاعبٍ إستمر عقودًا. فالعرب رأوا أن القرار يُلزم إسرائيل بالإنسحاب الكامل، بينما فسّرته تل أبيب، ووراءها بريطانيا والولايات المتحدة، على أنه إنسحاب جزئي مقابل سلامٍ شامل. الباحث الفلسطيني أنيس القاسم وصف النص بأنه “نموذج للغموض المقصود”، إذ لم يكن الخطأ في الترجمة بل “خطة تفاوضية تضمن لإسرائيل حقّ التأويل إلى الأبد”.
3. أوسلو… حين يُعاد إحتلال اللغة
تكرّر السيناريو ذاته في إتفاقات أوسلو (1993). فقد أستُبدلت عبارة “الإنسحاب الكامل” بمصطلح “إعادة إنتشار القوات الإسرائيلية”، وهو تعديل لغوي بسيط لكنه غيّر المضمون القانوني جذريًا. فالإنسحاب الكامل يعني إنهاء الإحتلال، أما إعادة الإنتشار فتعني ببساطة إعادة تموضعه.
وقد علّق الصحفي البريطاني جون بيلغر على هذا النوع من الصياغات قائلًا: “إنها سلامات مؤقتة تُدار بالمفردات أكثر مما تُدار بالنيات.”
حتى قرارات الأمم المتحدة الحديثة تمارس اللعبة نفسها. فعندما تدعو إلى “وقف فوري للأعمال العدائية” (immediate cessation of hostilities) دون أن تقول “وقف دائم لإطلاق النار” (permanent ceasefire)، فهي تمنح الإحتلال شرعيةً للعودة إلى القصف متى شاء، تحت شعار الدفاع الذاتي.
4. من قرار 242 إلى غزة 2025: اللغة كخندق سياسي
من يقرأ نصوص هدنة غزة الأخيرة، كما حلّلها معدّي، سيجد أن الغموض ليس عيبًا في الترجمة، بل جزءًا من الإستراتيجية الإسرائيلية. فالعبارات المبهمة، مثل “إعادة الإنتشار”، و“الرد المشروع”، و“التفاهمات الأمنية الخاصة”، تشبه إلى حدٍّ بعيد تلك التي أستُخدمت في 1967 و1993. كلها تمنح الإحتلال مساحةً لتفسير الإتفاق وفق مصلحته، وتُقيد الطرف الفلسطيني داخل لغةٍ كتبها خصمه.
يقول إدوارد سعيد في كتابه Peace and Its Discontents (1995): “اللغة هي ميدان الإحتلال الأول. من يملك حق صياغة النص، يملك حق تعريف الحقيقة.”
وهذا بالضبط ما يحدث اليوم: فإسرائيل تكتب الهدنة بلغةٍ قانونية مرنة، ثم تُترجمها واشنطن بلغةٍ دبلوماسية ناعمة، ليجد الفلسطيني نفسه داخل نصٍّ صيغ ضده منذ البداية.
5. هدنةٌ على مقاس الحرب
المشهد الإنساني في غزة بعد الهدنة يختصر المأساة كلها: مئات آلاف العائدين إلى أنقاض بيوتهم، نصف القطاع ما يزال تحت سيطرة جيش الإحتلال، والنصف الآخر ينتظر البند الذي قد يُعيد القصف في أي لحظة. يكتب معدّي أن “الهدنة التي يفترض أن تُنهي الحرب، صيغت بلغة تسمح بإستمرارها.” أما في صحيفة “هآرتس”، فكتب أحد المعلقين الإسرائيليين ساخرًا: “نوقّع الهدنات كما نوقّع عقود الإيجار… مع حق التراجع متى شئنا.”
هكذا، تُدار الحروب الحديثة: لا بالحسم العسكري فقط، بل بالصياغة التي تُبقي الباب مفتوحًا للحرب القادمة. كل جملةٍ غير محددة، وكل مصطلحٍ رمادي، هو لغمٌ لغوي ينتظر لحظة الإنفجار.
6. الدرس الأخير: احذر الكلمة قبل البند
ما ينبغي أن يدركه المفاوض الفلسطيني والعربي هو أن المعركة تبدأ من الورقة قبل الميدان. الإحتلال، كما يقول إدوارد سعيد، لا يحتاج إلى جيش دائم ما دام يملك حقّ تفسير البنود. والكلمة التي تُترك غامضة في قاعة التفاوض، تتحوّل إلى صاروخٍ بعد سنوات.
من قرار 242 إلى أوسلو، ومن هدنة 2025 إلى “البند السري”، تتكرر القاعدة ذاتها: "الكلمة الصغيرة هي التي تُقرر إن كان الاتفاق بداية سلام… أم بداية حرب جديدة".
*****
المراجع
1) قسّام معدّي، Mondoweiss ، 10 أكتوبر 2025: “البند السري في اتفاق غزة”. "The Israeli media is reporting on a ‘secret clause’ in the Gaza ceasefire deal that no one is talking about"
2) اتفاق غزة يحتوي على "ملحق سري" لمواجهة "شيطان التفاصيل".. مخاوف جدية من فشل المرحلة الثانية 10.10.2025 موقع قناة RT بالعربية
3) أنيس القاسم، مجلة الدراسات الفلسطينية، بيروت، 1988.
4) عزمي بشارة، في المسألة الفلسطينية، الدوحة، 2013.
5) إدوارد سعيد، Peace and Its Discontents، نيويورك، 1995.
6) جون بيلغر، Freedom Next Time، لندن، 2006.
7) صحيفتا هآرتس وكان، تغطيات أكتوبر 2025 حول “الملحق ب” في اتفاق الهدنة.
***** هوامش
1) Mondoweiss هو موقع إخباري وتحليلي أميركي مستقل تأسس عام 2006 على يد الصحفي فيليب فايس، يركّز على قضايا الشرق الأوسط، خصوصًا السياسات الأميركية والإسرائيلية والفلسطينية، من منظور نقدي لهيمنة الرواية الصهيونية في الإعلام الغربي، ويُعد من أبرز المنصات التقدمية المؤيدة للحقوق الفلسطينية. 2) قسّام معدّي (Qassam Muaddi) هو صحفي فلسطيني يعمل مراسلًا ومحللًا سياسيًا في موقع Mondoweiss وعدة منصات دولية مثل Middle East Eye وThe New Arab. يركّز في تغطيته على السياسة الفلسطينية الداخلية، والعلاقات الإسرائيلية–الأميركية، وتأثير الإعلام في الصراع، ويُعرف بأسلوبه التحليلي النقدي القريب من لغة التقارير الميدانية.
#زياد_الزبيدي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طوفان الأقصى 736 - السابع من أكتوبر... اليوم الذي أعاد تشكيل
...
-
طوفان الأقصى 735 - حين يطلب الجلاد التعاطف: قراءة في خطاب كي
...
-
طوفان الأقصى 734 - هل الطريق إلى نوبل يمر عبر تل أبيب أو مقر
...
-
طوفان الأقصى 733 - مؤشرات إقتراب الهجوم على إيران
-
طوفان الأقصى 732 - اللوبي الإسرائيلي يفقد سحره في واشنطن: رس
...
-
طوفان الأقصى 731 - جردة حساب بعد عامين من حرب الإبادة - الأز
...
-
حين خُدع غورباتشوف: كيف كانت «وحدة ألمانيا» فخًّا إستراتيجيا
...
-
طوفان الأقصى 730 - حين يتكلم الضمير الأمريكي: ساكس وميرشايمر
...
-
طوفان الأقصى 729 - خطة ترامب للسلام في غزة - ورؤى روسية متبا
...
-
حين بيعت جمهورية بثمن ساندويش فلافل
-
طوفان الأقصى 728 - خطة ترامب لغزة: بين الوهم والواقعية... هل
...
-
طوفان الأقصى 727 - من غزو العراق إلى غزة: كيف يعود -كلب بوش
...
-
طوفان الأقصى 726 - خطة ترامب للسلام في غزة – بين تجديد الصرا
...
-
طوفان الأقصى 725 - ترامب بين النرجسية والخطر النووي - جدل حو
...
-
طوفان الأقصى 724 - إسرائيل على حافة العزلة الدولية: نحو نموذ
...
-
طوفان الأقصى 723 - آفي شلايم: المؤرخ الذي تخلّى عن الصهيونية
...
-
طوفان الأقصى 722 - إيران–العراق: الحرب العبثية
-
طوفان الأقصى 721 - نتنياهو يحرق آخر أوراق إسرائيل
-
طوفان الأقصى 720 - إسرائيل بين إسبرطة وقرطاج: من حصن إلى مقب
...
-
طوفان الأقصى 719 - الإعتراف الغربي بفلسطين: وردة في اليد وخن
...
المزيد.....
-
لبنان يعدّ شكوى أمام مجلس الأمن بعد التصعيد الإسرائيلي.. فهل
...
-
غزة بعد الاتفاق مباشر.. الأمن يسيطر على مليشيا عميلة للاحتلا
...
-
إغلاق صناديق الاقتراع في الكاميرون وبيا الأوفر حظا لولاية ثا
...
-
مظاهرة في سراييفو تطالب بدعم الفلسطينيين وقطع العلاقات مع إس
...
-
ترامب في شرم الشيخ: توقيع تاريخي وقمة دولية لإنهاء حرب غزة
-
هل تتعارض العدالة الانتقالية مع السلم الأهلي في سوريا؟
-
عاجل | ترامب: الحرب انتهت ووقف إطلاق النار سيصمد
-
كارثة قيس سعيد في تونس
-
ملفات غزة العالقة تهدد المرحلة الثانية من خطة ترامب
-
اشتباكات في غزة بين -حماس- وعدد من العائلات الفلسطينية
المزيد.....
-
شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان
...
/ غيفارا معو
-
حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
التاريخ يكتبنا بسبابته
/ د. خالد زغريت
-
جسد الطوائف
/ رانية مرجية
-
الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025
/ كمال الموسوي
-
الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة
/ د. خالد زغريت
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
المزيد.....
|