محمد حجازي البرديني
الحوار المتمدن-العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 10:19
المحور:
قضايا ثقافية
دور الرواية العربية في إعادة تشكيل الواقع بطريقةٍ إصلاحيةٍ أفضل.
دراسة نقدية تحليلية تطبيقية وفق المنهج النفسي، الاجتماعي، الثقافي الإصلاحي.
الناقد: محمد حجازي البرديني.
المقدمة.
لم يعد الأدب العربي، في زمن التحديات والتحوّلات، مجرّد وعاءٍ لغويٍّ تتدفّق فيه الأحلام والخيالات، بل غدا مشروعًا إصلاحيًّا يطمح إلى إعادة تشكيل الوعي الجمعي العربي، وإصلاح ما فسد في البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية.
إنّ الرواية العربية – بخاصةٍ – هي الفنّ الأكثر قدرةً على تشخيص العطب، واستنهاض الوعي، واقتراح البدائل، لأنها تجمع بين البعد النفسي والبعد الاجتماعي والبعد الثقافي في نسيجٍ سرديٍّ قادرٍ على تصوير الإنسان في علاقته بالعالم، وتقديم الحلول لا في صورة الوعظ المباشر، بل عبر الفنّ، الرموز، والمفارقات.
وعليه، تنطلق هذه الدراسة من سؤالٍ محوريٍّ جامع:
كيف يمكن للرواية العربية أن تُعيد تشكيل الواقع بطريقةٍ إصلاحيةٍ أفضل؟
ومن هذا السؤال تتفرّع فرضياتٌ متعدّدة تؤكد أن الرواية ليست فقط مرآة المجتمع، بل هي أيضًا معول بناءٍ وإصلاح، وأنّ كل نصٍّ روائيٍّ جادٍّ يحمل في طياته مشروعًا معرفيًّا نقديًّا يطمح إلى تحويل القارئ من متلقٍ سلبيٍّ إلى إنسانٍ فاعلٍ في تغيير مصيره.
الإطار المنهجي والنظري.
اعتمدت الدراسة المنهج النفسي الاجتماعي الثقافي الإصلاحي لأنّه يرتكز على رؤيةٍ تكامليةٍ للنصّ الأدبي بوصفه كيانًا حيًّا يتفاعل فيه الفرد والمجتمع والثقافة في شبكةٍ متبادلة من التأثير.
البعد النفسي: يُعنى بتحليل الشخصية الروائية في ضوء دوافعها، صراعاتها، وآليات دفاعها الداخلية كما صاغها فرويد ويونغ.
البعد الاجتماعي: يركّز على البنية الطبقية والسياسية التي تحكم العلاقات الإنسانية، كما عند لوكاش وغولدمان.
البعد الثقافي الإصلاحي: ينطلق من تصوّر الأدب كخطابٍ معرفيٍّ قادرٍ على إعادة تشكيل القيم والمفاهيم السائدة، كما في نظريات إدوارد سعيد وباختين.
وبذلك يصبح الأدب العربي، من منظورٍ إصلاحي، مجالًا لـ"تحرير الوعي" من القهر والتقليد والجمود، وتحويله إلى وعيٍ نقديٍّ يملك القدرة على المبادرة والفعل.
أولاً: الرواية العربية كمرآة نقدية ومشرطٍ إصلاحي.
- نجيب محفوظ: من نقد الواقع إلى إعادة هندسة الإنسان
في رواية اللص والكلاب (1961)، يُقدّم نجيب محفوظ نموذجًا لتحوّل البطل من ضحية إلى رمزٍ للتمرّد والإصلاح. فشخصية سعيد مهران لا تبحث عن الانتقام بقدر ما تبحث عن استعادة المعنى الأخلاقي في عالمٍ غابت فيه العدالة.
"يا ليتني أستطيع أن أبدأ من جديد، ولكن في أي طريق؟" (محفوظ، 45).
من خلال التحليل النفسي، يمكن قراءة سعيد مهران بوصفه تمثيلًا لاضطراب الوعي الجمعي العربي بعد سقوط الثورات في الاستبداد.
هنا يتجلى محفوظ كمصلحٍ اجتماعيٍّ يستخدم السرد ليعيد طرح السؤال الأخلاقي حول معنى العدالة، ويقترح أن الإصلاح يبدأ من إصلاح الذات قبل إصلاح النظام.
مقارنة:
إذا قارنّا سعيد مهران بشخصية سعيد العكش في رواية شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف (1975)، وجدنا أن كلا البطلين يصطدم بجدار السلطة، غير أن محفوظ يعالج الأزمة من الداخل النفسي، بينما يعالجها منيف من الخارج السياسي، ليحوّل الرواية إلى بيانٍ ضد القهر. وكلاهما ينتمي إلى خطابٍ إصلاحيٍّ يجعل الرواية أداة وعيٍ لا أداة تسلية.
ثانياً: الرواية كمنبرٍ للمراجعة الحضارية وإصلاح الوعي الثقافي.
- الطيب صالح: الإنسان العربي بين الأصالة والحداثة
في رواية موسم الهجرة إلى الشمال (1966)، يصوّر الطيب صالح مأزق الهوية في مواجهة الغرب من خلال شخصية مصطفى سعيد الذي يتنقل بين فضاءين متناقضين: السودان وإنجلترا، الشرق والغرب.
"كنت كمن يبحث عن وجهه في الماء، فإذا بالماء يبتلع وجهه" (صالح، 103).
إنّ الرواية تُقدّم تجربة اغترابٍ ثقافيٍّ مزدوجٍ، وتكشف كيف يمكن للوعي العربي أن ينهض فقط حين يصالح ذاته ولا يستنسخ الآخر. وهنا تتجسد الفكرة الإصلاحية الكبرى: أن الإصلاح الثقافي يبدأ من المصالحة مع الذات الحضارية.
مقارنة:
يقابل هذا الاغتراب الحضاري ما نراه في رواية الحي اللاتيني لسهيل إدريس (1953)، حيث يعيش البطل العربي في باريس تجربة الانبهار والانكسار ذاتها. غير أنّ صالح يقدّم معالجةً أكثر نضجًا، تجعل من الحوار الحضاري طريقًا للإصلاح، بينما يظل إدريس أسير خطابٍ وطنيٍّ مثاليٍّ أكثر منه نقديٍّ واقعي.
ثالثاً: الرواية كصوتٍ للمقهورين وإعادة بناء الكرامة الإنسانية.
- غسان كنفاني: الوعي الجمعي بوصفه فعلًا إصلاحيًا
في رجال في الشمس (1963)، تُختزل المأساة الفلسطينية في سؤالٍ واحدٍ صارخ:
"لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟" (كنفاني، 89).
هذا السؤال ليس مجرّد عتابٍ رمزيٍّ، بل صرخة إصلاحٍ في وجه الصمت العربي.
تعمل الرواية وفق المنهج النفسي الاجتماعي على تحويل القهر إلى وعيٍ بالمسؤولية، وتحريض القارئ على الفعل بدل الانتظار. وهكذا تتحول الرواية من سردٍ للكارثة إلى أداةٍ للتنوير والتحريض والتغيير.
مقارنة:
إذا قارنّا هذا العمل برواية عودة إلى حيفا (1970) لذات الكاتب، نجد تطورًا من وعيٍ بالهزيمة إلى وعيٍ بالفعل؛ ففي الأولى الدعوة إلى الصراخ، وفي الثانية الدعوة إلى العودة والمواجهة. وهذا يؤكد أن الرواية الفلسطينية عند كنفاني هي مشروع إصلاحيٌّ يتدرج من الوعي إلى الفعل.
رابعاً: الرواية النسوية كفضاءٍ لإصلاح البنى الفكرية والاجتماعية.
- أحلام مستغانمي: إصلاح الوعي الأنثوي والعلاقة بالوطن
في ذاكرة الجسد (1993)، تُعيد مستغانمي تعريف العلاقة بين الجسد والوطن، بين الأنثى والتاريخ، لتكشف أن التحرر الوطني لا يكتمل دون تحررٍ اجتماعيٍّ وثقافيٍّ.
"حين يكتب رجل عن الحب فهو يستعيد أنوثة العالم المفقودة" (مستغانمي، 122).
إنّ الرواية تتجاوز خطاب العاطفة لتصبح بيانًا إصلاحيًا حول العدالة الجندرية والوعي الإنساني، وتفضح ما في المجتمع الذكوري من خللٍ يوازي خلله السياسي.
مقارنة:
وإذا قورنت هذه الرواية بـ سيدات القمر لجوكها الحارثي (2010)، التي فازت بجائزة البوكر، فإننا نجد تطوّرًا في الخطاب النسوي العربي من التعبير الفردي إلى الإصلاح الجمعي؛ إذ تعالج الحارثي بنية العبودية والتوارث الطبقي، بينما تطرح مستغانمي إصلاح الوعي عبر العاطفة والذاكرة.
خامساً: الرواية العربية الحديثة كحقل تجريبي لإعادة تشكيل الوعي الإصلاحي.
- إبراهيم الكوني: إصلاح العلاقة بين الإنسان والوجود
في رواياته الصحراوية، مثل نزيف الحجر (1990)، يصوغ الكوني خطابًا إصلاحيًا كونيًا، يجعل من البيئة مرآةً للأخلاق ومن الصحراء مختبرًا للروح.
"الصحراء لا تُعلّم الصمت، بل تُعلّم الإصغاء إلى ما وراء الصمت" (الكوني، 64).
إنّ الكوني يعيد تعريف الإصلاح بوصفه عودةً إلى النقاء الأول، إلى الحوار مع الطبيعة والروح، وهو ما يجعل مشروعه الأخلاقي متجاوزًا للحدود الاجتماعية والسياسية إلى أفقٍ إنسانيٍّ شامل.
مقارنة:
ويوازيه في هذا المسار عبد الرحمن منيف في خماسيته مدن الملح (1984–1989)، إذ يُصلح العلاقة بين الإنسان والحداثة المادية، كاشفًا كيف أدّى النفط إلى اغتراب الإنسان العربي عن بيئته وقيمه.
كلا الكوني ومنيف يوظفان الرواية لإعادة بناء علاقة الإنسان بالمكان والزمان والتاريخ، مما يجعل الرواية أداة إصلاحٍ بيئيٍّ وإنسانيٍّ في آنٍ معًا.
سادساً: ملامح مشتركة في الخطاب الإصلاحي الروائي العربي.
يمكن تلخيص نقاط الالتقاء بين هذه النماذج الروائية ضمن خمسة أبعاد رئيسة:
الإصلاح النفسي:
عبر كشف القهر الداخلي وتحليل الصراع بين الذات والسلطة، كما في محفوظ وكنفاني.
الإصلاح الاجتماعي:
من خلال نقد الطبقية والفساد والتهميش، كما في منيف وإدريس.
الإصلاح الثقافي:
بإعادة تعريف الهوية والحوار الحضاري، كما في الطيب صالح والكوني.
الإصلاح الجندري:
من خلال مراجعة العلاقة بين الرجل والمرأة والسلطة الأبوية، كما في مستغانمي والحارثي.
الإصلاح الوجودي والبيئي:
في الدعوة إلى انسجام الإنسان مع الطبيعة والكون، كما في أعمال الكوني.
الخاتمة.
تؤكد هذه الدراسة أنّ الرواية العربية ليست فنًّا سرديًّا فحسب، بل هي مختبرٌ للوعي الجمعي ومحرّكٌ للإصلاح الاجتماعي والفكري والنفسي. لقد استطاعت الرواية أن تتحوّل من أداةٍ لتوثيق الواقع إلى وسيلةٍ لإعادة تشكيله؛ من مرآةٍ تُظهر الخلل إلى مشرطٍ يُصلح العطب.
ولعلّ الإصلاح الحقيقي الذي تنادي به الرواية العربية هو إصلاح الإنسان أولًا: وعيه، قيمه، علاقته بالآخر، وبالكون، وبذاته، وبخالقه.
فحين تُصلح الرواية الوعي، تُصبح الكلمات طريقًا نحو خلاصٍ إنسانيٍّ أرحب، وحين يُثمر الأدب وعيًا جديدًا، يصبح هو ذاته مشروعًا حضاريًا للإصلاح.
قائمة المصادر والمراجع (وفق نظام MLA).
- محفوظ، نجيب. اللص والكلاب. القاهرة: دار الشروق، 1961.
- صالح، الطيب. موسم الهجرة إلى الشمال. بيروت: دار العودة، 1966.
- منيف، عبد الرحمن. شرق المتوسط. بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1975.
- منيف، عبد الرحمن. مدن الملح (خماسية). بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1984–1989.
- كنفاني، غسان. رجال في الشمس. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1963.
- كنفاني، غسان. عودة إلى حيفا. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، 1970.
- إدريس، سهيل. الحي اللاتيني. بيروت: دار الآداب، 1953.
- مستغانمي، أحلام. ذاكرة الجسد. بيروت: دار الآداب، 1993.
- الحارثي، جوخة. سيدات القمر. بيروت: دار الآداب، 2010.
الكوني، إبراهيم. نزيف الحجر. بيروت: دار الآداب، 1990.
- اليوسف، عبد الرحمن. المنهج الاجتماعي في النقد العربي الحديث. بيروت: المركز الثقافي العربي، 2002.
- الخولي، عبد الحميد. الرواية العربية والتحولات الاجتماعية. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2014.
Freud, Sigmund. The Creative Writer and Daydreaming. 1908.
Goldmann, Lucien. Pour une sociologie du roman. Paris: Gallimard, 1964.
Said, Edward W. Culture and Imperialism. New York: Vintage Books, 1993.
Bakhtin, Mikhail. The Dialogic Imagination. Austin: University of Texas Press, 1981.
محمد البرديني.
تم استكمال هذه الدراسة بتاريخ الأحد 5 / 1 / 2025 م.
9626537021+
#محمد_حجازي_البرديني (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟