|
شعر الفصحى: ديالكتيك الشكل وماهية الجنس الأدبي -دراسة تطبيقية على نماذج من الشعر العربي المعاصر-
محمد عبدالله الخولي
كاتب/ ناقد/ باحث
(Mohammed Elkhooly)
الحوار المتمدن-العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 18:42
المحور:
الادب والفن
نشرت الدراسة بكتاب المؤتمر السنوي لشعبة شعر الفصحى بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر. وألقيت المحاضرة بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر يوم السبت الموافق ٢٨/12/2024. بالمؤتمر العلمي - السنوي- لشعبة شعر الفصحى بالنقابة العامة لاتحاد كتاب مصر.
المقدمة:
إنّ شعرنا العربي – تاريخيا- تتناوشه مسميات وتقسيمات زمنية متعددة، بداية من تقسيمه لعصور أدبية، بداية من الجاهلي حتى العصر المملوكي، ثم يتجاوز الشعر هذه التقسيمات المعصرنة إلى تقسيمات أخرى تقع بكليتها تحت مسمى المدارس الشعرية، ويبتدئ تاريخ هذه التقسيمات من مدرسة الإحياء والبعث (الباروديّة) والكلاسيكية (الشّوقيّة) إلى الديوان والرومانسية والمهجر وغيرهن من المدارس الشعرية، ومن هنا انتقل التقسيم الزمني/ التاريخي من العصور إلى المدارس، وبعد ذلك تأتي مرحلة أخرى – لم نزل بصددها حتى الآن – وهي مرحلة الأجيال الشعرية، متجاوزين بذلك مرحلة المدارس الشعرية، وبدأ هذا التقسيم من جيل الخمسينيات حتى أجيال الألفية الثالثة بعقودها الثلاثة.
الكلمات المفتاحيّة: الشعر، الأدبي، المعاصر، أدونيس، درويش، الشهاوي، مطر، الشكل، الرؤية.
الشعر واقع من حيث تاريخيته في وطننا العربي تحت سلطة الزمن، وربما نتقبّل هذه الفكرة إذا كان متغياها تحديد الفترات الزمنية والتاريخية التي مرّ بها الشعر في تاريخه ومسيرته الإبداعيّة واللغوية، ولكنّ الشعر واقع في خضم جدلية كبرى، وهي جدلية الرؤية والتشكيل، إذ الشعر وفق ماهيته الجنسانية يتأبّى دائما على فكرة الشكل والقوالب والأطر التي تحد من إبداعيّة هذا الجنس الأدبيّ، فالشعر هو الذي يخلق شكله وقوالبه مهيمنا برؤاه الفكرية والإبداعية على فكرة النظام/ القانون الذي يحاول دائما تهشيم سلطة الإبداع الشعري، بينما يتأبّى الأخير على فكرة النظام دائما. بناء على ما سبق، تنطرح سؤالات بعينها، وهي من الأهميّة بمكان: هل يمكن للنقد أن يضع أطرًا معينة ومحددة لكل عصر من العصور أو مدرسة أدبية من المدارس الشعرية؟ هل يمكن للتاريخ الأدبي أن يحصر أنظمة بعينها من خلالها تتحدد السمات/ التيمات الشعرية لكل جيل من الأجيال الشعرية؟ أظنّ أنّ الإجابة على السؤالين السابقين تضعنا في أزمة نقدية ومعرفية كبيرة، إذ الإبداع هو محك الشعرية، وإن شئت فقل هو البصمة الإبداعيّة المتفردة لكل شاعر على حدة، وإن شئت أن تضع أطرا من خلالها يتحدد عصر بعينه أو مدرسة شعرية، أو جيل من الأجيال – منطقيا – سيكون هذا الأمر بالغ الصعوبة لاختلاف الرؤى الشعرية والمضامين الرئوية بين شاعر وآخر، ناهيك عن اختلاف الأسلوبية اللغوية/ الإبداعية التي ينماز بها شاعر عن آخر. إذن، ومما -لا شك فيه- أنّ التقسيمات التاريخية/ الزمنية للشعر، هي تحديد لحقب زمنية تؤطر لوجود الشعر والشعراء في مرحلة ما، محاولة وضع افتراضيات شبه منظمة بغية أن تضع الشعر في زمن بعينه تحت سقف واحد، مبرزة أهم سماته الفنية والموضوعاتية، ولكن هذه السمات وتلك الأطر تظل دائما محل نظر، لأنها انبنت في أساسها على غير مرتكز حقيقي/ منطقي نؤمن من خلاله بثبات هذه الأطر عند مجموعة من الشعراء في زمن ما. يستعصي هذا الافتراض دائما عندما نتناول نصوصا بعينها في عصر أدبي ما، نظرا لاختلاف الأسلوبية التعبيرية بين الشعراء أنفسهم في هذه الحقبة؛ وبناء عليه، فإن الحصر الزمني/ العصور/ المدارس/ الأجيال هو تحديد لحقب زمنية دون الغوص في مفهوم الشعر نفسه لدى الشعراء في مختلف العصور، ولا يتوهم بعضنا أن مفهوم الشعر – بوصفه جنسا أدبيا- ثابت ومستقر، فالمفهوم الشعري يتسع ويمتد ويتعقّد بتعقد الذات الإنسانية نفسها، واختلاف المفهوم الشعري لدى الشعراء في كل عصر من العصور، هو المحرك الأساس لعملية البناء الشعري، بوصف البنية نظاما لغويا يحمل مكنونات الذات مصطبغا بصبغة عصره وموضوعاته التي تشغله، ومن هنا نستطيع القول: أن الشعر في حركته خارج عن سلطة الزمن مرتهن برؤية الذات للعالم، منفتح على فضاءات لم يعهدها في أزمنة أخرى. ينصاع الشعر في عموميته إلى التجربة الإنسانية بمستوييها: العام، والخاص، إذ التجربة الإنسانية هي المحك الأخطر في عملية الإنتاج الشعري، ولذا يتجه الشعر دائما بحركة مضادة تجاه الشكل، فالعلاقة بين الشكل والمضمون الشعريين علاقة هدم وبناء، فالذات الشاعرة في حالة تمرد دائم على القوالب الفنية التقليدية، وهذا التمرد يعود إلى طبيعة الشعر والذات الإنسانية على حد سواء، فهما في حالة تحول دائم "وهذه التحولات تحتاج في رصدها إلى طاقة نقدية تتسلّط عليها بوصفها منطقة اختبار للكشف عن التوافق والتخالف بين مفهوم التجربة والإجراء التطبيقي لها." وعليه، فإنّ القوالب ذاتها متعددة ومتنوعة في كل حقبة زمنية بعينها، ويتضح هذا جليا عند عقد المقارنات/ الموازنات بين شاعرين، ويكفيك أن تستدعي كتاب: "الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري" لـ (الآمدي) واعتماد الأخير على مفهوم "عمود الشعر" في ترجيح كِفَّة البحتري على أبي تمام، حيث تمايز الأول على الأخير بأسلوبيته وتفرده في إنتاجية نصه الشعري، مع انتمائهما لعصر واحد وقبيلة واحدة، ولم يكن هذا ولا ذاك مدعاة لاندماغهما في نسق شعري واحد ومتوافق من حيث البنية والتركيب والمضمون والرؤية. لعلّ فكرة الموازنات نفسها دليل على اختلافية التراكيب الشعرية والرؤى بين شعراء الحقبة الواحدة؛ ولذا نستطيع القول بعد هذا التطواف السريع- أنّ الحقب الزمنية لا تجمع الشعر في نسق واحد مهما تقاربت الأماكن والأزمنة. لا ننكر أن طبيعتي: المكان والزمان تؤثران – وبشكل واضح – في عمليّة الإنتاج الأدبيّ ذاتها، ولا نغفل بأيِّ شكل من الأشكال قانون التأثر والتأثير بماهيات المكان والزمان بأطوارهما المختلفة، ومستوياتهما المتعددة بين ما هو أيديولوجي وسيكولوجي وثقافي وسياسي واجتماعي، إذ كل ما سبق يشكل بنية الذات الإنسانية التي يُعَوّل عليها في عملية الإبداع، إذ تجتمع هذه العوامل قاطبة مشكلة نسقا معرفيا ووجوديا تنفتح عليه الذات الإنسانية فتصطفي لنفسها شكلا وتراكيب وقوالب يَنْصَبُّ فيها نتاجها الأدبيّ، وربما تعمل هذه العوامل على ظهور توجه بعينه أو اصطفاء قوالب مغايرة تستوعب رؤى الذوات الإبداعيّة، التي تطمح دائما إلى التجديد والتغيير، وأظنّ أنّ الفنون جميعها تطمح إلى اختراع وابتكار أشكال تتموسق مع رؤيتها وتطلعاتها الفنية والإنسانيّة. إذن، نحن لا ننكر فاعلية المكان والزمان وتأثيرهما على العمليّة الإبداعيّة، حيث يحمل النص شفرة العوالم المحيطة به كليّة، ولا ينفصل عن زمانه ومكانه بشكل من الأشكال، وتترسب في النص تشكلات لغوية تحمل الطابع المكاني والزماني المُشَكِّل لرؤية الذات، ولكن هذا لا يسمح لنا أن نحكم على حقبة زمانية بعينها، ونحصر شعراءها في نسقيّة بنيوية/ شكليَّة واحدة، أو نفترض رؤى نقدية تجمع شعراء الحقبة الواحدة في معمارية نصية متشابهة ومتشاركة، "ومن هنا يتبيّن لنا أنّ علماء اللغة العربيّة قد تمكنوا في فترة مبكرة، من التفطّن إلى أنّ وظيفة الشاعر في غاية الخطورة. إنها حدث تأسيسيٌّ يستمد صفته تلك من كونه (يقرب البعيد ويبعد القريب) بل إنه يغير نظام الأشياء ويعيد إبداعها." ولن تحدث هذه الإنتاجية بصورة جماعية، ولكن بشكل فرداني محض لا يتداخل مع غيره لا شكلا ولا مضمونا، حتى وإن اتحدت الرؤى في مرتكز موضوعاتي بعينه، أو غرض شعري واحد، دائما وأبدا يقبع الشعر في جدلية الشكل والمضمون. من اللافت للنظر أنّ الشعر وتمرده الدائم على الشكل لا يعني الترك أو الهجران، فبعد أن انسرب الشعر من العمودي إلى التفعيلة ثم النثر، نجد القالب العمودي مهيمنا ومسيطرا إلى الآن على الساحة الأدبيّة، فلم يتخلّ الشعر عن قوالبه التي ربما نصفها أحيانا بالشكل الكلاسيكي القديم، وهذه تسمية غريبة عن طور التلقي المنطقي للشعر بوصفه جنسا أدبيّا، فالقوالب جميعها متاحة، وقابلة للتوسيع، واللغة كذلك، فهناك من الشعراء من ابتدر مسيرته عموديا ثم استراح في روض التفعيلة ردحا من الزمن وانتهت مسيرته بالنثر الذي يستدعي إيقاعات جديدة تتلاءم مع حدود التجربة الإنسانيّة له، كــ (درويش) الذي تعرفنا إليه في البداية شاعرا عموديا، ولعلّه عندما اتسعت تجربته الإنسانية والشعريّة على حد سواء؛ وجد في شعر التفعيلة متسعا لتجربته الإنسانية، التي اقتضت براحا وأفقا مغايرا يستطيع (درويش) من خلاله التعبير عن أفق القضية الفلسطينية من منظور مغاير. لم يكن القالب/ الشكل وحده، هو المشكل الأساس عند (درويش)، ولم يكن كذلك المعيار الذي نحكم من خلاله على شاعرية وتفرد محمود درويش في مسيرته الإبداعيّة، فقد تغير شكل قصيدة التفعيلة على يديه على مستوى البنية والرؤية والشكل والمضمون والإيقاع، وكأنّه أخذ يوسّع في قالب قصيدة التفعيلة حتى صنع له قالبا خاصا يتماشى مع طبيعة تجربته ورؤيته للعالم، فلم يخنع لشكل دون آخر إلا وفق رؤية ومشروع شعري يخصه وحده، "فخطاب محمود درويش الشعري يأخذ صلاحيّة إضافية من كونه خطابا متجددا، وكما يقول درويش نفسه: إنه كان يتحاشى -دائما- الوقوع في أسر الخطوة الأولى، والتمرد على الأشكال القديمة، بالسعي للتجديد المستمر، وتغيير الوجود المتآكل للذات، وتعميق جوهرها الباقي، والخروج من شكل إلى آخر، وليس ذلك عملية قفز تقطع الصلة بين الآني والسابق." وهذا ما وددت الإلماح إليه: أنَّ الانتقال من شكل إلى آخر ليس قطيعة بين التراثي والحداثي، ولكنه التجديد الذي يضمن للذات الإنسانية بقاءها، وهذا ما جعل درويش ينفلت من شعر التفعيلة إلى قصيدة النثر التي رآها في محطة ما تتسق مع حدود تجربته الشعرية. منذ الإرهاصات الأولى للشعر الحر – التي تجلت في قصيدة (الكوليرا) عند نازك الملائكة- والذات الشاعرة تحاول الانفلات من قيد الشكل وتحطيم القيود التقليدية في الشعر العمودي، وتسعى إلى فضاءات أخرى تتعالى على النسق القديم؛ بغية أن تشعر الذات بوجودها وفعاليتها، ولعلّ هذا الخروج كان منطقيا، نظرا لما اعتور الذات الإنسانيّة من مفارقات حياتية وأزمات نفسية وسياسية وعقائدية حدت بالإنسان إلى طرق مغايرة في عملية التعبير الوجداني عن مكنونات هذه النفس وما انتابها من انكسارات في تاريخها الإنسانيّ، ليس هذا وحسب، فالقوالب التقليدية ذاتها تدمر وتهشّم مركزية الوجود الإنساني، ولذا كان الخروج على الشكل القديم مطلبا وجوديا يضمن لهذه الذات بقاءها. الشعر بين حداثية الرؤى وإنتاجية الشكل القديم: من خلال ما سبق يتجلّى لنا، أنّ الشعر لا حدود له، ولا تستطيع قوالب بعينها أن تحتويه، فالشعر يخلق شكله وقالبه وفق رؤاه، فنحن أمام قوالب متعددة، وتراكيب/ أساليب لا متناهية، والخروج الشعري المستمر، لا يعني القطيعة، ولا يعني موت القديم/ التراثي. فإذا وجدنا شعراء ثائرين على النمطية العمودية، وفقا لمنظورهم: أن الشعر (العمودي) لم يعد قادرا على مجابهة العالم، ولا مواكبة تطلعات الذات، فاختاروا من شعر التفعيلة أفقا جديدا مغايرا تنوجد فيه ذواتهم، وهذا لا يعني انفصاما عن الأصل. من ناحية أخرى، نجد شعراء – بداية من الخمسينيات إلى الألفية الثالثة بعقودها الثلاثة- يبدعون بشكل ابتكاريّ وإبداعيّ يصل بنا حدَّ الدهشة على القالب العمودي موسِّعين في أفقه مجددين في قوالبه، ولم يقف الشعر (العمودي) عاجزا أمام تجاربهم الإنسانية والإبداعية إلى اللحظة الراهنة، التي أخط فيها هذا البحث، إذن، نستطيع أن نقول: الشكل لم يكن عائقا ذات يوم، أو حائلا دون الشاعر وتجربته الإنسانية، إنما محك الأمر على الأسلوبية والفرادة الإبداعيّة، واختيار القالب – من وجهة نظر خاصة – هو اختيار يدخل ضمن مقصودية الذات المنتجة للنص الأدبيّ، حيث ارتأت الذات في قالب ما أفقا يتسع لتجربتها وميولها الأسلوبية، ولذا تعد عملية اختيار القالب نتاجا للقصدية الإبداعية. إذن، ليس من المنطقيّ أن نفضّل شكلا على شكل أو قالبا عن قالب، إنما بداية الأمر ومنتهاه في القصدية وأسلوبيّة الإبداع. وفي الوقت ذاته لا نغفل أسبابا بعينها دفعت الشعر دفعا تجاه التحرر من القيود الشكلانية والارتكاز على أنماط شعريّة مختلفة فقد " اعتمدت تجربة الشعر الحر التحول الدائم والتطور المستمر والتغير اللانهائي بحيث يكون التقليب أساسا للمعنى والاختلاف منطلقا للفهم، واللحظة معيارا للزمن. لم يقطع الشعر الحر علاقته بالواقع، ولكنه يبغي واقعا خاصّا به وبخاصة مع الانفجار المعرفي، ولا يعنيه أن يكون عامًّا وإنما ذاتي، لا ينطلق من الواقع وإنما يؤسس لواقع جديد." تنوجد فيه الذات، ويُتَلاحظ هذا الأمر جليًّا عند محمد عفيفي مطر، الذي انطوى على ذاته غارقا في عوالمها السديمية، يستقرئ الحياة/ التاريخ/ الإنسان/ الحضارة/ الوجود، وعبر لغة شعرية متعالية يخلق واقعا مغايرا تتجلى على مراياه الحقيقة التي ينشدها (مطر) فيقول: دمي يفور بالصور تسيل فيه أفرع الشجر توتَّرت زعانفٌ ودوَّم الشرر كواكبٌ تكسّرت وكحَّلت عيون منشدين. دمي يفور بالزجاج والحصى تسيل فيه من قياثر التراب غنوتان أرى افتراق عالمين غير أنني سجين دمي يفرُّ -ضاحكا- من العروق." لعلّ رؤية محمد عفيفي مطر وفلسفته الوجودية منحتا شعره طابعا دراميًّا خاصا، وهو يحكي سيرته الذاتية متماهية مع طمي النيل وتاريخ الحضارة المصرية، فلم يكن أمام مثل هذه التجربة سوى فضاءات الشعر الحر التي تتواءم بطبيعتها مع دراميّة النسق البنيوي لتجربة عفيفي مطر، حيث بنية الشعر العمودي تنغلق على مساحات إيقاعية محددة لا تسمح بمرور مثل هذه التجربة في دهاليز الإيقاع العمودي، الذي تنفرط فيه الغنائية بشكل متلاحظ لا يتسق مع نبرة الحزن الدرامية المتعالية في الخطاب الشعري لمحمد عفيفي مطر. ولم يقف الشاعر عند حدود القالب التفعيلي بأنساقه وإيقاعاته، ولكنه طور من بنية القصيدة التفعيلية بما يتلاءم مع خصوصية الرؤية وواحدية القصد. فلم يكن اختيار عفيفي لأنماطه المعمارية خروجا من أجل الخروج، ولكنها الحاجة التي اضطرته إلى ذلك، وخصوصية التجربة. فالقداسة للشعر وحده، وليست للشكل، ولعلّ الشاعر/ محمد محمد الشهاوي من الذين تبنوا هذه الفكرة، فالشعر لدى الشهاويّ خارجي، يرفض أن ينحبس في شكل بعينه، أو ينحصر في قالب محدد، فالشعر يتأبّى – عند الشهاوي – على التعاريف والأطر النظرية، "فالتعاريف حدود، والشعر مطلق، ومحال أن تحيط الحدود بما هو مطلق"... في الشعر: إن ضاقت عليك بحور الشعر فانطلق إلى محيطاته، فليست بحور الشعر هي كلّ موارده. في الشعر: هناك – في البعيد البعيد- جزائر لم تطأها قدم، وبكارى لم يطمثهن إنس ولا جان، وعرائس مهورهن نوق عصافير دونها سبعة أبحر من: المخاطرة، والمثابرة، والمجاهدة، والمكابدة، والإخلاص، والتفاني، والمرابطة: [تلك سبعة كاملة]. في الشعر: وما أوتيتم من الشعر إلا قليلا. فلم يعتمد الشهاوي شكلا بعينه، وانتصر له دون غيره من الأشكال التي ينسرب فيها الشعر، ولكن الشهاوي انتصر لجوهر الشعر وحقيقته، ولم ينتصف – أبدا – لشكل أو قالب على حساب الآخر، فانساب شعره في قوالب متعددة بداية من القصيدة العمودية حتى قصيدة النثر، فكل ما يشغل الشهاوي هو الجوهر الشعري لا العرض، فالشعر واحد والأشكال متعددة. من صور الخروج اللافتة عند الشهاوي، والتي تبين عن وعيه بالشعر، وتقديسه للمعنى دون غيره، قوله في قصيدة الخارجي: أيها اللوتسيّ الذي لا يحدّ [ته دلالا فأنت أهل لذاكا] واكسر موسيقية بيت ابن الرومي وقل: [ ولي وطن آليت ألا أبيعه... وإن يك غيري له – الدهر – مالكا] حيث زاوج بين وزنين عروضيين وهما: المتقارب، والخفيف، ليس هذا وحسب، ولكنه تعمّد الكسر في بيت ابن الرومي، الذي استقام وزنه على البحر الطويل، ولكن الشطر الثاني عند ابن الرومي، لم يستسغ معناه الشهاوي، ولم يتقبله، حيث يقول ابن الرومي: [ وألا أرى غيري له الدهر مالكا] فمن وجهة نظر الشهاوي أن الوطن مِلْكٌ لا يُملَّك لأحد، ولذا تعمّد الكسر عن قصد ورؤية في مفردة (غيري) على وجه التحديد، وكأنّ الشهاوي يريد أن يقول لنا: أنّ الشعر لا يقيده الشكل ولا القالب ولا نظام الخليل، فالقداسة للشعر وحده" وكأنّ هناك اتفاقا ضمنيا تواطأ عليه الشعراء، أن السلطة المطلقة للشعر دون الشكل. بينما آخرون ينتصفون للشعر الحر بأبعاده المختلفة التي تدعوا أحيانا إلى القطيعة بين الحداثة والتراث مُنْسَلِّينَ من الجذور، ضاربين في الأفق البعيد، مَدَّعين أنّ الشعر الكلاسيكي، تتوجب علينا مجافاته والتغاضي عنه؛ لأنّه لم يعد قادرا على تحمل الرؤى الوجودية للذات بعد هذا الانفتاح الثقافي والمعرفي، وعلى رأس هؤلاء نرى (أدونيس)، والذي يطرح أسئلة من خلالها يفند مصطلح التراث الشعري، فيقول: ينبغي أن نطرح في هذا الصدد أسئلة أكثر تحديدا، ما الذي يوحّد شعريا بين الشنفرى وعروة، وهما موحدان في الصعلكة وفي المرحلة، وفي الوزن والقافيّة؟ إنهما شعريا، عالمان مختلفان. كذلك الأمر في ما تعلق بامرئ القيس وزهير، بطرفة وعمرو بن كلثوم...الخ هكذا أننا نرى ما نسميه بـ (الأصل) الجاهلي (الواحد) إنما هو شعريا كثير وليس واحدا." ولعلّ بعضنا في بداية الأمر – دون استقراء للمشروع الفكري لأدونيس- يفهم أنه يهاجم التراث، ولكنه على العكس تماما، هو يريد أن يقرأ التراث بشكل مغاير، ولا يمنح التراث سلطة عليا من خلالها يصبح التراث نموذجا أعلى في الشعر، فالسلطة الوحيدة هي سلطة الذات وليست سلطة النموذج، لأنك إن فتّشت عن النموذج المثال لن تجده في صورة جمعيّة، ولكن في صورته الفردانية المحضة، ولذا نصرّ على قولنا الذي سقناه في بداية البحث، أن الحقب التاريخية السابقة ليست سلطة من خلالها نركن إلى فكرة النموذج، ولن نستطيع خلق أطر وأنظمة من خلالهما نستخرج التشاركيّة الإبداعيّة لرهط من الشعراء، فكل قصيدة كون استعاري خالص، بل كل استعارة في قصيدة تمثل كونا وحدها، وهذا ما يميل إليه البحث. فلم يكن (أدونيس) داعيا إلى قطيعة مع التراث، ولكنه يرفض سلطته، والغريب في الأمر أنّ الخطاب الشعري لأدونيس في عموميته يستند على فكرة استدعاء التراث في نصه الشعري، فيقول: أمّي همذانية خرجت من أحشاء الكوفة- خدًّا للنسرين وخدًّا لنبات سري وأبي جُعفيٌّ ورث الفقر عن الإيمان الموغل في كشف الديجورْ في الكوفة، في جانبها الشرقيّ سكنّا في حيٍّ كِنديّ سمّاني أحمد زهوا وتفاءل في تلقيبي بــ "أبي الطيب" كنّا." انبنت جمالية النص الأدونيسيّ السابق على فكرة استدعاء التراث وتضفيره بلغة شعرية تتسق مع رؤية أدونيس الفنية والفلسفية، إذن، لا قطيعة بين تراثي وحداثي، ولكنها فكرة الخروج على سلطة الموروث. بينما في ناحية أخرى نجد كوكبة من الشعراء المعاصرين، شيدوا صروحا شعرية تصل إلى حد الإدهاش، تحت مظلة الشعر العمودي، وإن كان بعضهم زاوج في منتجه الشعري بين العمودي والتفعيلة وقصيدة النثر أحيانا، ومنهم على سبيل التمثيل لا الحصر: إيهاب البشبيشي، محمد عبدالوهاب السعيد، مختار عيسى، البيومي محمد عوض، أسامة الخولي، عاطف الجندي، فوزية شاهين، حاتم الأطير، أحمد إمام، روح محمد، جيهان بركات، تقى المرسي، رشا زقيزق، أشرف قاسم، سلمى فايد، عصام بدر، أمير سالم، نورا عثمان، خلود المعصراوي، وسام دراز، محمد المعصراني، ريم أحمد، هاجر عمر، منى رؤوف، محمد كمال أبو عايد، أحمد عايد، بدر البشيهي، عمرو فرج لطيف، عبدالرحمن مقلد، محمد ملوك، محمد دياب غزاوي، محمد عرب صالح، محمد المتيم، الضوي محمد الضوي، محمد منصور الكلحي، محمد الدش، محمود جمعة، هشام محمود، جمال مرسي، أحمد إبراهيم عيد، أحمد منصور، أشرف الشحات، أحمد شلبي، هبة عبدالوهاب، رشا عادل بدر، هبة الفقي، هاني عويد، ضياء فريد... وغيرهم من الشعراء الأفاضل الذين نافحوا عن القصيدة تحت ظلال المعنى، وخلقوا لغة جديدة تنبعث في خطابهم الشعري، الذي يتوزع على العمودي/ التفعيلي/ النثري، ولم يحدهم قالب بعينه، ولم يتحيّزوا لشكل، وإن كانت بعض الأسماء التي ذكرتها مالت منذ البداية لقصيدة النثر، ولكن هذا الميل لم يكن تعصّبا لشكل بعينه، بل اصطفاءً تقتضيه التجربة، ولكنهم بالكلية تماهوا مع اللغة الشعرية التي تعد المرتكز الأساس للنص الشعري، فمن خلال اللغة وحدها يتمايز شاعر عن شاعر، وقصيدة عن قصيدة "ولعلي لست مبالغا إن قلت: إن وراء كل قصيدة عظيمة لغة؛ فاللغة الساذجة الباردة الخاملة لا تصنع شعرا، وإنما اللغة المتحركة المليئة بالمنعطفات والتموجات الإبداعيّة، ولعلّ من أبرز ما يميز شعراء الحداثة العربية المعاصرة، هو إدراكهم لقيمة اللغة." فالاحتكام للغة وحدها، فهي العالم الذي ينخلق منه الشعر، والأخير تنخلق منه وفيه اللغة التي نتغياها من النص الشعري. المصادر والمراجع: - أدونيس، الكتاب، أمس المكان الآن 1. - ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ، سياسة الشعر، دار الآداب، ط1، بيروت، 1985. - عبدالرحمن محمد القعود، الإبهام في شعر الحداثة، عالم المعرفة، ع 279، 2002. - علاء الجابري، خارج النص داخل الشعر "في جدلية متن الشعر وهامشه، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، القاهرة، 2023. - محمد عبدالمطلب، كتاب الشعر، المصرية العالمية للنشر، ط1، القاهرة، 2002. - محمد عفيفي مطر، الأعمال الكاملة، ج1، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط1، القاهرة، 2018. - محمد لطفي اليوسفي، الشعر والشعرية، الدار العربية للكتاب، ط1، مصر، 1992. - ينظر: محمد عبدالله الخولي، العلامة والتأويل بين الإبداع والتلقي -دراسة سيميو-تواصلية- في شعر محمد الشهاوي، رسالة ماجستير، كلية الآداب- جامعة المنوفية، 2021.
#محمد_عبدالله_الخولي (هاشتاغ)
Mohammed_Elkhooly#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قراءة نقديّة في كتاب -النقش على سطوح سائلة: مقالات في الثقاف
...
-
تيارات الوعي وتفكيك المركزيات حلم الأنا وسلطة الواقع – دراسة
...
-
رؤية نقدية شارحة لكتاب -بلاغة الحواس في الشعر العربي العربي
...
-
إيقاع الزمن النفسي ودلالاته الشعورية في رواية -لازورد- ل عبي
...
-
القصة القصيرة بناء الشخصية وترميز الواقع وتقنيات ما بعد الكل
...
-
القصة القصيرة المتخيل الذاتي والتخييل المرجعي ورصد تحولات ال
...
-
تَشَكُّلَاتُ الأنا صُوفِي بين عمق التجربة وسيولة التعبير قرا
...
-
استراتيجيات التناص وآليات الخلاص من أزمة المصطلح -دراسة تحلي
...
-
تَشَظِّي الخطابات وانكشاف النسق المضمر في رواية -حجر نفيسة ب
...
-
سرديات (اللامرئي) بين الواقع والمتخيل في القصة القصيرة قراءة
...
-
الرواية التاريخية: فانتازيا المصطلح وماهية التمثيل
-
سردية الروح في مقامات البوح قراءة نقدية في المجموعة القصصية
...
-
تجليات الذات الأنثوية ومكاشفة الأنساق المضمرة في الوعي الجمع
...
-
شعر العامية المصرية بين إنسانية المعنى ودهشة التصوير ديوان -
...
-
النيرفانا الشعرية وجماليات الانتهاك قراءة نقدية في ديوان -أن
...
-
الشعر بين جمالية التركيب وعمق الرؤية قصيدة -ندبة زرقاء- لوسا
...
-
انشطار الهويَّة بين فلسفة الرؤية وشاعرية البناء قراءة نقدية
...
-
النص الشعري بين هيمنة المبدع وسلطة القارئ ديوان - من أحوالها
...
-
الرواية والواقع وأيديولوجيا المجتمع قراءة نقدية في رواية - س
...
-
السرد الروائي من التاريخ إلى الاستشراف جدلية الزمن واللازمن
...
المزيد.....
-
-كتاب الرياض- يناقش صناعة المحتوى الثقافي
-
-الممثل غير المحترف-.. جديد محمد عبد الرحمن في معرض الرياض ل
...
-
دان براون يعود ليسأل: ماذا بعد الموت؟ قراءة في -سر الأسرار-
...
-
-الحافلة الضائعة-.. فيلم يعيد الفتى الذهبي ماثيو ماكونهي إلى
...
-
-منتدى أصيلة- يسلم الإيفوارية تانيلا بوني جائزة -تشيكايا اوت
...
-
هل يمكن فصل -التاريخ- كما جرى عن -التأريخ- كما يُكتب؟ الطيب
...
-
لازلو كراسناهوركاي.. الكاتب الذي عبر من الأدب إلى السينما وص
...
-
صورة المعلم في الرواية العربية: دراسة نقدية منهجية تطبيقية ت
...
-
أسماء أطفال غزة الشهداء تقرأ في سراييفو
-
الكاتب المجري لاسلو كراسناهوركاي يفوز بجائزة نوبل للأدب
المزيد.....
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|