محمد عبدالله الخولي
كاتب/ ناقد/ باحث
(Mohammed Elkhooly)
الحوار المتمدن-العدد: 8391 - 2025 / 7 / 2 - 08:38
المحور:
الادب والفن
لم تكن المرة الأولى التي يشتبك فيها قلمنا النقدي، مع التجربة الشعرية الجادة، للشاعر الطبيب/ عمرو فرج لطيف، فعن كثب أتابع تجربته، التي ذاع صيتها على ألسن المنشدين، ومنهم تناقلت ألسنة (العامة/ الخاصة) أشعار الدكتور "عمرو فرج لطيف"؛ لسرٍّ يموج وميضه في طيات هذه النصوص الصوفية.
إنّ التجربة الشعريّة (الصوفية) عند "عمرو فرج لطيف" تنماز بثنائيات يتشكّل منها النسق البنيوي لخطابه الشعري، ومن هذه الثنائيات: عمق التجربة وسيولة التعبير، وهذه التيمة الموضوعاتية – من المتلاحظ لدينا – أنها تتشظّى في المعمارية النصية للشاعر. إن عمق التجربة/ الوعي بها، يتطلب لغة متعالية في تشكلاتها، سواء على مستوى المفردة أو التركيب، ولكن النسق الشعري – بنيويا – يخرج عن نسق المعتاد – الذي يستدعي تراكيب بعينها – ويسبح في فضاء مختلف، موسعا، بذلك في فضاءات التجريب الصوفي، فتميل لغة الشاعر إلى السيولة/ التدفق اللغوي، والذي لا يعني السطحيّة والمباشرة؛ إذ تنفتح عنده اللغة الصوفية على ديناميكيات التأويل، وهذا يعني أنّ اللغة التي يعتملها الشاعر، بعيدة عن مفهوم "السطح"، إذ تشي لغته بفضاءات جميلة مرتكنة إلى وعي التجربة، ولكنه شقّ لنفسه فضاء مختلفا ينوجد فيه خطابه الصوفي.
ومن الثنائيات التي تختلب البنية النصية عند الشاعر، انغلاق البنية على نفسها من حيث ظاهرها -موضوعها المباشر- ، وفي الآن نفسه، تنفتح عملية التأويل عندما تتجلى القراءة، وهي تحاول القبض على الكون العلاماتي في النص، فتتنامى منظومة المؤولات، وتشتبك مع التعاليات النصية، فينفتح النص على بنية عميقة من خلالها تبدأ دينامية اللغة، ويستطيع القارئ (النوعي) أن يفتح اللغة الشعرية على دينامية لا نهائية.
فــ "عليلٌ يشتفي" تأنُّق، يجمع بين جلال المشهد، وجمالية اللغة، فانبعاث مفردة "عليل" تواجه المخاطب/ المتلقي في العنوان، والنص الأول، فتحتال الكلمة "عليل" على المتلقي، وتداهمه في العنوان الأكبر – بوصفه نصا موازيا – وفي العنوان الفرعي للنص الأول، فتتمظهر المفردة مع خدنها "يشتفي" ثلاث مرات متتاليات: العنوان الجامع/ العنوان الفرعي/ وتنسرب في أول بيت شعري في الديوان،، تلك المفردة تحيل إلى سمت جلالي مركوز فيها، فالعلة/ المرض حالة تستدعي الانكسار في المشهدية الآنية (المعَاينة)، وتأتي مفردة (يشتفي) بتأنقها الجمالي؛ لتبعث حالة من الراحة/ الطمأنينة، تسري ذبذباتها في الدائرة الكلامية – بمفهوم فرديناند دو سوسير – وتكتسي متشبعة بسيكولوجية باطنية، تحوّل حالة (الانكسار) إلى حالة وقوف في محراب المحبوب؛ طلبا للشفاء، وقد ارتكز الشاعر على صيغة صرفية متعالية البناء، تنبعث منها حركية إيقاعية، تشي بتحوّل سكونية العلة/ المرض إلى حالة من النهوض/ الوقوف بالذل في محراب السماء، فهذا التركيب جمع بين الجلال والجمال في حيز/ تركيب لغوي واحد، كما جمع بين الحركة والسكون، وهذه من جملة الثنائيات الذّرية التي ترتكز عليها نواة النص.
لم ينعزل الخطاب الصوفي عن الواقع المحايث بالشرط والقيد، ولكنه، أعني الشاعر، لم ينفصل عن ذاته، وواقعه، وعالمه، فاستدخل موضوعات تنتمي إلى الواقع بمستوياته المختلفة، فلم تكن "غّزّةُ" بمنأىً عن خطاب الشاعر، وهذا يعني توسّع الفضاء الصوفي عنده، حيث استطاع الأخير أن يجذب إليه موضوعات نصية تنخرط في بنية الخطاب، فنراه يقول:
وتبيت غزةُ تحت سقف المعتدين جهنما
من هول ما تلقى ترى في كل شبر مأتما
وهذه تعد ثنائية أخرى، يجمع فيها "عمرو فرج لطيف" بين تجربته الصوفية الباطنية، وبين الواقع (العَياني)، وبناء على ذلك، تنبني جدلية أخرى بين ما هو متخافٍ في النفس، وما هو متجلٍّ في الواقع، وهذا يعد فضاءً تجريبيا جديدا للخطاب الصوفي، عندما يستدخل الشاعر مآلات الواقع في العالم النصي، ويعبر بها إلى ملكوتات الممكن المتخيّلة.
وفق هذه الثنائيات تراءى لنا، أنّ النص الشعري عند "عمرو فرج لطيف" يعتمد العمق من حيث المعنى المنخلق في الذات، والأخيرة تخلق من اللغة فضاءات جمالية، حيث تتم حالة النشؤ النصي من مجموعة من الجدليات، ترتكز على تيمة الجلال الصوفي الذي يندغم مع جمالية اللغة.
تظلّ الدهشة وطيدة الصلة بالشعر الصوفي، حيث تنبني تلك الدهشة من جماليات ربما تخص الشعر الصوفي وحده – دون غيره – وإن انوجدت تلك الدهشة في نوع شعري آخر يكون لها جمالياتها الخاصة التي – وفق تراكبيتها اللغوية – تمنح النص الشعري – عموما - جماله الخاص. بيد أن الصوفي منه له طابع يتمايز بسمو روحاني وشعوريات توتُّريَّة تنتاب الصادقين من أهل المحبة- لا سيما الشعراء – الذين خاضوا غمار المحبة فكشفت لهم (ليلى) براقعها فهيَّمتهم فيها، وانداحوا في جلالها كشمس كلما أبدت للناس نورها غابت في دياجير بعيدة؛ فكلما توغَّلوا في المحبة استغراقا تباعدت (ليلى) عنهم فتلظّت قلوبهم شوقا واحتراقا. هذا سمت بنيويٌّ (تكويني) يرتكز عليه النص الصوفي، ولذا لم يخلُ ديوان "عليل يشتفي" للشاعر عمرو فرج لطيف من تلك الانتحابات الإشراقية وهو يناجي محبوبه في لحظتي: (الوجد- الاحتراق)، فيقول:
إن طالَ سُقْمُك بالشكوى مع المحــــنِ،
أو خانك الصبـــــــرُ في سرٍّ وفي علنِ
ولا تزالُ تناجــي النجــــــمَ في قلـــقٍ،
نادِ على المصطفى المختار والحسنِ
وقل: عبيـــــدٌ أتاكم يرتجـــي مـــــددًا،
قد مسَّــــه الضُّـــرُّ لا يخلو من الشجنِ
أوَ هكذا ينقضــي عيشـــي على نَكَـــدٍ؟
روحي تُفَتِّشُ في الأشبــــاحِ عن وطنِ
عندي من الحــب ما يكـــفي ليسْكِرَني،
من لي سواكم إذا ما هِمتُ يمنحنــــي؟
هنا تتمظهر ثنائيات الجدل النصي – التي ألمحنا إليها سابقا – حيث تتوارى شمس جلال المحبة خلف غيمات النَّفَس الشعري التي ينماز بها الديوان، حيث تتوغل تلك الجدليات وتعتمل في البنية النصية فتتجلى توتُّريات الشعور وهي منسابة في قالب التعبير الشعري المتنامي إيقاعه وفق آليات بنيوية يلتزمها عمرو فرج لطيف في عملية النشوء النصي.
تتشكّل الــ (أنا- صوفي) في الديوان وتتصاعد في أفقها الشعوري من صراع دراميٍّ ينبني، إما عن طريق الوعي أو اللاوعي الذي يملي شروطه على العقل الشعري بداية من عملية التكوّن الجَنِيْنِي للنص؛ فينولد المعنى وهو مؤطر بلغة تشي بمكبوتات الذات الهائمة في ملكوتها عن طريق تناغمية المفردات وتنافرية المعنى في آن، حيث يتجلى أمامك النسق البنيوي في حالة تناغم واتساق، بينما تتنافر المعاني، وإن فتشت في هذه التنافرية وجدتها متسقة مع الحالة الشعورية للنص، فعندما يكون القتل(الصلب) حياة، وتتوسع بنية النص لاستجلاء طبيعة النفس وهي تفتش عن أصلها الوجودي بين الفعلين : (أفتش- أدركت)، ويصل بك التركيب لتمظهرات مقام (العماء الأزلي) من مفردتي: (غيابات-جب)، ناهيك عن حيرة السؤال المنشتل في الروح مذ خاضت التجربة الروحية، وسيظل هذا السؤال المؤرق هو الوتر الذي ينبعث من خلاله إيقاع القصيدة عند عمرو فرج لطيف، فيقول:
أفتِّشُ في ...
غياباتِ اشتياقي،
وفي جُبِّ الهوى أدركتُ
سؤلي،
كأنَّ الحبَّ سرٌّ
قد تجلَّى،
إذا أنكرتُهُ أنكرتُ
أصلي
أنا المصلوبُ في المحرابِ
تِيهًا،
وفي عشقِ الجمالِ يطيبُ
قَتْلي
يرتكن النص الصوفي على تيمات تركبية وإيقاعيّة تعدُّ – في إطلاقها – سمتًا خاصا يتمايز به الشعر الصوفي، بيد أن هذه التيمات الجمالية تكون نتاجا أسلوبيًّا ينماز به شاعر عن آخر، فليست المرتكزات النصية (الصوفية) شكلا موحدا أو قالبا جاهزا يصب فيه الصوفي شعريته، حيث الأخيرة ناشئة عن فكرة الخلق (الإبداع) وبه يتمظهر أسلوب كل شاعر وفرادته في عملية التعبير ذاتها.
إنّ النصّ الصوفي عند شاعرنا عمرو فرج لطيف له سمته الخاص وأسلوبيته التي تشق لنفسها طريقا مغايرا في عالم الإبداع الشعري، ومن أهم السمات التي ينماز به شاعرنا – وهذا الديوان تحديدا – ارتكانه إلى حقول دلالية تنم عن عمق التجربة وصدق الإحساس وسيولة اللغة وتدفقات المعاني المنولدة في إيقاعها المتفرد، فعندما يقول:
على سطرٍ،
أتيه ببوحِ سري،
وفي صَحْوٍ
أغيبُ، بلا مُدَامِ..!!
وقد أفرغتُ في الأسباب روحي،
فما حنَّت،
ولا ردَّت سلامي،
أرى عينى،
وقد سَحَّت حنيناً،
وشحَّتْ
غفوة الصبِّ المُلامِ،
وظلِّي يحتسي
كأس التخلَّى،
وهيكلُ لوعتي أظمى هُيامي!
النص الشعري – السابق – عمودي الإيقاع تفعيلي التشكيل، والأخير يمنح – عن طريق التأويل البصريّ – إيقاعًا متعاليا تلتقطه العين من الوسيط الورقي، حيث عمد الشاعر إلى أن تحتل التفعيلة العروضية (مفاعلين) – المعصوبة المحوّلة عن مفاعلتن – سطرًا شعريا وحدها على هذا النحو: [على سطر/ وفي صحوٍ/ أرى عيني] وهنا يتصاعد الإيقاع وفق تراتبيته التشكيلية ويمنح النص بعدًا دلاليا أكثر عمقا؛ فالقالب التفعيلي – المتوحّد في الشكل والدلالة – يشير إلى حالة الوحدة والانعزالية عن الوجود، حيث يحيل القالب الإيقاعي إلى نغمة حزينة تسري بين الأسطر الشعريّة كنغمة كمان تسري بهدوء انكساري متزامنة من نقر الدفوف الإيقاعية التي تنساب في قوالب موسيقية مغايرة، ولكنها تتسق دلاليا مع التيمة الموضوعية للنص لغة وللذات مقصدا. لم يكن هذا كله بمنأىً عن الحقل الدلالي الذي تنشَّأ منه النص، فالحقل الدلالي وانسياب تراكيبه في النص يتواءم مع بنية الإيقاع نفسها وهذا نوع من الانسجام الخفي لا يتجلى إلا بعد الولوج إلى البنية العميقة للنص الشعري عند عمرو فرج لطيف.
سيظل النص الصوفي تيمة عُليا وأيقونة شعرية متفردة؛ لما ينتاب هذا النص من جماليات تتشظى دلالة وإيقاعا وتأويلا، ولكن يبقى الشاعر وحده هو الصانع لهذا الجمال والمانح للنص بهاءه الشعري، كما وجدنا هذا الأمر – جليا – عند الشاعر عمرو فرج لطيف الذي استطاع أن يصنع لنفسه نصا مغايرا متماهيا مع أقصى درجة ممكنة من الجمال الصوفي. ينبعث الجمال وينخلق في النص الشعري عند الدكتور عمرو من روح صفت وذات شفت ووجد صادق وشاعرية متوحدة مع نسقها الجمالي الخاص.
عملية النشوء الجمالي في هذا الديوان تجلت من ديالكتيك متصاعد بين ما هو مضمر في الذات وتمظهرات اللغة الشعرية، ومن ثنائيات إيقاعية وتشكيلية تلج فضاءها الشعري وحدها. تنساب هنا اللغة باحترافية الشاعر، حيث عمد إلى تراكيب لغوية تحمل طابعين مختلفين، غنائية اللغة وبساطة التراكيب، وعمق اللغة وانفتاح التأويل وهذا النمط الأسلوبي يحتاج إلى قامة شعرية كبيرة بقدر الشاعر عمرو فرج لطيف.
#محمد_عبدالله_الخولي (هاشتاغ)
Mohammed_Elkhooly#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟