|
إيقاع الزمن النفسي ودلالاته الشعورية في رواية -لازورد- ل عبير العطار
محمد عبدالله الخولي
كاتب/ ناقد/ باحث
(Mohammed Elkhooly)
الحوار المتمدن-العدد: 8398 - 2025 / 7 / 9 - 22:14
المحور:
الادب والفن
ألقيت المحاضرة بالنقابة الفرعية لاتحاد كتاب وأدباء وسط الدلتا.. الأحد ٢٩/١٢/٢٠٢٤
بعض الروايات تتطلب من القارئ آليات تحليلية تشبه خيوط العنكبوت، الذي ينسج خيوطه بشكل معماري فيتشكل بيته وفق متطلباته، وهكذا بعض الروايات يتوجب على القارئ أن ينسج خيوطه حولها لينبني بيت الدلالة وتتشكل شبكية المعنى، وهذه القراءة "نعني بها القراءة الشاملة الواعية بخطواتها، وباختياراتها المنهجيّة، فهي تنظر إلى النص بوصفه نسيجا علائقيا لمكونات داخلية وخارجية متفاعلة، الأمر الذي يتيح لها إمكانية التجلي في تمظهرات وصيغ متنوعة تبعا لنظام النص، أو لنظام الخطاب الذي تتخذ منه موضوعا لاشتغالها، إذ أنها تضمن لكل نوع من أنواع الخطابات والنصوص الأدوات الملائمة للتحليل بعيدا عن اقتراح وصفة جاهزة واحدة للمقاربة قد تخون تلك الخصوصيات البنائية والنوعية لتلك النصوص. ومن خلال هذه القراءة الشبكية يستطيع القارئ أن يدلف إلى دهاليز النص الأدبي/ الروائي متجاوزا سطح البنية الظاهرية إلى مضمونيات البنية العميقة للنص "وهذه القراءة تحاول أن تفسّر العمل الأدبي من داخل العمل ذاته، وليس من داخل الأعمال التي تشبهه، ولكن انطلاقا من الحركية التاريخية للواقع الاجتماعي الثقافي الذي وجد فيه. القراءة الشبكية للنص الروائي طيعة مرنة، فهي لا تفرض على القارئ نظاما بعينه أو منهجية مؤطرة لمعالجة النص، ولكنها محض افتراضات إجرائية يطوعها القارئ وفق خبراته؛ لاستجلاء غوامض النص " على هذا الأساس يجب أن نتعامل مع شبكة القراءة بوصفها مجموعة آليات ووسائل تطبيقية تمكننا من تحليل وفهم النصوص الروائية، لذلك يجب أن نأخذها بشيء من المرونة، فهي عبارة عن علامات موجهة للقراءة، وليست نظاما مطلقا؛ فللقارئ حرية اختيار العناصر التطبيقية لهذه الشبكة. كما أنّ هذه القراءة تصطفي لنفسها مدخلا – بوابة عبور – إلى العالم النصي، ومن ثم ينطلق القارئ في هذه العوالم بمنطقية تحليلية تضمن نشؤ النسق الدلالي المتغيا من المنظومة النصية التي يتماهى فيها الداخل النصي مع الخارج التعالقي بفعل القراءة الشبكيّة للنص. فرواية "لازورد" لــ [عبير العطار] لها مستويان من حيث القراءة/ التلقي، الأول: المستوى السطحي، وهو ما تقذفه لنا البنية العائمة للنص الروائي، وإن ارتضى القارئ بهذا المستوى سيضع الرواية على محك الخطر حيث تتعرى الدلالات السطحية التي من المفترض أن يتجاوزها الكاتب إلى ما هو أعمق من ذلك، وربما يتأبّى القارئ على هذه السطحية نافرا منها. أما المستوى الثاني، وهو الأعمق، يستدعي قراءة نوعيّة محاطة بسياجات ثقافية واجتماعية وخبرات قرائية سابقة تمكّن القارئ من الولوج إلى عالم "صوفي" تلك الشخصية المحورية/ الأساس في الرواية. تتشكل الشخصية المحورية "صوفي" من تشكلات الزمن وتتابعية الأحداث الزمنية التي تخلق من هذه الشخصية فضاء روائيا، ثم يتحول هذا الزمن من موضوعيته الخارجية وقياساته المنطقية إلى (زمن نفسي) تشعر به "صوفي" وحدها، فيكون الزمن النفسي/الداخلي هو البطل المحرك لهذه الشخصية وتحولاتها "فالزمن الداخلي (الذاتي) نعيشه بمعزل عما هو خارجي، ويحتاج في تقديره إلى خبرتنا، أما الثاني/ الخارجي فلا يحتاج لذلك، إذ أنه وقت حقيقي يحسب بساعة الزمن. ومنه يتضح أن الزمن النفسي يمثل المقابل للزمن الطبيعي، فإذا كان الثاني موضوعيا قياسيا، فإن الأول ذاتي لا يمكن الاتفاق في قياسه، إذ هناك عوامل نفسية وعقلية تسهم في تحديده، فيختلف مقداره من شخصية لأخرى حسب العوامل. فهناك لحظات حياتية تنقضي بسرعة فائقة، ولا يريد الإنسان لها انقضاءً، ولحظات زمنية أخرى يحاول الإنسان أن يفرّ منها، ولكنها – وفق منظوره النفسي – تطول وتتسع فتضيق بها النفس البشرية، فالزمن الذاتي له قياساته النفسية المختلفة، فيوم القيامة يمر على المؤمن – زمنيا – بمقدار حلب شاة، ويمر على آخرين بمقادير زمنية أخرى، وهذا راجع إلى الحالة النفسية والروحية للمحاسبين يوم القيامة. ووفق هذا المنظور التفت النقد إلى فاعلية الزمن الذاتي/ النفسي/ الداخلي في عملية البناء النصي/ الروائي. تتجلى قيمة الزمن النفسي في الرواية من خلال إسهامه الكبير في تشكيل المضامين، وبناء الأحداث وتقريب الشخصيات من القارئ. يطلق على الزمن النفسي عادة (الزمن الذاتي) لأن الذاتي مناقض للموضوعي؛ فخبراتنا الخاصة تشكل أساسا ضعيفا لقياس الزمن بموضوعية، فهو تارة يمر بسرعة وطورا يمر ببطء... ويطلق عليه (الزمن الداخلي) تفريقا بينه وبين ما أطلقت عليه الفلسفة المادية بــ (الزمن الخارجي) فالزمن الداخلي هو الذي يثير توترنا ويجعلنا ننفعل بإيقاعه الذي يبدو بطيئا خافتا، وقد يزداد وقعه حدة وعنفا حينا آخر – وعندئذ يتحول – في ضوء الموقف إلى حالات شعورية يمكن تفسيرها كيفيا. ولذا قسمت "عبير العطار" فصول روايتها إلى أزمنة، حيث استبدلت المكان/ الفصل بالأزمنة التي توزعت إلى ستة عشر زمنا نفسيا، فكل زمن يحمل بعدا نفسيا للشخصية المحورية "صوفي أبو طالب" فالزمن النفسي يشكل ملمحا بارزا في رواية "لازورد" فــ "في المستوى الأدبي علينا تتبع المعنى الكامن في النص في بعديه السطحي والعميق، وألا نعد المضمون الظاهر هو انعكاس سلبي للمضمون الكامن في في ثنايا النص الأدبي؛ لأن تركيبة العملية الإبداعيّة متنوعة ومتعددة، فمنها ما ينتمي لقيمة الوعي ومنها ما يوجهه اللاشعور" وقد استطاعت [عبير العطار] أن تحمل الزمن الدلالات النفسية الشعورية لشخصية "صوفي" فتجلى الزمن النفسي/ الذاتي بصورة واضحة في نسق البنية النصية، فمن خلاله تتشكل الرواية في جملتها وتبزغ شمس "صوفي" وبعدها النفسي اللاشعوري في هذا الفضاء مشتبكا مع الزمن الداخلي، فهي أسيرة نكبات الماضي، وقلق الحاضر، وخوف المستقبل: "فليس لها من الماضي إلا المآسي.. وليس لها من الحاضر إلا الانتظار.. وليس لها من المستقبل إلا الموت." فهي واقعة في جدلية الموت والحياة في فضاء الزمن الذي تشعر الشخصية بضآلتها أمام جبروته وسطوته المتعالية. منذ الزمن الأول في الرواية "معانقة الحياة" وصوفي مشتتة بين الماضي والحاضر وترقب المستقبل، فتقول: " تغيّر إحساسي بالزمن، صرت أهب قلبي للحياة خوفا من بارقة تشير للموت، لماذا يفزعني الموت الآن؟! سؤال طالما أرّق روحي المنكبّة في البحث عن مخرج آمن للحياة." وتقول : "هلوسات تناولتني، جابت حاضري وماضيّ، لم ألعن معها الظلام لكني لعنت اللحظة التي لم أقو فيها على إيقاد شمعة من بصيص روحي، فمن لحظة رؤيتي لكل هذه الدلالات في شخوص ميتة أو تزحف للموت.. وأنا أشعر بأنني لم أعد كما كنت." منذ اللحظة الأولى السردية في الرواية وعبير العطار تواجه القارئ بقضية الموت، تلك القضية التي تلقفها القارئ عند الحدث الرئيس الذي انسلت منه الحكاية كلها، انتحار "صوفي أبو طالب" ودفعت الكاتبة القارئ معها للبحث عن أسباب انتحارها، ثم أخذت قضية الموت بعدا إنسانيا عند عبير العطار، فلم يتوقف الموت عندها على صوفي وحدها ولكنه تجاوزها ليشمل العالم الإنساني كله، فتقول: "شغلت تفكيري حيثيات هذه الكلمة بعدما شاهدت وقائع الزلزال الأوربي في شتاء فبراير 2023 – وسط حروب معلنة وأخرى مضمرة – في البداية بدا خبرا كغيره من الكوارث التي تمر بنا، ولتكرارية المشهد ربما فقدت التأثر بها وقتيا، توقفت من جديد وقتما أتخم رحم الأرض من زائريها، الآلآف تحت الأنقاض في غمضة عين، استمرت العذابات لبعضهم ساعات ثم أيام قبل أن يقبض ملك الموت أرواحهم، كمٌّ بشريٌّ هائل نام ليصحو على لحظة تشريد قسرية في ليلة شتاء صارخة، وكمٌّ آخر شرّدوا من الخيام من بعد تشريد مسبق؛ مشهد يثير حنقي؛ فماذا فعل كلّ هؤلاء كي يموتوا دفعة واحدة؟! والأطفال الذين انزلقت بهم البيوت، وباتوا في الطرقات يرتعشون، أو جرفتهم الطرقات المهزوزة تحت أقدامهم؟! ثم فجأة أمطار تهطل من سماوات الله ليزداد عذابهم برائحة الموت التي فاحت في المدن بأسرع مما توقعوا، وعلى النقيض بصيص نور كان في بضع قطرات ماء متسرّبة بدت كاللبن المسكوب داخل الأنقاض لتسقي أمًّا ورضيعها اللذين لحساها من الجدران المتهدمة." تحاول "صوفي" فهم قضية الموت والبحث عن ماهيته، وهي في خضم هذه الرحلة تحاول أن تتشبث بالحياة كي لا يتسرّب إليها الموت الذي يمد خيوطه إلى أبعد مسافة في الكون، ولا يستطيع أحد أن يفرّ منه، فقضية الموت يستوي فيها الحاكم والمحكوم، الغني والفقير، الظالم والمظلوم، الطفل والعجوز، المريض والصحيح، المعالِج والمعالَج. حمل الزمن الأول "معانقة الحياة" بؤرة الحدث (الانتحار) وتضمن قضية الموت التي تحاول "صوفي" فهم ماهيتها، وكأنّ كل الأزمنة التالية للزمن الأول عملية توسيع لفهم شخصية "صوفي" وملابساتها الحياتية، ومن ثم التعمق في فهم قضية الموت. فتبدأ حياة "صوفي" بالانكسار المترتب على خيانة زوجها يوسف، فتطلق "العطار" على الزمن الثاني عنوانا شعريا متناصا مع نص قرآني من سورة يوسف، حيث يقول ربنا: " ولما فصلتِ العيرُ قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون" بينما تطلق الكاتبة على الزمن الثاني: [إني "لا" أجد ريح يوسف] حيث تناصت مع النص القرآني.. تعبيرا عن الخيانة التي وقعت في براثنها "صوفي" كما وقع سيدنا يوسف – عليه السلام – في بئر الخيانة من قبلها، ولكنها لم تتناص لفظيا مع النص القرآني المقدس، فقد وضعت "لا" النافية بين علامتي تنصيص، فهي لا تجد ريح يوسف، بينما نبي الله يعقوب – عليه السلام – وجدها، وإن سمح بمثل هذا إبداعيا، فهل يجوز التناص بهذه الصورة على مستوى العقيدة، أظن أن قداسة النص القرآني تتأبّى على هذا التناص، وهناك آليات أخرى يسمح بها في عملية التناص مع النص القرآني دون اللجوء إلى ذلك. ولكن على المستوى الإبداعي استطاعت عبير العطار أن تمنح العنوان بعدا نفسيا يحمل انكسارات الخيانة الزوجية التي تعرضت لها "صوفي" فتقول: "إنّ حبي رسالة وأنت على باب الوحي خلعتني من نبوتي، وكذبتني حين ظننت أنك أول المصدقين بي، كذبتني وأنا أول المؤمنين بحبك! كيف يمكن للقلب أن يكون أكثر تعاسة وبه داء لا شفاء منه؟ لا دواء يشفي قلبي الذي كسرته بيديك كلتيهما ببساطة جحودك وجبروت لسانك البتار! كيف يمكن أن تنهي وحيك الذي كنت تسقطه على قلبي العليل حتى يشفى ويكون دينا للعاشقين؟ كيف آويت قلبي في غارك المنعزل عن دنيا الباطل فأوجعتني بالكلمات التي لا أستحق؟ كيف أبطلت مفعول نبضي فامتنع عن السريان في وريدك؟. أما الزمن الثالث والمعنون بــ " وبكيت يا يحيى: فقد حملته الكاتبة بعدا نفسيا آخر، وهو الوحدة، والانعزالية التي تعانيها "صوفي" فتقول: " حين حان موعد ولادة ابني الثاني في شتاء عام 2002، السماء تطلق البرق لتلد الماء، والوجع الذي أصابني يكاد يطلق ماء المشيمة كأننا متناغمان في التوقيت." في هذه اللحظة الحاسمة تجد "صوفي" نفسها وحيدة وهي في أمس الحاجة لمن يقف بجانبها ويمد لها يد العون والمساعدة، فانزوت على نفسها من الداخل وفاضت الذات ببكائية تشي بمرارة الوحدة في هذه اللحظات الفارقة في حياة الإنسان.. فالذات هنا واقعة تحت وطأة الخيانة والانعزالية في آن واحد، وهنا تتضخم معاناة الذات ويحمل الزمن هذه الأبعاد النفسية لهذه الشخصية، فيتحول الزمن عبر هذه الممارسات إلى زمن نفسي/ ذاتي يمارس عنفوانه على شخصية " صوفي" فتقول: "مرت سنتان وكأنهما خمسون عاما، سنتان من الوهم كانتا كفيلتين بموت كل شيء موجوع وكلّ شيء حي، الموت لا يعني أن تصعد روحك إلى السماء وتدفن جسدك في الأرض، فللموت معان كثيرة تذوقت مرارتها على مدى العامين الماضيين لا يدري عنها سوى وحدتي ونافذتي، أجتهد بكل ما أوتيت من قوة من أجل أولادي كي أجدد الثقة بالحياة؟" هنا تقع "صوفي" تحت وطأة عنفوان الزمن الذي استطال عليها واتسعت بؤرته – وفق منظورها النفسي، فــ "سنتان كأنهما خمسون عاما" وتقول أيضا في الزمن الرابع: كابوس الغيرة: "بدأ نهاري مبكرا جدا، حتى إن الفجر صار بالنسبة لي موعدا مقدسا للنهوض، أشرب قهوتي المرة بمرارة الأيام، أحاول إقناع نفسي بالمضي في عالم الخداع والغرور، لا أخفي أبدا ضيقي حين ينتزع الضوء ببزوغه وقتي مع الفجر، لكنه ينبهني إلى ضرورة استكمال الساعات التي أمقتها مقتا شديدا؛ النهار أشبه بكابوس مشحون بالسلبية المطلقة تحاوطني العناكب وتنسج بيوتها على رئتي. أصبحت الأنفاس ضيقة بعيدة جدا عن الحياة وقريبة من الموت." لعلّ القارئ من خلال ما ألمحت إليه يدري ماهية الزمن النفسي الذي تعانيه الذات وحدها، وهو زمن له قياساته الخاصة التي تحدد وفق موقع الذات الإنسانية من التجربة الحياتية. رمزية اللازورد وانبعاث الماضي من أفق اللوحة: تظهر شخصية "لازورد" نافذة للحياة من خلالها تطل "صوفي" على معان أخرى لم تكن تعهدها من قبل، فقد فتحت لها "لازورد" فضاءات واسعة صوفية/ نورانية تأتلق فيها الذات الإنسانية، تشعر بكيانها الروحاني، وطاقاتها النورانية المتعالية، حيث للروح عوالمها التي تضمن لهذه الذات البقاء بعد فناء الجسد وعودته إلى أصله الترابي، فتقول: "ليست كل الأرزاق ستدق بابك! بعض الأرزاق في قلبك؛ فاجعلي لها مخرجا." من خلال هذه النافذة تحاول "صوفي" الفرار من عالم الجسد الذي تعتوره الانكسارات والخيبات ويهاجمه الموت بكل ضراوة إلى عالم الروح حيث الفضاء النوراني الذي تشع فيه شمس الحقيقة الإنسانية.. وهنا يتغير مفهوم الموت عند "صوفي" فتعتقد أن الموت يمارس سلطته على عالم الأجساد بينما تظل الروح خالدة في عوالمها النورانية، وكيف لا، وهي نفس الرحمان الساري في مخلوقاته، فيقول رب العزة: "فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين" ومن هنا كانت الروح خالدة بخلود الواهب سبحانه. إن شخصية "لازورد" بالكيفية التي ظهرت بها شخصية ملغزة.. ووفق منهجية القراءة الشبكية/ العنكبوتية – التي ألمحت إليها في المقدمة – يجوز لنا تأويل هذه الشخصية (لازورد) حيث لا تتأبّى هذه الشخصية على التأويل نظرا لما تحتمله من دلالات وفق سياق الرواية.. فربما تكون "لازورد" هي انشطار ذاتي من الشخصية المحورية (صوفي) فتكون "لازورد" هي العالم الباطني/ الروحاني لــ "صوفي" حيث تمثل الأخيرة عالم الجسد وتمثل الثانية عالم الروح، وبالعالمين تكتمل الذات الإنسانية. وربما تكون "اللازورد" حالة التأمل أو التماهي مع العالمي الروحاني هروبا من نكبات وانكسارات العالم الناسوتي لــ "صوفي" ورُمِزَ لهذا العالم بــ "اللازورد" بوصفه حجرا كريما يملك طاقات نورانية وروحانية. لا تقف عملية الترميز عند عبير العطار عند حدود الشخصية، ولكنها استدخلت العالم الرمزي عن طريق اللوحة التي ورثتها "لازورد" عن أمها، تلك اللوحة المشعّة بالنور، والتي تتماهى وتتداخل فيها امرأة مع أخرى حتى يشكلا كيانا أنثويا واحدا، فترمز تلك اللوحة إلى مصير الأنثى الأزلي وما تعانيه من انكسارات وخيبات، وربما تدل على الذات الجمعية للأنثى، وربما تكون اللوحة معبرا سريا من خلاله تدلف "صوفي" إلى العالم النوراني باحثة عن ماهية الأنثى، فتقول في الفصل السابع: "بريق اللازورد" "" لقد ظلمتها مروية أطلقها إبليس لأنه لم يتمكّن منها، لكنه تمكّن من الأنا الراكدة في عمق آدم، حين نشطت تعاظمت، ولما تعاظمت تختّمت بها حواء وبناتها من بعدها ووصمت بالكيد وصار لزاما على كل المجتمعات أن يبذروا تلك الإشاعة لتستمر وتدوم." تشي اللوحة بحالة التأمل التي عاشتها صوفي وهي تحاول الولوج إلى العالم الروحاني من خلال "اللازورد" آخرها النوراني، تنقب في هذا العالم عن حقيقة الأنثى فتقول:" أطفأت المصباح لأرى ضوءا يشتعل من خلفي داخل الغرفة، أفزعني ذلك فعدت لأرى اللوحة ترسل نورا من صورة الكائن الملائكي منعكسا على السرير، تجمدت ساقي في أرضي، فتحت الضوء من جديد دققت النظر في اللوحة فلم أجد شيئا مميزا، لم أفهم ماهية المادة التي رسمت بها اللوحة، وما علاقتها بكل هذا، وكيف ترسل انعاكسات ضوئية؟ أو كيف لم يكن هناك هذا الضوء حين دخلت." هنا تتجاوز اللوحة إطارها وتتمركز في العالم الرمزي للرواية، وإن كانت عملية التأمل للكاتبة في قصة الخروج من الجنة اتخذت مسارا فلسفيا معقدا ملغوما بإشكاليات كثيرة، حيث حمّلت "آدم" – عليه السلام – ذنب الخروج وحده، وأن إبليس استطاع أن يحرك (الأنا) الكامنة في آدم – عليه السلام – وهذا لا يتسق مع دلالة النص القرآني الذي يدل دلالة قاطعة أن الغواية الشيطانية وقع الاثنان: [آدم وحواء] تحت وطأتها، حيث يقول ربنا: " فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه" فالغواية هنا تشمل الاثنين: آدم وحواء- عليهما السلام – استدعاء الماضي والمستقبل في اللحظة الآنية: بحرفية تدل عن وعي الكاتبة بماهية الزمن استطاعت أن تستحضر الزمن الماضي ببعده النفسي، والمستقبلي بما يحمله من تخوف وقلق في أفق اللحظة الآنية، فتقول في الزمن الثالث عشر: "رصاصة الرحمة": "سامحيني يا أمي، فأولادي صغار! صرت أنادي عليها وأحاول تهدئتها لكنها استمرت في الكلام وهي تحاول صد أحضاني لأبتعد: أمي أهدتني لوحة من بلادها تقول إنها تنبعث منها طاقة ملائكية تحمي صاحبها، أنا يا أمي قادمة.. لا تتركيني من جديد، أنا قادمة إليك يا أبي.. لا تترك أمي وانتظراني معا." تستدعي "لازورد" الماضي الذي يحمل قسوة أمها وعنفوان حياتها، وترتجي مستقبلا يجمع أشلاء الأسرة التي تمزقت أواصرها في العالم الجسداني.. وتتمنى أن تجتمع أمها بأبيها في العالم الآخر النوراني فينجبر صدع الماضي والآني في أفق المستقبل حيث مستقر الرحمة الإلهية هناك. الموت من الصراع إلى الخلاص: تحولت أيقونة الموت النصية/ الموضوعية من صراع إلى خلاص، فعبر رحلة تأمل "صوفي" وما تعرضت له في مسيرتها الحياتية من خسارات، كانت تصارع الموت بوصفه عدوا تحاول الفرار منه متشبّثة بالحياة، ولكن عنفوان الزمن والممارسات الحياتية التي انتهكت الشخصية، وبعد أن تفهّمت حقيقة الروح، تحول الموت إلى خلاص ومعبر من خلاله يلج الإنسان إلى عالم الخلود والراحة الأبدية، فتسلل الموت بمعانيه السامية إلى تعرفت إليها "صوفي" إلى عالمها، وهيمنت فكرة الخلاص عليها، فتقول: " تأكدت الآن أن هناك لحظات لا يهم فيها أين أنت على الأرض، المهم أن المدد الروحي يأتيك، يملأ وجودك العفوي، ويبعث في نفسك الثبات، أنك تمكّنت من عمل توازن حقيقي بين سماء روحك وأرض قلبك. حاولت من خلال هذه القراءة لرواية "لازورد" لــ "عبير العطار" ألّا أقف عند حدود الحكاية أو البنية السطحية للنص الروائي، فدلفت إلى العالم النفسي/ الباطني لشخصية "صوفي" لأقرأ عالمها الوجداني وأستجلي شعورياتها الباطنية، لأمنح الرواية حقها في عملية التأويل، فـ "النص الأدبي هو بنيات لغوية مشحونة بصور بلاغية واستعارات يبرز من خلالها الكامن اللاشعوري للكاتب ويمتد عبر مجمل الأثر الأدبي." ولذا في كل قراءة أدبية علينا أن نتوجه إلى المستوى الأعمق، كي لا نضع النص على محك الخطر وعلينا "التنقيب في أعماق النفس اللاشعورية؛ لأن هذا البحث يضيء لنا جوانب متعددة تتعلق بالأثر الأدبي، ويمكننا من اقتفاء آثار القضايا النفسية المتأزمة التي تتسلل عبر لغة النص وبنيته (...) فالنصوص الأدبية مجال للتمظهر النفسي/ اللاشعوري، ولذلك علينا أن نتجاوز المستوى السطحي التصريحي في النص للوصول إلى أبعاده الدلالية والجوهرية."
طبيعة المكان في رواية "لازورد": طبيعة المكان في رواية "لازورد" تتمايز بخصوصيتها، حيث يتوزع المكان على ثلاثة أشكال في هذه الرواية، الأول (الطبيعي) ويشمل البيت الذي يعاني من مشكلة الانفصال والتشتت الأسري عند "صوفي" و"لازورد" بوصفيهما شخصتين منفصلتين خارج حدود التأويل الرمزي لهاتين الشخصيتين المحورتين لهذه الرواية. ويشمل المكان (الطبيعي) المستشفى بوصفها المآل الحتمي لعالم الجسد الذي تنتهكه التجربة الحياتية. الثاني، (الافتراضي) وهو الفضاء الأزرق/ الفيس بوك الذي اتخذته "صوفي" متنفّسا لها عن طريق الكتابة، وكان الفضاء الأزرق كاشفا لخيانة زوجها وتقلباته الحياتية، كمان كان جسر اتصال بين "صوفي" و "نهلة" التي أخذتها الحياة في دوامة كبيرة، أفقدتها التواصل مع محيطها الأسري، فلم تدري عن موت أبيها شيئا بسبب انشغالها بولدها المريض. الثالث، المكان (الروحاني/ النوراني) الذي بدت تجلياته تظهر لــ "لازورد" بعد رحلة تأملها الصوفية في عالمي: الروح والجسد وكانت تلج "صوفي اللازوردية" إلى العالم الروحاني من خلال ثلاثة معابر: الذكر/ التأمل/ اللوحة، وتحمل الأخيرة سرَّ الأمومة حيث من خلال حركية الصورة/ اللوحة تتماهى الأنثى (البنت) في الأنثى (الأم). كان من الطبيعي وجود المكانين: [الافتراضي/ النوراني] بوصفهما ملاذين لــ "صوفي اللازورديّة" بعد انتهاك المكان/ البيت والمكان/ الجسد، حيث شكل المكان (الافتراضي) متنفّسا لها، وأصبح المكان (النوراني) ملاذا ومستودعا لها، تطمح للوصول إليه لتنعم بالراحة الأبديّة. عندما ارتقى القارئ من المستوى السطحي إلى الآخر (الرمزي) استطاع أن يضع هذه الرواية في مكانها وفي فضاءاتها التي انفتحت على التأويل، فوقوف القارئ في هذه الرواية على المستوى السطحي يضعها على محك الخطر وينتقص من قدرها متجاهلا رمزيتها، ولذا يتوجّب على القارئ ألّا يتلقى العمل الأدبي بصورة سلبيّة، بل عليه أن يتحول لمؤلف مشارك إيجابي فاعل في بنية النص من خلال ملء الفراغات النصية التي يتعمّد المؤلف تركها من أجل استدخال القارئ في عملية البناء النصي. المصادر والمراجع: - عبير العطار، رواية "لازورد"، نسخة إليكترونية، بي دي إف. - عمر عيلان، في مناهج تحليل الخطاب السردي، منشورات اتحاد الكتاب العرب، ط1، دمشق، 2008. - فرح مهدي يوسف، الزمن النفسي في رواية (قصة حب مجوسية) لعبد الرحمن منيف، مجلة القادسية للعلوم الإنسانية، جامعة القادسية، المجلد التاسع: العددان 1-2/ 2006. - محمد بن يوب، نحو قراءة منهجية للنص الروائي، مجلة الآداب واللغات، العدد السابع، جامعة قاصدي مرباح، الجزائر، 2008. - منيرة شرقي، دلالات الزمن النفسي في رواية اللاز للطاهر وطار، مجلة المدونة، مخبر الدراسات الأدبية والنقدية، العدد الأول، الجزائر، 2014.
#محمد_عبدالله_الخولي (هاشتاغ)
Mohammed_Elkhooly#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
القصة القصيرة بناء الشخصية وترميز الواقع وتقنيات ما بعد الكل
...
-
القصة القصيرة المتخيل الذاتي والتخييل المرجعي ورصد تحولات ال
...
-
تَشَكُّلَاتُ الأنا صُوفِي بين عمق التجربة وسيولة التعبير قرا
...
-
استراتيجيات التناص وآليات الخلاص من أزمة المصطلح -دراسة تحلي
...
-
تَشَظِّي الخطابات وانكشاف النسق المضمر في رواية -حجر نفيسة ب
...
-
سرديات (اللامرئي) بين الواقع والمتخيل في القصة القصيرة قراءة
...
-
الرواية التاريخية: فانتازيا المصطلح وماهية التمثيل
-
سردية الروح في مقامات البوح قراءة نقدية في المجموعة القصصية
...
-
تجليات الذات الأنثوية ومكاشفة الأنساق المضمرة في الوعي الجمع
...
-
شعر العامية المصرية بين إنسانية المعنى ودهشة التصوير ديوان -
...
-
النيرفانا الشعرية وجماليات الانتهاك قراءة نقدية في ديوان -أن
...
-
الشعر بين جمالية التركيب وعمق الرؤية قصيدة -ندبة زرقاء- لوسا
...
-
انشطار الهويَّة بين فلسفة الرؤية وشاعرية البناء قراءة نقدية
...
-
النص الشعري بين هيمنة المبدع وسلطة القارئ ديوان - من أحوالها
...
-
الرواية والواقع وأيديولوجيا المجتمع قراءة نقدية في رواية - س
...
-
السرد الروائي من التاريخ إلى الاستشراف جدلية الزمن واللازمن
...
-
الرواية بين الواقعية والرمزية قراءة نقدية في رواية - بتوقيت
...
-
ملائكيّة الرؤيةِ وفنيّةُ التشكيلِ – قراءةٌ نقديّةٌ في أعمالِ
...
-
أحلام النوارس
-
قصدية النص واشتغال العلامة السيميائية قراءة تأويلية في شعر م
...
المزيد.....
-
الإسهامات العربية في علم الآثار
-
-واليتم رزق بعضه وذكاء-.. كيف تفنن الشعراء في تناول مفهوم ال
...
-
“العلمية والأدبية”.. خطوات الاستعلام عن نتيجة الثانوية العام
...
-
تنسيق كلية الهندسة 2025 لخريجي الدبلومات الفنية “توقعات”
-
المجتمع المدني بغزة يفنّد تصريح الممثل الأوروبي عن المعابر و
...
-
دنيا سمير غانم تعود من جديد في فيلم روكي الغلابة بجميع ادوار
...
-
تنسيق الجامعات لطلاب الدبلومات الفنية في جميع التخصصات 2025
...
-
-خماسية النهر-.. صراع أفريقيا بين النهب والاستبداد
-
لهذا السبب ..استخبارات الاحتلال تجبر قواتها على تعلم اللغة ا
...
-
حي باب سريجة الدمشقي.. مصابيح الذاكرة وسروج الجراح المفتوحة
...
المزيد.....
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
المزيد.....
|