أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبدالله الخولي - القصة القصيرة المتخيل الذاتي والتخييل المرجعي ورصد تحولات العالم -بيريه صوف أخضر- ل هايدي فاروق أنموذجًا















المزيد.....


القصة القصيرة المتخيل الذاتي والتخييل المرجعي ورصد تحولات العالم -بيريه صوف أخضر- ل هايدي فاروق أنموذجًا


محمد عبدالله الخولي
كاتب/ ناقد/ باحث

(Mohammed Elkhooly)


الحوار المتمدن-العدد: 8391 - 2025 / 7 / 2 - 19:05
المحور: الادب والفن
    


منذ البداية يستقر بنا الرأي أنّ كلّ جنس من الأجناس الأدبيّة له شروطه التي تميزه عن غيره، وهذا لا خلاف عليه. فالقصة القصيرة احتفظت لنفسها بسمتها الخاص الذي يضمن لها هويتها الجنسيّة، ولكنها لم تزل تتوسع في مفهوما وتتعدد تعاريفها بيد أنها تتقاطع وتلتقي على مرتكزات بنيوية واحدة. ربما يأتي هذا التوسع المفهومي وتعدديّة التعاريف مسبّبا عن قرب القصة/ الحكاية من النفس البشرية وميلها الفطري إلى ممارسة فعل الحكي تلقيا وإنتاجا؛ ولهذا خوطب بها الإنسان – وحدها دون غيرها من الأجناس الأدبيّة الأخرى – في النصوص الدينية المقدسة، حيث وجهّت السماء خطابها للذات الإنسانيّة بما هو مركوز فيها متماس مع طبيعتها.
ولعلّ قرب القصة من طبيعة النفس البشرية جعلها – دون غيرها – تستعصي على التعاريف وتخلق لنفسها فضاءً مغايرا مع كل عمل قصصي جديد. فالقصة القصيرة – تحديدا – كاميرا يرصد القاص من خلالها حركة العالم/ الواقع/ الوجود حيث تُختزل الصور المرصودة في الذات المنصهرة -أساسا- في العالم والعائشة فيه، تلك الذات لا تقف عند حدود الظاهر ولكنها تحاول -عن طريق قوى التخييل- أن تستغور هذا العالم بغية انكشافه أمامها؛ إذن، القصة القصيرة كما عرفها هربرت ويلز: "حكاية تجمع بين الحقيقة والخيال" حيث الواقع بوصفه مرجعا (موضوعا) للنص القصصي لا ينطرح بصورته إلا بعد أن يندغم مع قوى التخييل الذاتي؛ فالقصة – بناء على ما سبق – قسيم مشترك بين الحقيقة والخيال. ربما تعترضنا – كما في هذه المجموعة – بعض قصص تنقل الواقع/ الحكاية دون أن ينغمس في ماء التخييل، ولكنه الرصد المشهدي الذي يستبطن حمولات دلالية وثقافية وأيديولوجية، وقتها تتحول القصة إلى حمولة رمزية لا تعتمد على الخيال، ولكنها ترتكن إلى انفجارات الوعي الذاتي حيث تستقرئ الذات العالم من خلال الرؤية الراصدة لمشاهد بعينها تعبر عن الأنا الذاتي أو المجتمعي.
وقبل الولوج إلى عالم المجموعة القصصية: "بيريه صوف أخضر" لــ هايدي فاروق، يجب التنويه أن فنّ القصة القصيرة زئبقي في تمثلاته/تشكلاته ولذا يستطيع أن يستدخل إلى عالمه كلّ الأجناس الأدبيّة الفنية الأخرى كالسينما والمسرح وفق ما تقتضيه طبيعة مرجعها الــ (خارج – نصي).
يتصدر المجموعة القصصية: "بيريه صوف أخضر" لــ هايدي فاروق العنوان، الذي ارتأيت فيه أحد أمرين دون أن أنتصف لأحدهما. الأول: ربما يكون العنوان محض اختيار إشهاري حيث يتم اختيار أحد العناوين الفرعية وتصعيده إلى أفق العنوان الأكبر للمجموعة تكهنا من الكاتب أن هذا العنوان ملفت لنظر القارئ دون غيره. الثاني: أن تكون هناك - بعد مطالعتك للمجموعة القصصية – وحدة جامعة تنطوي تحتها المجموعة القصصية في إطلاقها.
يتشكل العنوان من ثلاث مفردات: [بيريه/ صوف/ أخضر] فالأول يشير إلى الرأس ومحيطها، حيث تحتشد بهذه الرأس الرؤى التي من خلالها يستطيع القاص أن يفكك شفرات الواقع. أما "الصوف" بوصفه مقاوما للبرد؛ لاحتفاظه بدرجة الحرارة لأطول فترة ممكنه، نستطيع أن نحمله دلالة رمزية ليتحول الــ "بيريه" – من خلال جنسه الذي ينتمي إليه – إلى برزخ يحمي خصوصية الذات الإنسانية ويمنحها استقلالها الفكري؛ لتحتفظ الذات الإنسانية بكيانها الرئوي الذي يحاول أن يفكك شفرات العالم/ الواقع دون أن تنكشف رؤيته للعالم. أما مفردة "الأخضر" فهي تشير – وفق ما هو متلاحظ لدينا – إلى طبيعة الذات الإنسانية وشغفها بالحياة، ومع ما ينتاب هذه الذات من انكسارات تظل خضراء لتواجه هذا العالم، وكل هذه المعاني والحمولات الدلالية وجدناها منطرحة كمرجعيات نصية للمجموعة القصصية في عموميتها.
تتوزع هذه المجموعة القصصية – باختلاف أنماطها – على عدة محاور نستطيع من خلالها أن نستقرئ النص قراءة واعية تنصفه وتضعه في أفق التلقي الملائم له.
المرجع بين الواقع والتخييل:
الموضوع- بوصفه المحايث - منطرح في العالم بطبيعته الوجودية، ولكنه عند دخوله إلى العالم النصي يتعمّد بماء التخييل، هذا الأخير الذي يجعل الموضوع أكثر تجريدا وانفتاحا على العالم، حيث يتحول من كونه موضوعا مباشرا/ سطحيا إلى موضوع أعمق رؤية وأكثر استغوارا، وما وصل الموضوع النصي إلى هذه الدرجة من العمق إلا بالتخييل الذي من خلاله ترى الذات موضوعات العالم. في قصتها "هكذا رأيت" يتحول (الموت) بوصفه موضوعا نصيا إلى صوت يؤرق الذات ويقض مضجعها، ولا يصدر إلا من مساحة/ حيز/ شيء تنجذب إليه الذات وتعشقه ولا تجد راحتها إلا فيه. فتقول: "عندما سمعت صوته ينبعث – من جديد – من أحد الأركان الصغيرة في الشَّقة، وبالتحديد ركني المفضّل، الذي أحتسي فيه قهوتي وأتصفّح الأخبار صباحا؛ أحاطني الخوف والحزن. جافيت المكان أياما لكنه أبى أن ينقطع... ظلّ يواصل الليل بالنهار صوتا مؤرقا متعبا محطما للأعصاب... عاندته جلست قبالته بالساعات في تحدٍّ." إنّ إضافة مفردة (الصوت) إلى ضمير الغائب (هــ) يدل على أنه دخيل على المكان ولا ينتمي إليه، ولكنه يستطيع الولوج إلى المكان متى شاء.
تحول (الموت) من كونه حقيقة واقعية إلى صوت عن طريق التخييل، وهنا تتجلى رؤية القاصة أن الموت يشبه الصوت تماما، فمن منا يستطيع أن يمنع وصول الصوت إليه؟ وهكذا الموت يأتي/ يلج إلى بيوتنا وذواتنا دون أن يمنحنا حريّة الاختيار، بل يمارس عنفه على الذات ويستلبها من حيزها في العالم.
الصوت يقتضي مسافة حتى يصل إلينا، هذه المسافة = العمر/ الزمن والذي من خلاله ينفذ إلينا الموت، إذن، هناك علاقة تشابه بين الموت والصوت فكليهما ينفذ إلى عالمنا دون رقابة عليه أو اختيار منا. يحتاج كلاهما إلى مسافة زمنية يستطيع من خلالها الولوج إلى الذات.
هذه الشخصية التي عانت هذا الصوت مرتين: مرة مع أبيها ومن بعده خاضت نفس التجربة- هذه الذات لا نعرف عنها شيئا مع أنها تتحدث بضمائر المتكلم: [أحاطني/أعيش/ أنثر/أقبلت/كنت/ تابعته/شعرت] لم تستطع أن تعرف نفسها تعريفا يميزها عن غيرها بسمتها الشخصي، ناهيك أنها الشخصية المركزيّة في القصة، ولكنها ليست مقصودة بسمتها الشخصي ولكن بوصفها الإنساني لتتحول هذه الشخصية إلى ممثل ينوب مناب الذوات الإنسانية التي يؤرقها الموت وينازعها حيزها في الوجود.
إن الصوت – في القصة – يحمل رمزية القلق أكثر من إحالته على الموت بوسمه مرجعا نصيا؛ فقلق الموت أشد لعنة من الموت ذاته وإن اعتور الإنسان هذا القلق سيموت ألف مرة قبل أن يموت، ولهذا جعلت هايدي فاروق مقولة عبدالرحمن الكواكبي مفتاحا نلج من خلاله إلى النتيجة التي توصلنا إليها بعد القراءة، حيث يقول: "أن الهرب من الموت موت، وطلب الموت حياة، وإن الخوف من التعب تعب، والإقدام على التعب راحة، وإن الحرية هي شجرة الخلد وسقياها قطرات من الدم."

ذاكرة المكان بين الصوت والمرآة:
للمكان وجوده الحقيقي والمتخيل في المجموعة القصصية "بيريه صوف أخضر" لــ هايدي فاروق حيث يتخذ المكان فضاءً متعاليا على طابعه الطوبغرافي، ويقع في مخيلة السارد وفي البنية النصية بين ديالكتيك الحقيقي والمتخيل، والأخير هو الذي يكشف لنا عن حقيقة المكان بوصفه حاملا للهوية والذاكرة.
في قصتها "ليلة العودة" تحكي القاصة عن فتاة انتزعت هي وأمها من محيط القرية بعد وفاة الأب؛ حيث كانت الأم من وجهة نظر أهل القرية لعنة على زوجها بوصفها قاهرية، ينظر إليها نساء القرية على أنها أفعوان فالقاهريات – وفق الرؤية القروية – يستملن الرجال بجمالهن وميوعتهن ناهيك عما يُختزل في المركوز الثقافي القروي تجاه القاهريات. بعد وفاة الأب مورس على الأم وابنتها ضغوطات نفسية جعلتهما ينتقلان إلى المدينة مرة أخرى. بناء على ما سبق تقع القصة في جدلية المدينة والقرية، ولذا تعمدت السردية في هذه القصة أن تظهر المكان اللامرئي عن طريق تمظهرات الوصف السردي للقرية بين ما هو ظاهر وما أضمرته القرية في ذاكرة المكان، تقول: " كنت أذهب للمدرسة فتذهل التلميذات الصغيرات من بنات العزب المجاورة للبلدة فور رؤيتي داخل العربة، يتهامسن وهن يقفن بملابسهن المدرسية الرّثة، مشدوهات فاغرات أفواههن، وقد فشلت أربطة الساتان الملونة في هندمته فيظهر أشعث... ينتعلن في أيام المطر أحذية بلاستيكية طويلة تصل لركبهن. يصوبن نظراتهن لي وللعربة، يقذفن الحصان ببعض قطع الطوب الصغيرة."
تشير الفقرة السابقة إلى القرية وتجلياتها وتمظهراتها العيانية. وفي فقرة أخرى تحاول القاصة أن تستظهر ما أضمر في النسق الثقافي القروي وما ارتكز فيه من موروثات حياتية، فتقول: "كانت صارخة الجمال، وهو ما سبب لها التعاسة فقد أثارت غيرة نساء عائلة أبي فور زواجها منه، لأنها كانت قاهرية.. من (مصر) كما تطلق نساء القرية وبنات البلدة على من نشأت في القاهرة. كن حاقدات على (المصراويات)، فنساء مصر في مخيلاتهن أفاع يطبقن على أرواح الرجال حتى يزهقنها، يلدغنهم بسمومهن على غفلة."
عن طريق التوصيف السردي استطاعت هايدي فاروق أن تظهر لك القرية بوجهيها: (الظاهر/الباطن).
تلك الخرافات والموروثات الثقافية جعلت المكان/ القرية يدخل حيز الرؤية وينغمس في ماء التخييل لتعيد الذات اكتشاف المكان مرة أخرى عن طريق آليتي: الصوت، والمرآة.
استطاعت القاصة أن تسترجع المكان في بنية سردية تجمع بين الحقيقة والخيال عن طريق تقنيتي: (الصوت/ المرآة). في القصة ثلاثة أصوات مكبوتة: صوت الأم عندما أرادت أن تطلق صرخة الوداع لزوجها قبل وصوله إلى مثواه الأخير، ولكن مارس نساء القرية عنفهن عليها ووضعنها في القيد ثم انحبس صوتها عنوة، ولكن المكان – بوصفه شاهدا – احتفظ بصدى الصوت المكبوت في ذاكرته. أما البنت فقد توقّف النعش أمام شرفة البيت تلبية لندائها على أبيها وصراخها من أجله، ولكن الأب لم يستطع الوقوف طويلا بعد أن سحب المشيعون النعش إلى المثوى الأخير. فلا الأم استطاعت أن تودع زوجها بما يليق، ولا الأب تمكن من الوقوف – ولو قليلا – من أجل ابنته. وفق موروثنا الديني: ترى الأرواح – لا سيما التقي منها – كل ما يعن أو يطرأ على أسرهم بعد الفقد؛ ومن هنا ينشأ الصوت الثالث (الغيبي) مترددا صداه في البيت، حيث يرفض الأب أن يقطن البيت سوى زوجه وابنته اللتين مورس عليهما عنف الواقع وأخرجا قهرا من البيت، وسيظل هذا الصوت منوجدا في المكان مشردا في العالم يمارس عنفه هو الآخر كما مورس العنف على أهله. توهّم أهل القرية أن هذا الصوت لن يسكت حتى تعود ابنته إليه في نفس الحيّز، وعندما دخلت الفتاة البيت استحضرت طفولتها على المرآة واستعادت ذاكرة المكان وتلك المرارات التي كانت تعانيها الفتاة عندما تسمع صوت القطار الذي طالما أرقها وأفزعها في طفولتها؛ بسبب قرب البيت من (المزلقان)، ليس هذا وحسب، ولكنها استعادت حوادث الدهس التي راح ضحيتها كثيرون حتى عامل الإشارة.
تحيل القصة في عموميتها إلى نوستالجيا الطفولة وارتباط المكين بالمكان، ولكن الموضوع النصي انبعث إلى القارئ من أفق التخييل لا من الواقع لينفتح الأخير على مرجعيات نصية لا متناهية، كما استطاعت القاصة عبر المخيال السردي أن تعبر عن تلك الشعوريات والانكسارات التي تعانيها الذات عندما تغادر المكان عنوة. لولا قوى التخييل السردي ما استطاع القارئ أن يتلمس تلك المعاني والحمولات الشعورية، فلم يحدث التواصل بين السارد والمسرود له عن طريق الواقع أو الموضوع ولكن من طرائق التخييل.
التفكيك المشهدي للعالم/ التناحر الطبقي:
في قصتها "حفل للتذوق" ترصد القاصة مشهدا من خلاله تفكك العالم الإنساني من خلال الصراع الطبقي بين الأنوات المشكلة لــ (أنا- المجتمع). فـ (مصطفى) يمثل الطبقة الدنيا/التحتيّة في العالم الإنساني. اقتحم هو وفتاة أحلامه (قمر) حفلا لـ (الأنا- الرأسماليّة) بغية أن يقتنص هو وفتاة أحلامه اللعوب لحظة يشعران فيها بالامتلاء والشبع، وبعد أن توهّم هذا تفاجأ أنها مجرد حفلة للتذوق. حاول أن يشرب مرات ومرات – وبشكل همجي لا يتلاءم مع طبيعة المكان – ولكنه لم يصل إلى أدنى درجة من التعرف على المنتج الجديد الذي تروج له الشركة.
هذه القصة – تحديدا- أخضعتها للتحليل الرمزي مع أنها تحكي/ ترصد لنا مشهدا من الواقع لم تعبث به قوى التخييل، بيد أن معالجة القصة بسطحيتها/ مباشرتها يقلل من قيمتها النصيّة، فلم ترصد لنا القاصة هذا المشهد من باب تسليط الضوء عليه وحسب. وجدت منظومة رمزية تحتشد في البنية السردية لهذه القصة.
وتتمثّل هذه المنظومة الرمزية بحرفية القاصة التي جعلت البنية النصية مع تماسها العنيف مع الواقع- تنفتح على منظومة أخرى من الدلالات تؤول العالم والنص معا، كما هو موضح بالجدول:
الرمز الدلالة التأويل
الحفل الـ (أنا – الرأسمالي) الهيمنة على المكان
مصطفى الــ (أنا- التحتي) القهر/ الطرد/ الإذلال
قمر الحلم الرغبة
التذوق المفاجأة أيقون تصوري= الخداع
الآواني الذهبية الخداع الوهم
المساحيق الإغراء استعلاء بالباطل
الأمن السلطة نفوذ الرأسمالية العالمية
الحوار صراع تناحر الطبقات
الطرد العنف انغلاق المساحة على الأنا
الجسد/ قمر جسد الحلم امتلاك الجسد بالمال
إذن، تحولت المشهدية المسرودة إلى منظومة رمزية ينفتح من خلالها المشهد على فضاءات لا متناهية من التأويل مع أن القاصة/الساردة نقلت لنا الواقع دون أن يتعمّد في ماء التخييل.
تقنية الحلم والاستعلاء بالزمن الغيبي:
من المسارب السردية المتخيلة التي ارتكزت عليها هايدي فاروق في مجموعتها القصصية "بيريه صوف أخضر" مسرب (الحلم) فقد تجاوز الأخير كونه تقنية إلى آلية كشف عن مضمرات النفس البشرية وهذا متلاحظ لدينا في قصتيها: [ بيريه صوف أخضر/ حجر من زبرجد] حيث كان الحلم سببا في اكتشاف حقائق مضمرة في النفس البشرية. الحلم عند هايدي فاروق ركيزة معرفية يتوجب على الإنسان تفعيلها؛ ليكتشف العالم والذوات من حوله. فإذا كان الواقع في زمن ما طويت فيها حادثة بعينها وفق سياقاتها وملابساتها، فالشخصية تستعلي على شرط الزمن بزمن غيبي متعال ومغاير تستطيع الذات من خلاله أن تستجلي ما استغمض عليها، ولكن الجديد عند هايدي فاروق -أنها وفق مخزونها الثقافي ووعيها بالعالم- تريد أن يفعل الإنسان باطنه/ حدسه بغية الولوج إلى العوالم الأخرى التي يَتَفَسَّرُ بها العالم من حولنا، بل تجرّم إغفال هذه المواهب الربانية وتهميشها في حياة الإنسان، ولهذا كان مفتتح قصة "بيريه صوف أخضر" دالا على ما تصبو إليه الساردة/ القاصة في هذا الشأن، حيث استدعت مقولة إحسان عبدالقدوس مفتتحا لهذه القصة حيث يقول: "الامتناع عن استعمال قدرة الله التي وهبها للإنسان جريمة توازي جريمة الكفر بالله.".
تحولات الجسد والعالم في المجموعة القصصية:
أظنّ أنّ القاص – بعينه الراصدة – يتحرك وفق حركية العالم من حوله، بل يرصد تلك التحركات ليؤدي الفن القصصي مهتمه الفنية والتأريخية على حد السواء، لا نقول يتماهى مع الواقع ولكنه يراقب حركته، وفي الآن نفسه يتابع حركة الذات ومآلات الإنسان وفق متغيرات العالم.
أدت المجموعة القصصية "بيريه صوف أخضر" هذه المهمة ولم تتغافل عنها حيث رصدت القاصة تحركات/ تغيرات العالم من حولها، ورصدت تحولات الذات/ الجسد في العالم.
تحولات العالم وفضاءات الجريمة:
في الآونة الأخيرة تعددت/ اتسعت فضاءات الجريمة في العالم جرّاء عمليات التشويش وضرب المركزيات التي تتعرض لها الذات الإنسانية. وقعت بعض الذوات فريسة لهذه التغييرات التي تنتاب العالم وتحاول تغيير مسارات الإنسان وتهشيم القيم الأخلاقية.
في قصتها الموسومة بــ " في الشهر الأخير" ترصد لنا القاصة جريمتين لم نعهدهما من ذي قبل. الأولى: الغيرة الزوجية التي تدفع الزوجة أن تمارس الجنس مع عشيقة زوجها وتتعلل بأنها إن وصلت لذلك فقد أطفأت نار غيرتها، فتقول: "السبب في أنه يمكنك أن تطفئي نيران الغيرة تتشاركان في شخص واحد، ما دمت لمستِها فسيتلاشى انبهارك بها وغيرتك أو ستشعرين زوجك أنه غير مميز؛ عشيقتك لم تعد لك وحدك، لقد توغلت لنفس العمق الذي توغلّت أنت فيه. وقتها سيزهد هذه المتعة وربما ستزهدينه هو شخصيا، سيصيبك الغثيان، وإن حاول معها مرة أخرى سيشم رائحتك فيها."
هذا الفعل يعد طفرة في عالم الجريمة بل خروجا عن نسق الإجرام المتعارف عليه. وهذا الانحراف الخلقي يرصد لنا كيف تحول العالم منن حولنا، واستطاعت القوى الشيطانية أن تهشم ركائز الأخلاق في الذات الإنسانية.
في نفس القصة ترصد لنا القاصة جريمة قتل من نوع مختلف، قتل (رقمي- تخاطري) مع سبق الإصرار والترصد. هذا الفعل ليس بجديد ولا خارج عن السياق فقد عرفنا أن هناك ما يسمى بإدمان الموسيقى الرقمية، وهذا النوع من الإدمان يصل بالإنسان إلى هاوية الانتحار.
أما الجريمة الثانية التي رصدتها لنا قصة "في الشهر الأخير" : أمٌّ تعرضت ابنتها لجريمة قتل وكانت برفقة صديقتها، ولكن الأخيرة نجت. هذه الأم أضمرت حقدا تجاه صديقة ابنتها بل توسع محيط الحقد ليشمل أكثر من صديقة كانت تربطها علاقة بابنتها. تمت جرائم القتل عن طريق التخاطر، واستخدمت القاتلة اسما مستعارا لحساب فيسبوكي تتواصل من خلاله مع الفتيات، واستطاعت أن تتمكن منهن وتجعل كل واحدة تلقي بنفسها في الماء بغية الوصول إلى عشيقها.
تحولات الجسد/الرغبة في الفضاء الرقمي:
لم تتوقف الرغبة الجنسية عند حدود الاحتكاك بين الجسدين.. فقد خلق الفضاء الرقمي سبلا مبتكرة لعملية تفريغ المكبوتات الشهوانية؛ فالأخيرة تخطت – وفق تغييرات العالم – حدود الجسد، حيث تستطيع التواصل جنسيا مع الآخر وبينك وبينه ملايين الأميال، وهذا ما رصدته لنا قصة " إلى حجرتك بأثينا" حيث تمارس الزوجة الجنس – خيانة لزوجها – مع رجل آخر يقبع بعيدا عنها عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، دون حدوث احتكاك بين الجسدين، ولكنها تشعر بنشوة عبر الوسيط الرقمي، لا تستشعرها مع زوجها (الحاضر/ الغائب)، وهذا يعد تحولا خطيرا في عالم الجسد الإنساني، بما يتنافي مع طبيعته التي جبل عليها، وهذا نتاج التغيرات التي يمر بها العالم والإنسان في آن. كيف تشعر بالنشوة والانتشاء دون أن يحدث تماس بين الجسدين، بل تمتهن ذات الزوج ويغيب عن الواقع مع حضوره الفعلي في حيز البيت. تقول: "كيف قلت له هذا الكلام؟! أغمضت عيني سريعا متذكرة ما كنا عليه بالأمس. منذ سنوات بعيدة لم أكن أنثى كما كنت البارحة، لقد اعترفت بما أريده منه بكل سهولة وكأني عاشقة أبيع الهوى!
يغلي الجسد الأنثوي ويفور بالرغبة ويضج محاولا اختراق حدود الجسد/ المكان/ البيت الذي وفق ظروفه الحياتية كسر الرغبة الأنثوية داخل الجسد وأثقله عن الحركة، ولذا كانت تضج من بطء حركة السلحفاة المنحبسة في صندوقها ولم تكن تبدي اعتراضا على حياتها، تلك الحياة= حياة الجسد الأنثوي، الذي انكشف داخله/ باطنه باعتراضه على نمط حياة السلحفاة، تلك الأخيرة من خلال حياتها ونمطيتها استطاعت الكاتبة أن تستجلي الصراع بين (الخارج/ الداخل)، إذن، السلحفاة كانت بمثابة مرآة تتجلى عليها رغبة الأنثى وفوران الجسد بالشهوة، لا عن طريق التماثل ولكن عن طريق التنافر الأيقوني.
ليس هذا وحسب، بل ترصد لنا القاصة تحولا أكبر خطورة من هذا. في قصتها "elina" يدخل الزوج وسيطا رقميا أنثويا ليشاركه العملية الجنسية حال اتصاله مع زوجه.
بعين راصدة وبحرفية استطاعت القاصة أن ترصد لنا تحولات العالم والجسد في الفضاءات/ الوسائط الجديدة. فلم تنفصل القاصة عن واقعنا الذي نعيشه بل التبست به وراقبت تحولاته ثم عبرت عن هذه التحولات في الفضاء القصصي.
المجموعة القصصية "بيريه صوف أخضر" لــ هايدي فاروق توزعت على أنماط تمثيلية وموضوعية/ مرجعية مختلفة، استنزلت الواقع غمسته بماء التخييل السردي، ليتمكن القارئ من مكاشفة العالم على مرايا المجاز. رصدت المجموعة تحولات العالم والجسد بلغة أدبيّة وفنية تتسق مع سياقات النص. بينما مجموعة أخرى استنزلت فيها هايدي فاروق الواقع وتماهت معه عن طريق الرصد المشهدي، ولكن المشهد وفق مرجعيته ومقصدية الساردة أصبح حمولة رمزية تنفتح على منظمومة لا متناهية من التأويل مع استغراقه – بالكلية – في الواقع.



#محمد_عبدالله_الخولي (هاشتاغ)       Mohammed_Elkhooly#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تَشَكُّلَاتُ الأنا صُوفِي بين عمق التجربة وسيولة التعبير قرا ...
- استراتيجيات التناص وآليات الخلاص من أزمة المصطلح -دراسة تحلي ...
- تَشَظِّي الخطابات وانكشاف النسق المضمر في رواية -حجر نفيسة ب ...
- سرديات (اللامرئي) بين الواقع والمتخيل في القصة القصيرة قراءة ...
- الرواية التاريخية: فانتازيا المصطلح وماهية التمثيل
- سردية الروح في مقامات البوح قراءة نقدية في المجموعة القصصية ...
- تجليات الذات الأنثوية ومكاشفة الأنساق المضمرة في الوعي الجمع ...
- شعر العامية المصرية بين إنسانية المعنى ودهشة التصوير ديوان - ...
- النيرفانا الشعرية وجماليات الانتهاك قراءة نقدية في ديوان -أن ...
- الشعر بين جمالية التركيب وعمق الرؤية قصيدة -ندبة زرقاء- لوسا ...
- انشطار الهويَّة بين فلسفة الرؤية وشاعرية البناء قراءة نقدية ...
- النص الشعري بين هيمنة المبدع وسلطة القارئ ديوان - من أحوالها ...
- الرواية والواقع وأيديولوجيا المجتمع قراءة نقدية في رواية - س ...
- السرد الروائي من التاريخ إلى الاستشراف جدلية الزمن واللازمن ...
- الرواية بين الواقعية والرمزية قراءة نقدية في رواية - بتوقيت ...
- ملائكيّة الرؤيةِ وفنيّةُ التشكيلِ – قراءةٌ نقديّةٌ في أعمالِ ...
- أحلام النوارس
- قصدية النص واشتغال العلامة السيميائية قراءة تأويلية في شعر م ...
- سيف من العهد القديم
- تجليات الروح وسيميائية الشعائر.. قراءة صوفية في ديوان -قمر- ...


المزيد.....




- اكتشاف أقدم مستوطنة بشرية على بحيرة أوروبية في ألبانيا
- الصيف في السينما.. عندما يصبح الحر بطلا خفيا في الأحداث
- الاكشن بوضوح .. فيلم روكي الغلابة بقصة جديدة لدنيا سمير غانم ...
- رحلة عبر التشظي والخراب.. هزاع البراري يروي مأساة الشرق الأو ...
- قبل أيام من انطلاقه.. حريق هائل يدمر المسرح الرئيسي لمهرجان ...
- معرض -حنين مطبوع- في الدوحة: 99 فنانا يستشعرون الذاكرة والهو ...
- الناقد ليث الرواجفة: كيف تعيد -شعرية النسق الدميم- تشكيل الج ...
- تقنيات المستقبل تغزو صناعات السيارات والسينما واللياقة البدن ...
- اتحاد الأدباء ووزارة الثقافة يحتفيان بالشاعر والمترجم الكبير ...
- كيف كانت رائحة روما القديمة؟ رحلة عبر تاريخ الحواس


المزيد.....

- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ
- . السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك ... / السيد حافظ
- ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة- / ريتا عودة
- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد عبدالله الخولي - القصة القصيرة المتخيل الذاتي والتخييل المرجعي ورصد تحولات العالم -بيريه صوف أخضر- ل هايدي فاروق أنموذجًا