|
رواية (من جراب الكونغر) للكاتب أحمد عبده على طاولة النقد بقصر ثقافة ديرب نجم بالشرقية
مجدي جعفر
الحوار المتمدن-العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 10:54
المحور:
الادب والفن
تحلق أدباء نادي أدب ديرب نجم والشرقية حول رواية (من جراب الكونغر) للكاتب أحمد عبده، وأدار الندوة الاديب مجدي جعفر، وجاء في تقديمه: ولد أحمد عبده في أول حقبة الخمسينات في القرن الماضي، زمن ثورة يوليو 1952م، زمن المد القومي، والأحلام الكبرى، بناء السد العالي، والنهضة الزراعية والصناعية، وشأنه شأن أبناء جيله كبرت احلامه وتضخمت مع شعارات الثورة البراقة، ولكنها سرعان ما أجهضت مع هزيمة 1967م،التي أفقدت معظم المثقفين توازنهم ومنهم من انسحب من الحياة العامة واعتزل حزينا مكتئبا. رائ بعينه حروب الاستنزاف، وتابع بشغف آثارها المدمر علي العدو، فأعادت إليه كما أعادت للكثيرين الثقة في النصر واسترداد الأرض والكرامة. انض م إلي المؤسسة العسكرية، وصار واحدا من ابنائها، ولاهم له سوي الله والوطن. ولأنه ابن القرية المصرية، فقد تتمثل قيمها وأخلاقها وموروئاتها، فجمع بين قيم وأصالة أبناء القرى وانضباط المؤسسة العسكرية. وتتنازع تجربته محورين مهمين شكلا معظم نتاجه القصصي والروائي الذي وصل إلي العشرين عملا إبداعيا غير مجموعاته القصيصية التي كتبها للأطفال، فضلا عن ثلاثة كتب سياسية. المحور الأول: القرية المصرية: وشق لنفسه في تناولها أسلوبا اختلف تماما عن أساليب كل الكتاب الذين تناولوا القرية المصريه. المحور الثاني: أدب الحرب والمقاومة، وخرج علينا في السنوات الأخيرة بأعمال قصيصية وروائية لاتعرف الحدود والفواصل، ولا الجغرافية، ولا الجنس ولا اللون ولا الدين-إبدعات إنسانية خالصة ……………………………… وجاء في ورقة نقدية للكاتب ياسر عبدالعليم: (يمتلك الكاتب القدير أحمد محمد عبده القدرة الفارقة علي أن يكون حكاء ماهراً في صبر وأناة ودربة مكنه من ذلك طبيعته الشخصية التي يميل إلي الهدوء والدقة والغرام بالتفاصيل ومكنته من ذلك تجاربه الحياتية وانغماسه بحكم النشأة في طبيعة القرية المصرية بتقاليدها وطقوسها العريقة وشوارعها وبيوتها ومكنته من ان يرتدي عباءة الحكاء الماهر الحذف لغة طيعة يملك السيطرة علي مفرداتها وتطويعها يحيلنا إلي ذلك منذ البداية غلاف الرواية اليت نحن بصددها اليوم والتي حصرنا مؤلفها في إطار المـتوالية الروائية فتحت عنوانها ( من جراب الكنغر ) يأتي عنوان فرعي ( متوالية روائية ) أقول اختيار لوحة الغلاف ذلك النوبي أصل الحضارة المصرية من يحمل سمات وجينات الشخصية الأولي التي أسست الوادي قديماً ذلك النوبي وهو يمسك ربابته يحكي لنا ما مرت به الشخصية المصرية عير حقب متنوعة وهو يجلس تحت شحر يابسة عليها عصفور وخلف المشهد قمر ليلي ساهر يشع عليه مزيداً من الأساطير . عادة ما يهدي الكاتب عمله وهو عصارة روحه وفكره إلي عزيز يقدره أو شخصية أثرت في حياته أو رمز ما فارق دنيانا أما أن يكون الإهداء إلي أجداد فارقوا الحياة من ألف عام حقرت علي ملامح وتجاعيد وجوهنا أثارهم وسماتهم وحياتهم المتوارثة في دمائنا ولكن هؤلاء الأجداد من ألف عام مضت هم المقهورون بسلطة العنت والعذاب والامبراطوريات الفاسدة سواء من المماليك والعثمانيين انتهاء بأسرة محمد علي الكاتب كان مصراً علي ان يلج الأرض المقهورين تحت هذه الامبراطوريات الغاشمة هم أحق بالإهداء من ألف عام لم تحكم مصر نفسها وتلك الاحالة السياسية تأخذنا إلي هذا الانطباع منذ البداية وتؤكدها الكلم الافتتاحية بعد الإهداء للمستشرق الفرنسي بارتلم سانف هيلار الذي عاش في القرن التاسع عشر وشهد بما يعينه كيف دفن المصريون تحت أقدامهم وهم يحفرون قناة السويس وكيف كممت أفواههم وأرواحهم بعد فشل ثورة عرابي وكأنهم عندما أرادوا أن يخرجوا من القبو الذي ظلوا فيه ألف عام ويتنفسوا نسيم الحرية قمعوا مرة أخري تحت التراب لأكثر من اثنين وسبعين عاماً وربما اتضح ذلك الرمز السياسي منذ الوهلة الأولي في مواويل الكرباج ودوار العمدة والخفراء وشيخ الخفراء و×× السخرة في حفر القناة وطعن الوجع في ليالي الشقاء يحملها الكنغر في جرابة وهو يقفز من مرحلة زمنيه لأخري ومن كل مرحلة يجسد حجم المعاناة عبر السهول والوديان . وفي تلك الفقرات الكنغرية والمتوالية الروائية التي بين ايدينا بقسم الكاتب قفزاته كنغرة إلي ثلاث كتل روائية واختار لقطة الكتلة الأولي ثم الثانية ثم الثالثة وما تجعله لفظة ومفردة الكتلة من عناء وثقل ومشقة ومشحوناً بالمورثات الريفية التي مازالت طازجة في عقل كاتبنا القدير ومستلحاً باللغة ومقررات الشعبية والفلكورية مضي يقفز بنا عبر الزمن مسجلاً جراحات الفلاح المصري مستعيناً بالحكايات الادرسية في أرخص ليالي ليضع أمام أعيننا صورة ناطقة للقرية المصرية كيف كانت في القرنين الماضيين والحديدي هو النموذج البشري الذي اختاره الكاتب ليطرح من خلاله سمات الشخصية المصرية ومعاناتها هو الذي حفر علي ظهره سياط الانجليز في دنشواي هو الذي دفن تحت قدميه وهو يحمل فاسه ومقطفه وهو يحفر الكفال هو الذي تلقي صفعات واهانات شيخ الخفراء والعمدة لحفر الترع والمصارف بالشجرة في ظل حكم محمد علي واولاده هو الذي ظل حانياً حتي صورة يوليو هو الذي ظل يقضي حاجته علي تل السامر وأولاده ونسائه وأطفاله .......... هو الفلاح المصري المعذب ملح الأرض وثمرتها عبر العصور هذا الحديدي الذي يتساءل باكياً متنجياً ×× اذا كنت يارب وضعتنا في حضن النيل فإلي متي يظل النيل يشكو من العطش وخيرنا لغيرنا
هذا الحديدي في الكتلة الأولي وفي الفاصلة الروائية الأولي علي بركة الرب منحه الكاتب بعض الملامح الأسطورية في رحلته بحثاً عن قرية أخري تأويه بعيداً عن عيون السلطة وقهر العمدة حين يتغني باشعار شوقي عن التمر رغم أن حديدي الكتله الأولي في (هلي بركة الرب) يسبق ميلاد شوقي بعشر سنوات وإلي ذلك أشار الكاتب في الهوامش التمر والنخيل غذاء المعذبين المهجرين بل تمتد اللمحات الأسطورية الفلكورية إلي زوجته مبروكة وهي تغني يا عزيز عيني ونفسي أروح بلدي وهي أغنية يا عزيز عيني التي القها ×× يونس القاضي وغناها مطرب الشعب سيد درويش عام 1915 وهي تصور معاناة المصريين أثناء الحرب العالمية الأولي وغربة الجنود المرحلين عن ذويهم وهي من أحداث تالية لزمن الحديدي ومبروكة سنوات حفر القناة ومن الطابع الأسطوري في شخصيه الحديدة الأولي علي بركة الرب انه يطلق حكمات تصير مثلاً وعرفاً وعند موت حماره في رحلة البحث عن قرية أخري تؤويه في حضن النيل يقول الحديدي ( لله ما أعطي ولله ما أخذ) ( ومن يومها والكلمة علي السنه أهالي المنطقة ) ( ما يضير الشاة سلخها بعد ذبحها) سمعها بعض المارين في الطريق من الحديدي ومن يومها والمثل سائر علي السنه الناس صـ 24 الرواية وربما هي أقوال سائرة تتردد منذ قرون بعديه مضت ولكن من المؤكد أن فلاحاً ما علي ضفاف نهر النيل قالها يوماً ما وليكن هذا الفلاح عند الكاتب / احمد عبده هو الحديدي . ثم يأتي الفلكولور الشعبي ليعمق لنا ملامح وجذور الفرحة المصرية لأن الكاتب لم ينسي العنصر النسائي ودورة واسمهامة في ترشيح فلاح مصر في الكتله الأولي من ( علي بركة الرب) بينما اختفي العنصر النسائي أو كاد في باقي الكتل والفواصل الروائية مبروكة زوجة الحديدي وهي تبشر العمدة بمولودة الأول تقول تخاويتي يا أمه بولد يتربي في عباية جده يدبح أبوي الخروف ياخذ نصيب الأســــد واخـد انا جلــــــــــده والفارقة الأسطورية بين التوأم الولد والبنت وكيف شعرت البنت بالظلم الواقع عليها حين ولدت مع أخيها الولد الذي سيأخذ نصيب الأسد في الاهتمام وكل شئ ويكون نصيبها الجلد والجلد فقط . وتحملق البنت المولودة في عيني مبروكة وتقول ( علي دا العونا وعلي دا العونا راحوا الحبايب وما ودعونا لو كان نرجع للبطن تــــاني كان ابنك يرجع يا أم الجدعاني ) وربما اختار الكاتب هذا الفلكلور الشعبي الكائف والصادم والأكثر تعبيراً عن تاريخ طويل من التقاليد البالية يختم به حكاية الحديدة الأول علي بركة الرب . آثر الكاتب في الفاصلة الرواتية الثانية ( حمار أوجيني ) الأسلوب الساخر فمن السخرة ( سخرة الكنــال ) إلي السخرية والاذلال والمسخرة وكلها مفردات تدور في فلك واحد الحكاء الساخر والكوميديا السوداء جعلت من حمار الحديدي الذي كان من لحظات يحمل أكوام السياخ من الزريبة الي الغيط يحمل شقوق ظهرة جميلة الشرق والغرب جميلة الجميلات "أوجيني" امبراطورة فرنسا التي رصف لها الخديو اسماعيل أثناء احتفالات افتتاح قناة السويس الطريق من السويس إلي القاهرة بميل خفيف حتي تميل عليه طوال الطريق كتب لحمار الحديدي أن تعتلي ظهره فقد كان موصوفاً لها أ، تركب حمار حصاوي قبل أن تغادر أرض المحروسة . الحديدي وأوجيني والحمار والخديو صنعت نسيجاً محكماً من الفانتازيا الساخرة المؤلمة صاغها لنا حكاء ساخر ما هو استطاع ان يخفي دوع المفارقة اللاذعة وراء عينيه وهو يحكي لكنه لم يستطيع أن يخفيها عن عيون مصر فسقطت علي خديها وهي تبكي ................. وتتواصل الكوميديا السوداء المطعمة بالسخرية ولذعات الآلم ليتفاجأ القارئ في المقطع الثالث بـ افيون الملوك لكن هذه المرة بطعم أكثر مرارة أكثر مرارة من الحديدي الرحالة من قرية إلي عزبة بحثاُ عن الامان واكثر مرارة حمار أوجيني لتأخذ طعماً سياسياً صادقاً لفم يعد أحد يحتمل السلطان ورائحة الفئران المتحللة المتعفنة تفوح من فمه لم يعد أحد يحتمل عفونته ونزقه وعبثه بمقدارت الشعب الكل يفر منه زوجته جواريه رجال القصر الوزراء والحاشية بسطاء المحكومين من المقهورين ما عاد أحد يقبله علي عفونته وقد فاحت ريحته وطالت نتانها كل رجل من رعيته ولا شك أن المعادل الموضوعي وإن كان مكشوفاً إلا أنه صادم وجرئ الي حد كبير وربما يجد هوي في صدر كل منا لابد للسلطان أن يترط أفيونه حتي يفيق ويتراجع عن تلك السياسة / العادة اليت دمرت كل شئ من حوله أو قل دمرت وعيه ورعيته الحكـاء الماهر استطاع أن يقوم لك السخرية ممزوجة بالدموع استطاع أن ينسج عالماً يمكن فيه التمرد التمرد فيه مباح وجاء التمرد من داخل المؤسسة من قلب النظام من القصر من قلعة السلطان من جيجك كبيرة الجواري الاشارة واضحة والمعالجة رائعة واذا كان الزمن في المتوالية الروائية يمتد منذ الحملة الفرنسية وبدايات عهد محمد علي في بعض المتواليات انتهاء بثورة يوليو 1952 وبرغم أن كل منها له عنوانه الخاص وفكرته المستقلة في عشر روايات قصيرة جداً إلا أنها مترابطة من حيث البيئة وهي الريف المصري ومن حيث الزمن والمعالجة والشخصية المحورية . وإذا كانت هذه هي الرؤية المسلم بها في التعامل مع الرواية فمن عساه أن يكون السلطان وفي أي حقبة ترك لنا الكاتب كابع التجريد فليكن أي ملك وليكن أي عصر ولكن لابد في النهائية ان يغير الملوك سياستهم الملوك والسلاطين مخدرون مغيبون يعيشون في عالم والناس في عالم آخر يتلذذون بالحـاق الضرر بهم السلطان لا يقترب أو يجرب قدرة احتمال العفن علي رجال البرط أو حاشيته أو إنما يختار الشعب المقهور حقل تجارب الأنظمة والديكتاتوريات المتواليه الواقعية السحرية ترمي بظلالها هذه المرة فهذا النوع القريب من البصل لم يعد يزرع الا في أرض الحديدي ولم يعد متاحاً إلا بضع بصلات منه في حوزة الملك السلطان من محصول العام الماضي ولكن الحديدي دعوه ان يزرع منه كمية في حديقة القصر ليكون قريباً من الملك ولكن تتدخل ( جيجك ) وتخفي الحديدي وتعيده إلي قريته إلي غير رجعة لتجهيز السلطان علي تغيير عادته تتميز أفيون الشعوب عن غيرها من التواليات أننا لو انتزعناها من سياتها في روايد ( من جراب الكنغر) لصارت رواية قصيرة أو قصه طويلة منفردة عن أخوتها في الرواية بعيدة الفرح ومعاناته والشعب المقهور لتتخذ من الحاكم او الفانتزيا شريحة تسقط الظلال من خلالها علي واقع مؤلم فحضور شخصيته الحديدي هو الأقل علي طول فترات الرواية ليحل محله السلطان هذه المرة فرايتا المعاناة أشد ايلاماً .
أمكتوب علينا أن تقر ×× جيلا بعد جيل علي تل السامر الرواية صـ 73 كيف كانت القرية المصرية تفعلها قلب دخول الكتيــف / الكابينيه الحمام / السيارات إلي تلك البيوت البينة ال×× الجميع إلي الكـــل يتوجهون ويرفعون ملابسهم حتي الوسط ويقرفصون رجالاً ونساء أطفالاً وشيوخاً . أنهم ان التل في الريف من السياخ والجلوس عليه للسمر ليس لقضاء الحاجة وهي شئ عادي يجري في حياة كل مغامرات كل يوم ولكن جعلها المؤلف قضية مصيرية يبدد أن العنوان للوصلة الأولي غير قصصي أو جذاب وكأنه تغطيـة اخبارية أو تعال اجتماعي ولكن ما تقفر سطوراً حتي تعثر علي حكاء ماهر يجذبك بغرامة بالتفاصيل والأجزاء وأسماء الاشياء والمسميات الريفية علي حقيقتها ليتماهى مع ادريس قليي او كثيرا في رائعته ارخص ليالي التي قدم لها الدكتور طه حسين 1954 د/ عبدالكريم في أرخص ليالي بعد أن خطف ركعان الفساد الأربعة تسلل من الجامع إلي الزقازق القديم النتن وهو يتعثر في القبية ×× الذين قذفتهم أرحام امهاتهم بلا حساب لا يختلف عبدالكريم عن شهوان كثيراً في تل السامر ولكن دواية التفاؤل والمعالجة تأخذك إلي أبعد من يوسف إدريس تفصيله بعد أخري ترسم لك قرية مصرية ما قبل التنوير مرحلة تسجيلية لحقبة ريفية ما قبل بدايات القرن العشر ين يكاد يجهلها الكثيرون من الأحياء الآن قوبلت فكرة انشاء الكثيف في البيت بمعارضة قوية من الحديدي الشريحة البشرية التي اختارها المؤلف لتكون العباءة التي يخرج منها كل الفلاحين المصريين عبر الرواية . ملامح الانسان المصري في مواقف مختلفة فاصلة الواعظ يوكد أن الشياطين تسكن الكثيف فيقول الحديدي كيف يجلب الشياطين إلي بيته بيديه وهل يعقل أن يترك الشياطين بينون معقلاً وحصنا في بيته يعود الفعــل المصري مئـات السنين إلي الوراء بفعل فتوي رجل الدين الذي قاد العقل الجمعي مئات السنين في عماية الجهل والظلام ومازالت له آثاره حتي الآن . ولكن شهوان الجيل الجديد يحاول التمرد هذه المرة ولكنه تمرد اجتماعي وليس تمرداً سياسياً كما كان في افيون الملوك فيترك والده الحديدي يذهب إلي الحج ويبني الكثيف داخل البيت لأنه يرفض ان يتزوج ويترك زوجته تقرفص علي تل السامر الفلاح المصري مازال يعاني في كتل الرواية لم تلحظ في كتلة واحدة أنه يشعر بالراحة وطاة القهر والفقر تعلو وتيرتها التنكيل بالطبقة الشعبية من أيدي العمدة والسلطان فرض السخرة والجموع والأمراض والهجرة والتهجير الداخلي والتحولات التي طرأت علي القرية المصرية قبل وبعد الثورة العادات والتقاليد والمعتقدات الشعبية الموروث الريفي استراتجية المقاومة سواء أكانت إيجابية أو سلبية عبر شخصيه الحديدي . تأتي رواية من جراب الكنغـر كواحدة من التجارب السردية المتميزة في الرواية العربية المعاصرة ليسعي فيها الكاتب أحمد محمد عبده إلي تقديم نص يمازج بين الواقعية والواقعية السحرية والرمز يعكس فيه قضايا الانسان العربي في علاقته بالذات والعالم في مراحل تكوين القرية المصرية وعنوان الرواية يحمل جرأة ولألية واستدعاء رمزية الكنغــر وما يحمله من غرباه عن البيئة المصرية وما يوحي بع الجراب من احتواء وتخفي ودلولالات رمزية في عنوان كان لافتاً ولالاً لا تسير الرواية في خط مستو ولكن في خط متعرج يناسب قفزات الكنغـــر إنها رواية تضع القارئ العربي أمام مرايا متعددة وزوايا مختلفة عن الذات والآخر والقرية ندعو إلي إعادة التفكير في الذات والانتماء والحرية والاغتراب والوطن.) ………………………………. وجاء في ورقة نقدية للكاتب احمد عثمان: بداية وبعد أن تنتهي من قراءة المتوالية؛( يسكنك انطباع راسخ متين أن كاتبنا الكبير ـ عراب القرية المصرية ـ يمتلك ويختزن معرفة عميقة ولصيقة بأدق عوالم القرية من قعرها إلى قمتها، وأصولها المتجذرة على مدي التاريخ، كيف كانت، وكيف أصبحت،عليم بأهلها النابتين من حلفائها، وأصحاب جذور الخروع الوافدين عليها، جراح ماهر في تشريح التركيبة السكانية انثروبولوجيًا وسيكلوجيًا، خبير بطينها طميه وسبخه، وزرعها ومواسم بذره والحصاد،عارف مكين بمفردات لغتها ومأثوراتها أقوالاً وأفعالًا وعادات و ... نستطيع أن نلمس ذلك وأكثر فيما ينثره كاتبنا القدير على مدار السرد .. وفي أحيان كثيرة يتطوع فيشرح مفردة معينة من بيئة القرية لمن هم ليسوا من قاع القرية أو غير العالمين بحياتها، قد تكون هذه المفردة الواردة بالسياق ظاهرة ما، أو أداة ما من أدوات سواء الزراعة أو مما يستعمل في البيوت، وقد تكون جُرمًا يجهله الكثير منا ( كما في ذكره لجريمة تشبيب الزروع بين الفرقاء) ,, وقريبًا من ذلك تستطيع أن تلمس تلك المعرفة الواسعة لكاتبنا بالتاريخ قديمه وحديثه، ووقائعه من خلال استعراض سيرة (الحديدي) وعائلته الممتدة، وما عايشه من أحداث عبر العصور المتتالية حتى عصرنا الحاضر، ومعرفتة الواسعة بجغرافيا البلدان قراها ومدنها من خلال رحله هذه العائلة .. هي سردية غنية بالمعارف يقدمها للقارئ بكل يسر وبلا تقعر أو استعلاء وهو أمر يُحمد لأستاذنا الكبير وأود من البداية أن أشير إلى أمرين استوقفاني لا أتوافق معهما ـ بصفة شخصية ـ الأمر الأول وهو العنوان " من جراب الكُنغر"، فأرى أن استدعاء الكنغر هنا لا يتواءم مع بيئة النص التي تجري أحداثه جميعها في القرية المصرية ، فلماذا استدعاء حيوان ليس من هذه البيئة أو قريب منها وبينها وبين بيئته التي مازال يسكنها في استراليا ألاف الأميال .. ماذا لو سألت فلاحًا من أهلنا عن الكنغر، هل يعرفه؟ .. فإذا كانت الفكرة من استدعائه هو أنه ينتقل بالقفزمن مكان إلى مكان، واستدعاء فكرة القفز هذه للانتقال من زمن إلى زمن ومن موضع إلى موضع آخر فإنه كان يمكن الاستعانة بأداة أو فكرة أو غير ذلك للتعبير عن مضمون الانتقال الزماني والمكاني يناسب بيئة النص والثقافة السائدة أما الأمر الثاني فهو استعمال تعبير " الكتلة" الكتلة الأولى .. الكتلة الثانية .. بغرض ضم المتشابهات من القصص معًا وهذا يتناقض مع فكرة القفزات، فكان من باب أولى استعمال تعبير " قفزة" بدلا من " كتلة" فتكون قفزة أولى .. قفزة ثانية أكثر ملائمة من وجهة نظري
فإذا عدنا إلى السردية ـ محل احتفاءنا ـ فنجد أن الكاتب تماهيًا مع مسرودته قد جعل الإهداء موجهًا إلى أجداده في الألف عام الأخيرة على الأقل باعتباره امتدادًا لهم فيقول: " .. وكنت أنا إصرار بذوركم على الإنبات ـ رغم الجفاف ـ فهل أنا خلاصتكم؟" ليجيب بنفسه على سؤاله لتأكيد هذا الانتماء والامتداد بتوقيعه في آخر الإهداء قائلًا: " واحد من أحفادكم"، ثم يصف نفسه: حفار قبور، ومستكشف حفريات .. وهو ما يمارسه على مدار المتتالية من حفر واستكشاف من خلال شخصية ( الحديدي) فمن هو هذا ( الحديدي)، وما هي إيحاءات الاسم؟ .. فالحديدي منسوبة إلى الحديد، وخصائص الحديد ليست بخافية على أحد، وليس أدل على ما للحديد من قيمة ومكانة من أن يأتي ذكره على لسان ذي القرنين في سورة الكهف (آية 96) في قوله تعالى: " آتوني زُبَرَ الحدِيد .." ليصنع للقوم سدًا حاجزًا اتقاء لشر قوم يأجوج ومأجوج، وكذلك قول الحق في سورة الحديد (آية25) : " وأنزلنا الحديدَ فيه بأسٌ شديدٌ، ومنافعُ للناس" .. فالحديد معدن ذو قوة، وذو صلابة، وغير قابل للتشكيل بسهولة، ويعمر لأزمان طويلة، وله القدرة على التمغنط فيتجاذب ويتنافرحسب المقابل له .. فإذا انتقلنا إلى (الحديدي) الإنسان عمود هذه المتتالية سوف نكتشف كثيرًا من صفات الحديد تنطبق عليه مهما توالت عليه الأزمان والعصور .. فالحديدي ـ من خلال هذه السردية ـ هو تلخيص للشخصية القروية المصرية على امتداد التاريخ، بصلابته ومثابرته وصبره، وقوته ودأبه والتماهي مع التقلبات والظروف التي قد تصهره فتزيده بأسًا، وهو مصدر الحكمة والنظرة الثاقبة التي يمكنها الفرز بين الغث والثمين، تجري على لسانه تحمل خبرات وتجارب الزمن، والتي مازالت ترددها الألسنة حتى يومنا هذا، هو يقول والناس تحفظ عنه، ويتوارثون أقواله، بل ويترحمون عليه قبل أن يرددون مقالته، فيقولون: " الله يرحم اللي قال ... ثم يذكرون قوله الذي جرى بينهم مجرى المثل أو الحكمة أو القول المأثور، نذكر منه بعض مما جاء على مدار المتتالية مثل: ـ ما ياخد الروح إلا خالقها ـ لله ما أعطى ولله ما أخذ ـ الحي أقى من الميت ـ اللي نعرفه أحسن من اللي ما نعرفوش ـ العرق دساس، والعرق يمد لسابع جد ـ جدور البرسيم تنبت برسيم وآخرها تقاوي برسيم ـ من خرج من داره قل مقداره والحديدي ( ممثلاً لشخصية المصري بكل أطيافه) هو ذاك العارف العالم بأسرار الزرع والقلع، والحجر والبشر، وما صغر وما كبر مما يجري في عالم القرية، بل والمحيط ـ كما ذكرت في البداية ـ بأحوال التاريخ ومسالك وأمصار الجغرافيا في بر مصر، فهو من عاصر المماليك والملتزم، وعاصر العثمانلي، وعاصر بشوات وبهوات عصر محمد علي وأولاده وأحفاده، وحفر القناة وشق الترع وبناء القناطر، وجبروت الإقطاعيات، وعاصر التحول من الملكية للجمهورية، بل ويعيش ألى اليوم عصر السوشيال ميديا والترند .. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ولنبدأ الرحلة مع (الحديدي) عبر قصص المتوالية:
**** في القصة الأولى ( على بركة الرب) تلك الجملة التي أطلقها ديليسبس بعدما ذبح عيد ابن الحديدي على رأس خليج السويس ليكون قربانًا لبداية حفر القناة فتسيل دماؤه في البحر( بحر القلزم وقتها) ليسمى بعد ذلك بالبحر الأحمر جراء سيلان دماء عيد به لتلونه باللون الأحمر، يقول الراوي: " ظلت جثة عيد تنتح ما فيها من دم في الخليج حتى اليوم الثاني! فكان أن طغى الدم على ماء الخليج الواصل بالبحر الأسفل، حتى سرى في كل جيوبه وجنباته، كما يسري الماء في نسيج القطن، ومن يومها صار الناس يعرفونه بالبحر الأحمر! ثم قال الخواجة الفرنسي يخاطب الجموع: (الآن .. وعلى بركة الرب؛ نبدأ توصيل الروح بالجسد) ولتبدأ بعد ذلك رحلات الحديدي وعائلته من بلد إلى آخر فرارُا بولديه من السُخرة مخافة فقدهما كما ولده (عيد) **** في قصة (حمار أوجيني) يكون ( الحديدي) حاضرًا بحماره الذي انطبقت عليه الأوصاف التي حددها معاونو الخديوي اسماعيل لتمطيه الملكة أوجيني ـ حسب رغبتها ـ وتسير به إلى جوار حصان الخديوي في شوارع القاهرة، ويحظى الحديدي بمهمة سحب الحمار، ويكون في حضرة الخديوي المتيم بالملكة .. فكان التركيز السردي ـ عبر الرحلة في شوارع المحروسة ـ على المظاهر الشعبية المصرية الخالصة، والتي لا مثيل لها في فرنسا .. كهذا المنظر الذي أُعجبت به الملكة وهي تري فتاة هيفاء تحمل على رأسها جرة ماء ـ بعد ملئها من النيل ـ وتتمايل بها في مشيتها ( وهو بالمناسبة منظر اجتذب من قبلها ومن بعدها فنانين تشكيليين كثيرين رسامين ونحاتين، أجانب ومصريين ليسجلونه في لوحات وتماثيل شهيرة) .. وكذا مشاهداتها التي مرت بها كالقرداتي، والحاوي، والساحر، والدراويش، ومحاسيب المقامات، والشحاذين .. وكأنما أرد السارد أن يقدم للقارئ بانوراما سريعة لأحوال القاهرة، الزاهرة، ومظاهر الحياة فيها في تلك الفترة .. وهو دائمًا ما يزوِّدنا بمعلومات ربما غابت عن الكثيرين منا بين ثنايا الحكاية ..
**** في قصة ( أفيون الملوك) استدرجنا الكاتب/السارد ـ بحرفية ـ كي لا يفتر شغفنا حتى يصل بنا للنهاية التي نود الوقوف عليها، لتجيب عما شغلنا من أمر ذلك السلطان "عثملِّي" ، وممارساته الغريبة التي خرجت عن الإتيكيت والبروتوكولات المعروفة عن السلاطين والملوك .. من إدمانه للبصل، إلى ضم الناس ـ من يعرف ومن لا يعرف ـ إلى حضنه بدون مناسبة ولا سابق معرفة، لا يرد منهم أحدًا، وتلك المتعة في تمريغ خديه وفمه وما ينضح به من رائحة عفنة في وجوه الناس .. كل ذلك دون أن يجيب الكاتب عن السؤال الذي يلازم القارئ: لماذا؟ .. لماذا هذه الممارسات الشاذة في طبيعتها، والتي قد يكون شطح خيال القارئ ‘لى ما هو أبعد؟ .. ما هي الدوافع النفسية في المقام الأول لهذا السلوك؟ إلى جانب الدوافع البيولوجية والفسيولوجية؟ .. ثم ماهي الدلالة الرمزية لهذا السلوك، وهذا الإدمان لهذا الشئ ( البصل) بالذات؟ وهل في التاريخ ما يعضد ذلك؟ .. من أسف لم أعثر بين ثنايا السردية على إجابة أو إشارة تفك ما أحسبه طلاسم.. ومع ذلك أعتذر إن كنت لم أستطع التوصل لإجابات، لربما لقصور أو عطب في مستقبلاتي الذهنية؛ إن كانت وردت بالنص ولم أستطع التوصل إليها .. ويبقى (الحديدي) حاضرًا أيضًا في هذه السردية من خلال قيراطيه اللذان يزرعهما بهذا النوع من البصل الذي يتعاطاه السلطان في كل بر مصر
**** وبعد القفز وعبورقصص (حالات وأحوال تل السامر) و(عُطر العروسة) نقف عند قصة ( عباءة أم شناف): ومن خلال استعراضها؛ تراءى لي أن الراوي/ السارد إنما يحدث نفسه على مدار هذه المسرودة، ومن خلاله يقوم بعرض تاريخي لعائلته (عائلة الحديدي) وعوائل القرية، مع تشريح سيكلوجي موسع ومُقارن بين عائلته والعائلات الأخرى التي تقطن القرية، الرجال والنساء، بل ومقارنة زمن مضى أمام الزمن الحاضر،كل بمواصفاته ومتغيراته، وأجه التشابه والاختلاف، حتى في السلوكيات والمواصفات الخُلقية والخِلقية، وأطماع ورغبات النفس من خلال هذا الانجذاب لنموذجي أم شناف، وأم خلخال .. وتلك المفارقة بين من تضع الذهب شنافًا في أنفها، وما للأنف من سيميائية دالة على الشموخ والأنفة والكبرياء، فترفع هذا الأنف لأعلى، وبين من تضع الذهب في أسفل رجلها خلخالاً، في أدنى مكان من جسمها قرب الأرض؛ استعلاءً عليه وترفعًا، وحطًا من قدره بالنسبة لها ولعائلتها .. كلتاهما تدلل على الترفع والكبرياء والمكانة ولكن كلاً على طريقته وأسلوبه .. وكأن الراوي/السارد يقول لنفسه: يا نفس اخضعي وارجعي، علام تتكبرين وتاريخ عائلتك معروف، مستعرضًا ترحال عائلته من بلد إلى بلد بدوافع مختلفة من الخوف، يقول لنفسه: [استفق، وقف على حقيقتك، إياك أن تغتر بعائلتك وتاريخها، فلم يفلحوا أن يُثبِّتوا جذورهم في أي من الأراضي التي وطئوها، ويصير لهم فرع منطلق إلى السماء، فلم يكونوا يومًا "ناس كُبَّارة"، ولم تكن لهم عصبية تمكنهم من رد العدوان، حتى إذا ما عض أحدهم حمارًا لهم؛ عضوا له حصانا، ومن شبب لهم قيراط ملوخية شببوا له فدان قطن، إلى غير ذلك من أسباب القوة والكبرياء التي يعددها الكاتب على مدار السرد، فيقول بعد هذا الاستعراض: (تظل سادرًا في أوهامك من دون أن تبالي بنظرات الناس المستهجنة لك، والمتعجبة منك، منهم من يجهل أصولكم، ومنهم من يقف على حقيقتها، والويل لمن وقف الناس على حقيقة جوهره، واكتشفوا فيه نقائص ... إلى أن يقول: ولا تهتم بما طال عائلتك من غمز ولمز وتجريح، لم يسلم منه الأموات المدفونون هنا، والمدفونون هناك في سنباط، أو في الدلنجات أو مطوبس ...) ويستمر يستطرد في هذا الطريق، ولا ينسى في معرض استعراضه هذا أن يُذكِّر نفسه بالأمثال الشعبية التي تناسب المقام؛ فيقول في مقام المقارنة بين الأجداد الراحلين وبين الجيل الحالي الذي هو منه: ( العرق دساس)، و(العرق يمد لسابع جد)، و(جذور البرسيم تنبت برسيم وآخرها تقاوي برسيم) . **ثم تأتي قصة (جذور الخروع): والتي جاءت في تداعيها امتدادًا للتداعي في القصة السابقة عليها (عباءة أم شناف) في الكتلة الثانية من المتوالية ( ولذا أري أنه كان لابد لهذه القصة أن تكون ضمن الكتلة الثانية لا الثالثة ـ مجرد ملاحظة) .. حيث تترسخ في هذه القصة ضعف جذور عائلة الحديدي في القرية ـ كما جذور الخروع وجذور القطن وجذور الفول ـ كونهم ليسوا من أصولها الراسخة بها من زمن عميق، وهو ما نراه من ندم (الحديدي) على ترك موطنه الأصلي، مستدعيًا أمثاله الشعبية، فيقول ( من خرج من داره قل مقداره) فجذوره هناك كانت مثل جذور الكافور والكازورين والجميز .. والملاحظ هنا أن الكاتب يقدم من خلال هذه القصة دراسة أنثروبولوجية وسيكلوجية في كيفية تكوين القري وتنظيمها، وتأصيل جذور ساكنيها بحرفية دارس متعمق، وشاهد متأمل، لا يهمل موروثهم من الأقوال التي تصل إلى حد الحكمة والمثل، والأفعال التي تصل في أحد فروعها إلى الاعتقاد الراسخ في التفاؤل بأشياء وأفعال، والتشاؤم من أشياء وأفعال، ( على سبيل المثال فإن الناس تتشاءم ممن يطئون أراضيهم حاسري الرؤوس، فيرونه فأل شؤم على بوار أراضيهم وضعف محاصيلهم) وهو ما كان يراعيه (الحديدي) عند قيامه بأعمال القياس في الأراضي، فلا تبرح البرنيطة الخوص رأسه
** وفي قصة ( حفرية الحديدي): تستعرض في مجملها التأريخ والتأسيس لاسم الحديدي، والبحث عن الأصول،وكيف ضاعت مع توالي الأجيال التي لم تعد تهتم بالأرض والزرع وسكنت بيوت الحجر، واختفت الدُّور الطينية، وارتفعت العمائر المجهزة بالتكنولوجيات الحديثة، بل وفيلات أيضًا على أطراف البلد إن نموذج الحديدي هو في حقيقته اختصار لنموذج الانسان المصري عبر العصور، وهو ما سجله السارد في نهاية القصة ـ بعد لقطة غرائبية ـ لترجمة بالحروف العربية لنقش هيروغليفي لعبارة تقول: ( الحديدي .. مواليد كل العصور) **** ثم تأتي قصة (الطوطم): وهي من أروع قصص المتوالية نظمًا ونسجًا ونزوعًا إلى الواقعية السحرية في غالب بنائها ما زادها جمالا، خاصة وأنها تستدعي بداية الخلق على أرض مصر من طين وديانها ومن مكونات جبالها، لتصل إلى عصرنا الحالي، مرورًا بتكوين الأسرة والمسكن والعمل بالفلاحة واحتراف البناء الذي اشتهر به المصري من قديم، كان يبني للناس حتي بعد أن صارعمدة البلد .. كان خلق (الحديدي) الأول ـ الذي تولته الملائكة بأمر من الله ـ من طين وتراب وديان أرض مصرمعجونًا بالماء المالح ليكون عمود خيمة البلد، وخلقوا بنفس الكيفية (أنيسة) من مكونات جبال بر مصر وعجنوها بماء النيل لتكون سياج الخيمة .. وكأننا أمام خلق ايزيس وأوزوريس، فكان كل خطوهما خير للبلاد والعباد .. وتوالى نسلهما متواترًا بلا انقطاع حتى الساعة، وظل ( الحديدي ) ممتدًا إلى اليوم يغالب الدهر ويأبى الموت ، ليجعل منه كاتبنا من طبيعة تكوينه هو والأرض شئ واحد، فيقول على لسان الراوي: " أما شاهين فكان يبحث في كتب الأحياء التي يدرسها عن تفسير لما ينبت على جسد جده، ففي شهر مسرى يمسح التصحر جسده، وفي كيهك تنبت الحلفاء على أكتافه، وفي برمودة تفرش النجيلة صفحة ظهره، وفي هاتور تكسو الحشيشة قفاه وفروة رأسه، وحواليه على حواف طين المصطبة طلع ذيل القط وبعض عيدان الحلفاء" .. لكن ماكان يؤرق (الحديدي)ويقض مضجعه ما كان كثيرًا يُذكِّر به " عبد الراضي" وهو يقول له: "سوف تنتهي عندك أمور ومعاني كثيرة، عاشت بها الأجيال من عهد إيزيس حتى عهد أنيسة" وكما بدأت القصة بالغرائبية تنتهي بها، في مشهد يلخص الكثير من الحقب، يقول الراوي العليم: " .. راحو يولون جسده بالماء والسماد بانتظام، بعد اسابيع عدة؛ كبرت الحشائش على أنحاء جسده، صار محاطًا بدغل من الحلفاء وذيل القط والنجيل، راح يمارس هوايته في الزحف بين الغرف والممرات، وقع على درجات سلم العمارة، تدحرج، تهادى حتى خرج إلى الشارع، ومنه إلى المزارع والحقول، وشواطئ الترع والقنوات، دخل إلى العريش الذي بدأ فيه حياته مع أنيسة" .. كنت أرى أن تكون هذه القصة هي قصة الختام لأنها تلخص كل ما سبقها من قصص المتوالية ـ من وجهة نظري ـ والتي هي في النهاية هي قصة المصري من بدء التاريخ حتى عصرنا الحاضر في صورة هذا ( الحديدي) الصلب القوي الذي يزداد مع الانصهار صلابة بعدما يذهب عنه الخبث أو ما يعلق به من صدأ فيعود مجلوّا براقًا كما كان في مجده القديم
*** ملمح استوقفني في التناول السردي: ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ استرعى انتباهي ـ عبر معظم إن لم يكن كل المتوالية ـ نزوع كاتبنا إلى دمج ما يطلق عليه الغرائبية أواللامعقول أو الواقعية السحرية أيًا ما كانت التسمية في نسيج السرد الواقعي ، وقد بدا هذا ظاهرَا في معظم نهايات قصص المتوالية، ماعدا قصة واحدة وهي قصة (على بركة الرب) فقد استخدم هذه التقنية في متنها لا في نهايتها كما أخواتها .. ولنا ان تستعرض أمثلة منها: () في قصة "على بركة الرب" ... كان استخدام الغرائبية في متن القصة، حين أراد ( الحديدي) أن يعبر النهر بزوجته وولديه وحماره ومواشيه لينتقل من ضفة إلى الضفة المقابلة ليواصل الفرار من سطوة السلطة وكرابيج السخرة، فماذا حدث .. كان هذا المشهد الغرائبي، على شاطئ ( البحر الصغير) .. وكان هذا المقطع: "ولما كانت الصنادل والمعديات لا تتردد بين الشاطئين ليلًا، انتظر على جرف النهر بأهله ومواشيه حتى يطلع الصباح، لكن النخلتين المتقابلتين الطويلتين الواقفتين على جانبي النهر .. واحدة ببلحها الأحمر، والثانية ببلحها الأصفر، أشفقتا على الأطفال والعجوز والشيخ من رطوبة الليل وضباب النهر، فمالت التي هناك، وجاءت لتحط رأسها تحت أرجلهم، ثم مالت التي هي بجوارهم لتلتصق بأختها، وتحط رأسها هناك على البر الآخر .. صنعتا قنطرة خِلف خلاف فوق سطح النهر، فعبرت العائلة المهاجرة ..."
() مشهد النهاية في قصة "حالات وأحوال تل السامر": حيث شهوان يحاول عبور الشارع الضيق جدًا إلى التل لقضاء حاجته، في الوقت نفسه كانت النسوة آتيات من الطرف الآخر ذاهبات لنفس الغرض ، فكان أن سددن الشارع، وفشل شهوان في عبورهن، فكان هذا المشهد" "تلوَّى شهوان باحثًا عن ثغرة في هنومة ينفذ منها، لم يجد بين ساقيها ولا حولها، تسلق جسدها مثل البُرص ليصعد إلى كتفها، حاول القفز منه مثل فأر على أكتاف الأخريات، لكنه سقط على الأرض، تمدد بجوار الحائط مثل ثعبان يهرب من خبطات فأس، داست هنومة على ذراعه من دون قصد؛ فانسرب متوجعًا، صعد متشبثًا بالزغب المنتشر على ساقيها مثل دودة، واصل صعوده بمساعدة الزغب المنتشر على الفخذ، ثم ... ثم ... وحتى الآن مازالوا يبحثون عن شهوان في تجاويف هنومة وأخواتها"
() مشهد النهاية أيضًا في قصة "عُطر العروسة": وهو مشهد (الحديدي) وهو يصنع من طين الزريبة ـ وعلى مراحل ـ تمثالين لزوجتي ولديه البدري وحسين، ثم بعد أن حسَّن وجوَّد في صقل التمثالين من الساق حتى الوجه، يقول الراوي: "بعد ذلك انتقل لمرحلة أخرى، راح يقطع فلقة من كل ردفين، وثدي من كل ثديين، لتصير لكل امرأة منهما ردف واحد وثدي واحد! غطى التمثالين، دعا أهل البلد للاحتفال برفع الستار عن كل ثمتال، شهق الناس حينما شاهدوا وتبينوا وجهي امرأة البدري وامرأة حسين" .......... ــ وقل مثل هذا في نهاية قصة " حفرية الحديدي" التي استعرضناها من قبل ــ وكذا الأمر في نهاية قصة "الطوطم" وسبق لنا تناول المشهد والسؤال هنا .. لماذا؟ لماذا اللجوء لهذه التقنية الغرائبية لتختتم بها هذه القصص واقعيتها التي تصل حد التسجيلية؟ هل هو النزوع إلى ترك الباب مفتوحًا للقارئ للتأمل وإدراك المغزى من ورائها؟ أم طلبًا لاختلاف الرؤى وتعدد التأويل؟ فيزيد من ثراء القصة؟ أم هي الرغبة في التجديد ومسايرة مناهج الحداثة؟ أم هو توجه آخر لم نقف على كنهه،أو نتبين دلالاته؟ قد يكون كل ذلك، وهو مما يحسب للكاتب أن يشرك قارئه ليعمل فكره فيتأمل ويستنتج وفق قناعاته، ومخزونه المعرفي، ودرايته بدروب السرد وهي متعة أخرى تضاف إلى متعة السباحة في نهر هذه المتوالية الفياضة ولا شك أن المتوالية تكتنز بالكثير الكثيرالذي يحتاج إلى جهد أكاديمي كبير يستجلي خباياها ويوثق ويغطي ما تزخر به من كم هائل من المعلومات التي لم يبخل كاتبنا بطرحها لقارئه، وكما يقول المتنبي: على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ .. وتأتي على قدر الكرام المكارم فمعذرة إن أتى عزمي على هذا القدر الزهيد .. دام الألق ودام القلم أستاذنا القدير ………………………………. وفي ورقة نقدية للشاعر رضا عطية جاء فيها: منذ البداية وعلى لسان بطل المتوالية الروائّية( من جراب الكنغر)- للأديب الكبير الأستاذ/ أحمد عبده-يقول الحديدي: ياربّ وضعتنا في حضن النيل؛ حتى لا نظمأ، فإلى متى يشكو النيل من الظمأ؟؛ ليؤكد مأساة المصري أن خير مصر ليس لأبنائها بل للغرباء الذين ينهبون خيراتها، كما يقول شوقي:-أحرامٌ على بلابله الدو.. ح حلالٌ للطير حلالٌ للطير من كلّ جنسِ -هذه المتوالية من خلال أحداثها للوهلة الأولى يظنّ القارئ أن لغة السرد المناسبة لها هي(اللهجة العامية) لكنه استطاع بإجادة أن بستخدم الفصحى معبرة عن أحداثها دون أن نشعر بثقلها، فلغته قادرة على استنطاق الواقع، بارعةفي تصويره لبيئة الريف المصري في الدلتا من كفر الشيخ إلى الشرقية ممتدة بأحداثها في بعض الأحيان إلى القاهرة-حيث الخديوِ والسلطان-كما تتميز لغة السرد بأنها لغة ناطقة شديدة الغوص في أعماق الريف المصري تصفه بدقة وكأنها ورق شفاف يشفّ ما تحته وينقله كما هو دون تجميل أو مبالغة. فالحديدي هذا هو رمز للمصري المكافح عبر العصور وليس في الفترة التي تدور أحداث المتوالية الروائّية حولها، ولذا فالكاتب يقتحم الزمن ولا يتقيد كما في ذكر بعض الاستشهادات. فجراب الكنغر يحوي داخله كل عادات المجتمع الريفي وتقاليده، وقت أحداث القصة، والتزام الكثير منهم-مثل الحديدي-بعاداتهم كما في عُقدة الكنيف الذي لا يرضى الحديدي ببنائه؛ عملا بكلام الشيخ الواعظ؛ حتى لا يكون مكانا للجنّ والشيطان بالبيت. ونلحظ فيها مدى ثقافة الكاتب الجغرافية لخريطة الوجه البحري ولا سيما شرق الدلتا بذكر أسماء القرى التى مر بها الحديدي وأقام فيها هاربا هو وأسرته من بطش العمد وقهر السخرة في القناة،وهذا يتجلى واضحا فيما تحمله المتوالية الروائّية في ثناياها من معجم لمصطلحات الريف المصري ما اندثر منها وما في طريقها للاندثار مثل:(الكنيف)، وإتقانه التعبير عن بيئة الريف والفلاحين، ففي بيوتهم القديمة كانوا يجعلون الكنيف مرتبطا بالحظيرة، حتى إذا ما تسربت منه مخلفات اختلطت بمخلفات البهائم وصارت سباخا يُحمل على الحمير في الغبيط؛ لزيادة خصوبة الأرض، كما نجد مصطلحات مثل: زنخ، أدبخانة، هارِش، جاهل، مرابع، كلاف،، المنخوع، يقمط)، وكما يقولون: كثرة الأسماء تدل على عظمة المسمّى؛ لذلك أطلقوا علي الكنيف(التواليت، الحمّام، بيت الراحة، الكبنيه، دورة المياه) ونجد مصطلحات بدأت ننقرض مثل: عُطر العروسة الشاعر رضا عطية: ،الحِرام، حِمل(وهو غطاء من الصوف الخشن تشمُ فيه رائحة مرابط الغنم ينزّ العرق منك وأنت تحته في ليالي شهر طوبة)، السيمافور، القُمع، الأنجر، منقد صنع الشاي، المواعين، وكذلك أحيا فيها منتشرة في البيئة الريفية مثل: المهووس، المنجوس، الفشار، النعار، المقنعر، الأليط، الزفلوط والفزلوك. كمانجد فيها الجرأة في تناول الأحداث وسردها بلغة قد يظنها البعض خارجة على المألوف والذوق العامّ، لكنها تسمى في القصة لغة فنية لا يصح وضع كلمات أخرى موضعها، فحسين قبل زواجه كان دائم النظر والتمعن في مؤخرتها المكوّرة وهيتنتقل بين غرف الدار، وكان يهمس باسمها وهو يمارس العادة السرية يستحضر زوجة شقيقه في خياله. كما نجده يسلط الضوء على المفارقة في المفارقة في البيئة الريفية بين الحرج في الحديث عن الجنس بين الزوجين مع أنه علني أمام الجميع في حيواناتهم. كما نجد بعض التصويرات الدقيقة كتصويره مشهد الحياة الزوجية في الريف وتعامل العروس مع أهل بيت زوجها سواء كانت منصاعة لتنفيذ العادات أو متمردة عليها. كما نجد روح السخرية والفكاهة أحيانا كقوله:(انطلقت من الحديدي ضحكة التفتت في إثرها البهائم بالزريبة. فتلّ السامر ملتقى مخلفات بطون البهائم وبطون البشر. والرواية تعكس أسرار الأطفال والصبيان في الريف وتتناولها بجرأة كما في ص٧٩. فالمتوالية منفصلة متصلة يربطها الحديدي؛ فهو عامل مشترك تدور حوله الأحداث.ونجد التناص مع القرآن الكريم:(فتتفكك مفاصلها وتنفك من تلقاء نفسها كما فوجئت نسوة زليخا في لحظة يوسف فقطّعن أيديهن ص٥٨. ومن المشاهد الإنسانية فيها نجد مشهدا إنسانيا للإمبراطورة أوجيني وكأن الذي يشعر بنا الغريب لا القريب:(حديدي تعبان أكيد تعبان.. حديدي بطل حديدي يمشي حافي، حديدي إنسان، اركب حديدي قدامي على حمار اركب حديدي لازم تركب من قلعة حتى قصر جزيرة. ويظهر التأثر بالأمثال الشعبية في بعض المواطن:-تصنعت أذنا من طين وأذنا من عجين ص٩٣ -مثل العُقلة في الزور ولن يبلعوا لها الزلط أبدا -اللي نفسه في الأح ما يقولش وح. وهناك بعض الجمل السردية التي ترتقي إلى الحكمة مثل:-الدار إذا خلا سطحها خلا بطنها :-هل يكمن في شخصية المرأة ماهو أشدّ جاذبية من الخيال؟!.
كما يحسب لدار ليفانت للنشر اهتمامها بالتدقيق اللغوي؛ فالأخطاء اللغوية لا تكاد تذكر مثل: لم تأتي والأدق (تأتِ)، ثلاث مواضع والأدق(ثلاثة)، ييأس والأدق(ييئس). وفي النهاية سعدت كثيرا بقراءمة هذه المتوالية الروائّية( من جراب الكنغر) للأديب الكبير الأستاذ( أحمد عبده)، صاحب اللغة الخاصة في سرده، وأرجو له مزيدا من الإبداع والتوفيق. …………………………. وفي ورقة نقدية للشاعر خليل الشرقاوي جاء فيها: يقول أحد النقاد عليك أَن تقرأ عدة آلاف من الصفحات حتي تستطيع أَن تكتب سطرًا واحدًا عن شكسبير، وهذا ما ينطبق على الروائي الكبير الأستاذ أحمد عبدة ومتواليتة الروائية "من جراب الكنغر"، فحين انتهيت من قرائتها بدا لي أنه يلزمني الكثير للكتابة عنها، ولكني سأحاول فتشابك الشخصية المحورية وتنوعها عبر قصص المتوالية لمحفز للفكر ومغوٍ للنقاش، وذلك السيل السردي الممتلئ بثقل التاريخ المصري والذي يلقي بظلال ممتدة حتى واقعنا الحديث والمعاصر، قصصه عامرة بالحقائق وبالفانتازيا، بلغة فصيحة وبليغة ريفية وبسيطة تنهال وتمتزج تتناثر مترادفاتها وتتجمع في نثرية شعرية حكائية تنسج ملحمة ريفية فريدة في حبكتها ذات بناء مغاير عما عُرف من ملاحم ذات شخصيات مختلفة عبر نسل مقدس أو بطولي كما في الشاهنامة الفارسية أو أنساب الآلهة اليونانية لهزيود أو قصص نسل ابراهيم في العهد القديم أو حتى ملحمة الحرافيش لنجيب محفوظ.
فالحديدي" له عشرة أرواح يظهر في كل قصة وكأنه شخصًا جديدًا لكن يظل محتفظًا باسمه الحديدي الذي لا يغيره الزمن ومحافظًا على هويته كفلاح مصري بسيط لكن بعدة ظهورات وتجسدات، يتقافز مثل كنغر أسطوري تقافزًا حرًا عبر الزمن والقرى معايشًا وشاهدًا على الاستعباد والتسخير والاستعمار والاضطهاد والكرابيج التي لا تنتهي. ولعل قول المستشرقُ الفرنسي هيلار الذي اقتبسه الكاتب في المقدمة، أن العبودية السياسية والطغيان كُتبت على مصر بالضرورة وكانت حجةً وذريعةً خاصَّةً لأسباب أهمها نهر النيل ونظامه الطبيعي الذي كان المصدر الوحيد للحياة والوجود؛ لعل هذا القول فيه الكثير من الصواب، فمن يسيطر على أرزاق الشعب يسيطر على الشعب، و الحديدي يشكو من عطش النيل نفسه فيقول في قصة "على بركة الرب" ((ياربُّ:وضعتَنَا في حِضنِ النِّيلِ حتَّىَ لا نَظمَأ، فإلِىَ مَتَىَ يشْكوُ النِّيلُ مِنَ العَطَشِ؟!)) فهو قد أصاب جوهر المشكلة فالنيل الذي هو مصدر الحياة والرزق هو من يعاني من السطوة والطغيان وعلى إِثره يعاني الشعب فيقول مخاطبًا النيل؛ ((تجري مياهك فوق بصمات أقدامنا، دمغناها في قاعك حين كنا نقوم بتطهيرك، فلماذا حياتنا لا تُشبهك في هدوئك ووداعتك أيها النهر؟ لكنك أورثتنا شيئًا يُميزنا، ونعتز به.. تجاعيد صفحة وجهك التي ارتسمت في وجوهنا)) والحديدي في قصة "على بركة الرب" أقرب لوليٍ أو نبيٍ تمتلئ كلماته بالحكمة وضرب الأمثال بل إن له كرامات ايضًا فنرى نخلتين تميلان له وتصنعان قنطرة فوق سطح النهر ليعبر هو وعائلته المهاجرة، وهم الهاربون من اضطهاد العمدة ومن الاستعباد في السخرة وفقد الاولاد ، فها هو "عيد" ولد الحديدي قد قُدِّم قربانا، فذبح على يد "دليسيبس" وانساب دمه الذي لا يتجلط حتى لَضَمَ الخليج بالبحر وصار البحر من يومها بحرًا أحمرًا في مشهد رائع نسجته لغة الكاتب بأسلوب فانتازي ورمزي معبر، فالرجال تُسلب من بيوتها وعائلتها لترسَل في تراحيل الحفر وغالبهم يموت ويدفن في مكانه.. يقول الراوي؛ ((والعشرة آلاف رجل "صفصفوا" على ستة آلاف فقط، هم منْ لم يقترب منهم السُل والأنيميا وكسرة الظهر وضربات الشمس ومناشير البرد)).. ولكن إلى أين يا حديدي فالكرابيج لا تنتهي ألستَ أنتَ القائل ((كلما لَسَعَنَا كرباج سرنا لكرباج آخر ..ومن منهم بلا كرباج)) هو قد لخص حال المصري حتى يومنا هذا.. ومن اجل هذا كان مضطرا للترحال والقفز عبر الأزمنة والمواضع. وفي قصة "حمار أوجيني" يقفز بنا إلى القاهرة الخديوية حيث يمتلك الحديدي حمارًا أصيلًا قويًا وجميلًا ذا اذنين طويلين وذيل كذيل الفرس، يُطلب من السَرايَا لتركبه امبراطورة فرنسا الجميلة "أوجيني" في جولتها مع الخديوي، ويخضع لذلك مستسلمًا وممتعضًا وهو الذي يفضل أن ينقِل عليه السِّباخ ولا يُعامل هو وحماره كمادةٍ للتسلية والاستهزاء، ولكن ما باليد حيلة فهي وَلِيَّة نعمة وعشيقة الخديوي اسماعيل الذي يعكس صورة خنوع الحكام لأوامر الأجنبي ومدى استفحال تحكم الغرب المستعمر في القرار المصري، فبهزة استنكار من رأس أوجيني يرجع الخديوي عن قراره و بابتسامة يلبي أوامرها،
يتجول بنا الكاتب في تحولات الحديدي ما بين العهد الايوبي والعثماني إلى العهد الحديث، فمرة نراه رب منزل متصلب الذهن مستمسكًا بالجهل على أنه دين والعرف على أنه شريعة وذلك في قصة "حالات وأحوال تل السامر" أو متساهلًا وسلبيًا يكاد يكون غائبًا في "عُطر العروسة"، ومرة نراه صوفيًا ورعًا يُضطهد من سلطة أخيه العمدة في "عباءة أم شناف"، وفي قصة "عظم في قفة" هو العاشق لـ"شجرة الدر" عشقًا مستحيلًا وهو الوطني المناضل ضد الفرنجة أثناء حرب المنصورة، وفي قصة "الطوطم" يصبح حاكمًا يقيم القسط بين الناس ويُعظم من قيمة الكدح والعمل، ونشاهده في "حفرية الحديدي" يحفر في القنوات ويكسر في الصخر؛ وهذا يقودنا الى التساؤل .. ما هذه الشخصية؟! إنه عدة نماذج للإنسان المصري بتفاعله وانصهاره في مختلف الظروف والعصور. فيثير فضولنا لنبحث عن أصله ولنحفر حفرًا اركولوجيًا عن جذوره، ليس في ثنايا الأرض فحسب، بل في ذاكرة الكائنات كما أسهب الراوي في مقدمة العمل؛ ((من ذاكرة ابن آوى والجعران وأبومنجل وتماسيح النيل، ونقيق الضفادع في حقول الأرز، وموسيقى الضفادع في الترع والقنوات قبل تطهيرها، والبوص والهيش والحلفاء وذيل القط، والسبخ والسنط والجميز والصفصاف، وحجارة تل بسطة، وتماثيل صان الحجر، وحكايات تل يوسف، وأساطير الجبانات، وأوراق البردي، ومواويل الكرباج، ودوار العمدة، والخفراء وشيخ الخفراء، ومواويل السلطة، وحكايات السُخرة، في حفر القناة، وفي البحر الصغير والرياح التوفيقيّ وبحر مويس والقناطر التسعة وترعة البوهيّة وترعة الحلوة، وحكايات الكنغر التي يحملها في جرابه، ويظل يقفز بها عبر السهول والوديان))
إنه كائن لا ينقرض، كلما هطل المطر ينبت من جديد كما ورد في قصة "جذور الخروع"، جذوره ليست من الخروع أو القطن ولكنها من الكافور والجميز والصفصاف، ومهما يُشطب من سجلات الحكومة فهذا لا يعني شيئَا- أو يُنفي من أرض يَخرج من أرض أخرى في زمن آخر، أصله متجذر وخراعيبه لا تجف، متمددة في الطين وفي الصخر، وهذا ما كشفت عنه الحفرية التي عُثر عليها في بلبيس وكان مدونًا عليها اسمه بالهيروغليفية ومترجما للعربية في قصة "حفرية الحديدي". وفي قصة "الطوطم" يوضح لنا الراوي أن "الحديدي" هو إنسان مفارق غير عادي ،هو الإنسان المصري الفريد، خلقه الرب بيديه ثم وُضَعهُ وسط القرى ليعلم الناس الضمير، وليدشن بيده التاريخ، وَلينشر في العالم الخرب الدين والثقافة والحضارة. وإنه الأرض الطيبة نفسها، على جسده ينبت العشب وتتبرعم البذور، وهذه الأرض التي أكل وشرب وترعرع عليها الزمان لازلت تؤتي أُكلها حتى اليوم، وهذا الكنغر الشقي بينما يحاصرونه ويسَيجون حوله الخوف والجهل والمرض ويحاولون حبسه في عهد أو حكم أو عقيدة، اذ به يقفز قفزةً عظيمةً حاملًا بيدِهِ شعلةً وهاجةً وباليدِ الأخرى قلمٌ مُسَنَّمٌ يقطرُ حبرًا وَجرابه زاخرٌ بالأوراق. ………………………………. وتوالت المداخلات من د. نادرعبدالخالق، والكاتب محمود الديداموني، والشاعر حسام الكرار، والشاعر ابانوب لويس، الكاتبة زينب عامر، والعميد محمود عبده، إسماعيل يسري المحامي، والسيد رزق المحامي، المهندس عرفات عبدالحكم، الرائد السيد عبد الحكم، الدكتور علي عبدالحكم، أ. د/رمضان عبدالسلام، أ. جابر سليمان، المبدعة زهرة عاطف، المبدعة حبيبة ياسر. وعقب في نهاية الندوة على المداخلات الشاعر والمترجم الكبير السيد النماس. كل الشكر للأستاذة نجوي مكاوي مديرة القصر على الحفاوة وحسن الاستقبال والشكر موصول للاستاذة علا السعودي مشرفة النادي
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شهر زاد ( دكتورة هيام عبدالهادي صالح ) وحكاياتها على طاولة ا
...
-
مقاربة نقدية في رواية ( طار فوق عش الخفاش ) للكاتبة هيام عبد
...
-
أدباء وشعراء ونقاد الشرقية يتحلقون حول ديوان ( حكاية سريالية
...
-
المجموعة القصصية ( السقوط من البندول ) للكاتب أحمد عثمان على
...
-
التجربة الإبداعية لفكري داود بمنتدى السرديات باتحاد الكُتّاب
...
-
سردٌ يلامس الروح.. قراءة في رواية -زمن نجوى وهدان- لمجدي جعف
...
-
( السرد الحاوي ) لفرج مجاهد على طاولة النقد بالمركز الدولي ل
...
-
نظرات في شعر حسين علي محمد ( طائر الشعر المسافر )
-
مقاربة نقدية في الرواية الشعرية ( آخر أخبار الجنة ) لحزين عم
...
-
مقاربة نقدية
-
وداعا لآلام مرضى كسور الضلوع
المزيد.....
-
فن المقامة في الثّقافة العربيّة.. مقامات الهمذاني أنموذجا
-
استدعاء فنانين ومشاهير أتراك على خلفية تحقيقات مرتبطة بالمخد
...
-
-ترحب بالفوضى-.. تايلور سويفت غير منزعجة من ردود الفعل المتب
...
-
هيفاء وهبي بإطلالة جريئة على الطراز الكوري في ألبومها الجديد
...
-
هل ألغت هامبورغ الألمانية دروس الموسيقى بالمدارس بسبب المسلم
...
-
-معجم الدوحة التاريخي- يعيد رسم الأنساق اللغوية برؤية ثقافية
...
-
عامان على حرب الإبادة في غزة: 67 ألف شهيد.. وانهيار منظومتي
...
-
حكم نهائي بسجن المؤرخ محمد الأمين بلغيث بعد تصريحاته عن الثق
...
-
مخرج «جريرة» لـ(المدى): الجائزة اعتراف بتجربة عراقية شابة..
...
-
أصيلة تكرم الفنان التشكيلي المغربي عبد الكريم الوزاني.. ناحت
...
المزيد.....
-
مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
شهريار
/ كمال التاغوتي
-
فرس تتعثر بظلال الغيوم
/ د. خالد زغريت
-
سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي
/ أبو الحسن سلام
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
المزيد.....
|