حبيب مال الله ابراهيم
استاذ علوم الإعلام والصحافة
(Habeeb Ibrahim)
الحوار المتمدن-العدد: 8484 - 2025 / 10 / 3 - 20:12
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تمهيد
شهد العراق بعد عام 2003 تحولات سياسية واجتماعية وإعلامية عميقة أعادت تشكيل موازين القوى والهويات في المشهد الوطني. رغم أن دستور 2005 نص على مبادئ المساواة والتنوع، فإن هذه المبادئ بقيت في الغالب أسيرة النصوص، في حين استمرت الأقليات في مواجهة أشكال متعددة من الإقصاء والتهميش، سواء على الصعيد السياسي أو الإعلامي. عوضاً عن أن يتحول الإعلام إلى أداة للاعتراف بالتعددية وتعزيز المشاركة، ظل في كثير من الأحيان خاضعاً لسلطات حزبية وطائفية، ما أدى إلى تغييب السرديات الذاتية للأقليات أو إعادة إنتاجها في قوالب مشوهة.
ينطلق التحليل النقدي للخطاب من أطروحة ميشيل فوكو التي ترى أن الخطاب لا يعكس الواقع، بل ينتجه عبر شبكات القوة والمعرفة (Foucault, 1972 Foucault, 1980) . من هذا المنظور، تُمارس ما يمكن تسميته بالهندسة الخطابية، أي جملة الآليات اللغوية والدلالية التي تحدد ما يجوز قوله عن الأقليات، ومن يمتلك سلطة الحديث باسمها، وكيف تُعرف مفاهيم مثل الخطر والانتماء والمواطنة ضمن توازنات القوى القائمة. وتتيح مقاربة نورمان فيركلوف قراءة الخطاب عبر ثلاثة مستويات متكاملة: النص، والممارسة الخطابية، والممارسة الاجتماعية، بما يربط البنى اللغوية بالتحولات السياسية والاجتماعية الأوسع (Fairclough, 1995)، أما المدرسة التاريخية التي طورتها روث ووداك، فتفتح المجال لتتبع الاستعارات والسرديات عبر الزمن وربطها بالسياقات القانونية والسياسية (Wodak, 2001 Wodak & Meyer, 2009)، بينما يسهم تحليل ياگر (Jäger, 2004) في تفكيك الأبعاد الأيديولوجية الكامنة داخل المتون الإعلامية. بهذه الأدوات يمكن إدراك كيف يرسم الإعلام العراقي حدود المقبول والمرفوض عند الحديث عن الأقليات، وكيف يُعاد إنتاج علاقات الهيمنة الرمزية التي تُقصي الأقليات إلى موقع التابع أو الضحية. (Foucault, 1980 Bourdieu, 1991)
إلى جانب ذلك، يفسر مفهوم الفضاء العمومي عند هابرماس (Habermas, 1990) محدودية قدرة الأقليات على الوصول إلى المجال الإعلامي. ففي حين يفترض أن يشكل الفضاء العمومي ساحة للنقاش الحر بين المجتمع والدولة، تكشف التجربة العراقية بعد 2003 عن فضاء مشظى تهيمن عليه قوى طائفية وحزبية تملك الموارد السياسية والاقتصادية. وقد أدى هذا التشظي إلى تقليص فرص الأقليات في إيصال أصواتها، بحيث غدت الهيمنة على الإعلام امتداداً للهيمنة على تعريف المصلحة العامة (سلوم، 2013). وفي ضوء مقولات بورديو حول القوة الرمزية ورأس المال الرمزي (Bourdieu, 1991)، يمكن القول إن وسائل الإعلام منحت الشرعية لفاعلين محددين وفرضت تدرجات بين ما هو مسموع وما هو مغيب. النتيجة أن مكونات الأقليات بقيت خارج الخطاب الوطني الجامع، فيما استمرت النصوص الدستورية الضامنة للتعددية حبراً على ورق.
نظرية التمثيل وإشكالية الآخر: صور الأقليات كموضوع للمعنى
يؤكد ستيوارت هول أن التمثيل الإعلامي ليس عملية محايدة بل آلية لإنتاج المعنى وإعادة صياغة الواقع (Hall, 1997)، وبالمثل، توضح سبيفاك في إطار دراسات ما بعد الاستعمار أن التابع يقصى من موقع المتحدث، فلا يُسمع صوته إلا حين يُعاد تمثيله من قبل سلطة أخرى تنطق باسمه (Spivak, 1988). في الحالة العراقية، غالباً ما تم تصوير الأقليات في الإعلام إما كضحايا عاجزين أو كغرباء عن النسيج الوطني، وهو ما جعل حضورهم يختزل في سرديات مأساوية، بينما طُمست أبعاد هوياتهم الثقافية والاجتماعية. هذه الممارسة، المعروفة بالآخرنة، تنتج صورة للأقليات تبنى من الخارج، وتمنعهم من صياغة رواية ذاتية مستقلة. وقد أشار باحثون إلى أن الإطار القانوني والسياسي رغم نصوصه الحامية يرسخ تفاوتات رمزية تضعف إمكان بناء خطاب ذاتي للأقليات. (شعبان، 2010؛ سلوم، 2013)
السردية والذاكرة الثقافية: تحديات السردية الذاتية للأقليات
تشكل السردية الذاتية مورداً رمزياً لبناء الهوية الجماعية والانتماء. وتبين دراسات السرد أن الجماعات تعيد إنتاج ذواتها عبر قصص تربط الماضي بالحاضر وتوجه المستقبل (Riessman, 1993 Somers & Gibson, 1994)، أما نظرية الذاكرة الثقافية لآليدا وأيان أسمان (Assmann, 1992 Assmann, 1999)، فتؤكد أن أحداث العنف والتهجير تخزن في أشكال رمزية كالطقوس والنصوص والأماكن، وتؤثر على إمكان المصالحة والاعتراف. في السياق العراقي، تبلورت أزمة الذاكرة لدى الأقليات نتيجة عقود من التهميش والحروب والنزوح، وتفاقمت بعد هجمات داعش عام 2014 التي أدت إلى إبادة جماعية وتهجير قسري للإيزيديين والمسيحيين والكاكئيين والشبك، ما أضعف قدرتهم على حفظ ذاكرتهم الجماعية وصياغة رواية مشتركة (Minority Rights Group, 2015)، وهكذا بقيت قصتهم تُروى من منظور خارجي أو أغلبي، لا بلسانهم هم.
إضافة إلى ذلك، يعاني الإعلام الخاص بالأقليات من ضعف مؤسسي ومالي؛ إذ تعتمد معظم منصاته على جهود فردية محدودة أو مبادرات تطوعية غير مستدامة، ما يقلل من قدرتها على منافسة المؤسسات الإعلامية الكبرى وإيصال خطابها (دوملي، 2023). وقد أظهرت تقارير إعلامية أن غياب التمويل المستقر يجعل هذه المنصات عاجزة عن ترسيخ سردية ذاتية، تاركة المجال للسرديات المهيمنة أو الخارجية لتحتكر تمثيل الأقليات (IRIS, 2015، دوملي، 2023). وبهذا يتضح أن ضعف السردية الذاتية لا يرتبط فقط بهيمنة الأغلبية، بل أيضاً بمحدودية القدرات الداخلية لهذه المكونات على إنتاج خطاب إعلامي مستقل ومستدام.
التأطير وجدولة الأولويات: لماذا تُرى قضايا وتُخفى أخرى؟
تشير أدبيات التأطير الإعلامي إلى أن وسائل الإعلام لا تكتفي بعرض الأحداث، بل تختار زوايا محددة لتفسيرها، بحيث تُعرّف المشكلة وتُحدد أسبابها والمسؤوليات والحلول داخل إطار دلالي معين (Entman, 1993)، ومن هنا يبرز السؤال: كيف يُقدّم خطاب الأقليات في الإعلام؟ هل يُؤطرون كضحايا يستدعون التعاطف، أم كمصدر تهديد أمني واجتماعي، أم كمواطنين متساوي الحقوق؟ فالإطار المعتمد لا ينقل المعنى فحسب، بل يحدد حدود النقاش العام ويؤسس لكيفية إدراك الجمهور لتلك القضايا.
بالتوازي، تكشف نظرية جدولة الأولويات أن الإعلام يؤثر على وعي الجمهور من خلال تحديد ما يجب التفكير فيه، حتى إن لم يملي عليهم كيفية التفكير (McCombs & Shaw, 1972). عبر هذا الترتيب، تُرفع بعض الموضوعات إلى واجهة النقاش بينما تُدفَع أخرى إلى الهامش. وفي الحالة العراقية، لوحظ أن حضور الأقليات في الإعلام ارتبط غالباً بسياقات استثنائية كالهجمات الإرهابية أو موجات النزوح، ما جعل صورتهم العامة مشروطة بالأطر المأساوية أو الأمنية. هذا النمط من التأطير الحدثي يحصر النقاش في حدود اللحظة الآنية، ويغيب الخلفيات التاريخية والاجتماعية لوجود هذه المكوّنات. ونتيجة لذلك، تظل قضايا جوهرية مثل المشاركة السياسية، الإرث الثقافي، أو المساواة القانونية غائبة عن أولويات التغطية، إلا حين تُستحضر من زاوية أزمة راهنة. وفي بيئة عراقية مضطربة بعد 2003، كان من الطبيعي أن يهيمن التأطير الأمني على الإعلام، حيث يغمر خطاب الخطر والتهديد كل محاولة لطرح ملف الأقليات، فيزيح المنظور الحقوقي والمدني لصالح منطق استثنائي قائم على الأمن.
الأمننة وخطاب الخطر: تحويل الاختلاف إلى قضية أمنية
يوفر إطار الأمننة الذي طوره بوزان ووايفر ودي وايلد (Buzan, Wæver & de Wilde, 1998)، مدخلاً لفهم الكيفية التي تُنقل بها قضية ما من النقاش السياسي العادي إلى حالة استثناء، بمجرد توصيفها كتهديد وجودي يتطلب إجراءات غير اعتيادية. وفي السياق العراقي، كثيراً ما تعامل الإعلام مع قضايا الأقليات خصوصاً مطالبها بالاعتراف أو التمكين بوصفها ملفات أمنية تهدد الوحدة الوطنية. وبمجرد إدراجها في خانة الأمننة، تُبرر سياسات التهميش أو القمع بحجة حماية الاستقرار. على سبيل المثال، يُصور مطلب جماعة بالحكم الذاتي أو بزيادة تمثيلها السياسي كمشروع انفصالي، لتتحول ثنائية الحقوق - الولاء إلى خطر - خيانة. بهذه الطريقة يتم إزاحة خطاب المواطنة والمساواة لصالح خطاب الطوارئ. هذا الخوف يدفع الأغلبية إلى تضخيم تهديد جماعة صغيرة مختلفة، بما يغذي آليات الأمننة ويبرر العنف ضدها. النتيجة أن الفضاء العمومي يفقد وظيفته التشاركية، إذ تُعامل مطالب الأقليات باعتبارها تهديداً أمنياً يستوجب الردع، لا موضوعاً للنقاش الحقوقي. وهكذا يُقصى خطاب الأقليات من المجال العام قبل أن يجد فرصة حقيقية ليُسمَع، فيُستبعد باسم الأمن قبل أن يناقش على أساس المساواة.
#حبيب_مال_الله_ابراهيم (هاشتاغ)
Habeeb_Ibrahim#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟