أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماهين شيخاني - بارون في الكامب















المزيد.....

بارون في الكامب


ماهين شيخاني
( كاتب و مهتم بالشأن السياسي )


الحوار المتمدن-العدد: 8477 - 2025 / 9 / 26 - 03:09
المحور: الادب والفن
    


كان باروننا الكوردي أشبه بظلّ ضاحك في هذا المكان الكئيب. رجل قصير القامة، نحيف الجسد، لكن أناقته لا تشي بالفقر الذي يحيط بنا. دائم الابتسامة، خفيف الروح، سريع النكتة، يعرف كيف يسرق الضحك من بين أنياب المأساة. علاقاته متينة مع الجميع، وبالأخص مع الإخوة المسيحيين الذين اتخذهم أصدقاء مقرّبين.
زيّه لا يخطئه أحد: قميص أبيض أو أزرق سماوي، بنطال كحلي أو أسود، وعلى رأسه شال أبيض يتوّجه بعقال، كأنه يستعيد هيبة أيامٍ بعيدة.
حين يسدل المساء ستاره، وتغرق الخيام في صمتٍ يقطعه نباح كلاب المخيم، يبدأ بارون طقسه الخاص؛ يختفي قليلاً، ثم يعود وفي عينيه بريق الشراب الذي يدفئ برد الليالي.
كنتُ عائداً من مركز التوزيع، حين لمحته يسير بمحاذاة الطريق الترابي المؤدّي إلى الخيام. بدا طيفه مألوفًا... آه، إنه هو، بارون ذاته..!. توقفتُ بانتظاره. وحين اقترب، مازحته:
– "ها معلم بارون..!. أضاعك الطريق أم طردتك المدام من الخيمة..؟."

ضحك حتى بدت أسنانه البيضاء في العتمة، وقال:
– " لا يا رجل... ذاهب لزيارة أبو صخر. ما رأيك ترافقني..؟. الليل ما زال طريًّا، فلنسهر عنده قليلاً، ثم نعود إلى... سجوننا..!."
قالها وهو يغمز بعينه، فابتسمتُ رغم تعبي، ومضينا معًا نفتّش عن خيمة أبي صخر وسط متاهة الأرقام والحبال.
كانت الخيمة هناك، وحين دخلنا استقبلتنا أم صخر بوجهٍ دافئ، رغم قسوة الحياة. عرفتُها منذ زمن؛ أخت مناضلين، عائلة دفعت من عمرها للحرية. لم يبقَ في الخيمة سوى أبو صخر وزوجته؛ أبناؤهما تفرّقوا بين المنافي الأوروبية، وبناتهما استقرّ بهنّ الزواج بعيدًا عن هذه الأرض.

جلسنا على الأرض، وتبادلنا أحاديث الحرب والسياسة والذكريات. قطعتُ السكون بابتسامةٍ ماكرة:
– " أتدرون..؟. البارحة زارنا السيد مسرور بارزاني بنفسه..!."
ارتفعت عيون أم صخر بدهشة:
– " سمعنا... لكننا لم نستطع السير لتلك المسافة. يا ليتنا رأيناه ولو من بعيد."
ضحكتُ وأشرتُ إلى بارون:
– " لكن العم بارون رآه ، ومع السيدة زوجته أيضًا..!. بل الأنكى من ذلك... كان يناديها بصوتٍ عالٍ: أم سيبان، أسرعي ، السيد الرئيس مسرور عندنا..!."
شهقت أم صخر وضربت كفًّا بكفّ :
– " أبو سيبان..؟. من كان يتّهم الجماعة قبل أشهر... الآن صار يناديه السيد الرئيس..؟!. عجيب..!. من متى صرت تحبّه يا بارون..؟. من يوم صرت تركض وراءه..؟."
قهقهتُ وأنا أتابع:
– " يا مصلحجي..!."
ارتبك بارون واحمرّ وجهه، ثم رفع يديه مستسلمًا للضحك:
– " فضحتني والله..!. لن أخلص من لسان أم صخر بعد اليوم. لكن اسمعوا... أنا من الأوائل الذين انتسبوا للبارتي في ديارنا. ماذا أتى بكم إلى هنا، أما أنا... فقصتي طويلة..!."
ترك كلماته معلّقة في الهواء، كأنّه يهيّئنا لحكايةٍ أخرى... وربما لفصلٍ جديد من لعبة الأقدار.
اعترافات بارون... تحت سقف الخيمة
كان الليل قد تمدّد على المخيم مثل بطانيةٍ قديمة، مثقوبة الثقوب، تتسرّب منها برودة الريح. داخل خيمة أبي صخر، اشتعل الضوء الخافت من لمبة يتيمة تتدلّى مثل أملٍ يتشبّث بخيط كهرباء متعب. جلسنا نحن الأربعة في دائرة صغيرة: أنا، بارون، أبو صخر، وأم صخر، التي لم تكفّ عن ترتيب أطراف السجادة كلّما اشتدّ النقاش.
أشعل بارون سيجارة، وأخذ نفسًا عميقًا حتى بدت النار كجمرٍ في عتمة الخيمة. زفر الدخان ببطء، ثم ابتسم ابتسامةً أعرفها جيّدًا؛ تلك التي تسبق عادةً اعترافًا خطيرًا أو كذبة أنيقة.
قال وهو يمدّ ساقيه بثقة الملوك:
– " تظنّون أنني هنا مثل بقيّة الناس..؟. لا يا أصدقائي... قصّتي لو رواها كاتب لأصبحت رواية تُقرأ في معارض الكتب."
ضحكت أم صخر:
– " يا أخي، كلّنا روايات الآن. من منا ليس كتابًا ممزّق الصفحات..؟."
هزّ بارون رأسه، ثم أردف:
– " لكنني... أنا بارون..!. كان لي شأنٌ في قامشلو. كنتُ لا أمشي في السوق إلا والناس ترفع قبّعاتها احتراماً لي."
تبادلنا النظرات. أعرف هذه النبرة جيّداً، نبرة رجلٍ يحبّ أن يطلي ماضيه بذهب الذكريات.
سألته مازحاً:
– " كنتَ مختارًا أم وزيراً في الظل..؟."
قهقه بارون حتى ارتجّت الخيمة:
– " مختار..؟!. لا يا صاحبي... كنتُ أكبر من مختار وأصغر من وزير. كنتُ صانع العرائس الذي يحرّك خيوط اللعبة. كنتُ أملك أسراراً لا يعرفها إلا الله، وأصدقاء في كلّ الأحزاب. حتى الأمن كان يبتسم لي في الشارع."
أبو صخر، الذي كان حتى الآن صامتاً كجدار، تدخّل:
– " وماذا حدث لك يا بارون..؟. كيف انتهيت هنا... تنتظر ربطة خبز مثلنا..؟."

ساد الصمت لحظة ، ثم انحنى بارون إلى الأمام، صوته انخفض حتى صار أقرب إلى همس المؤامرات:
– " لأنني صدّقتُهم. صدّقتُ أن للبارون مكانًا لا تطاله يد الفقر. لكنني كنتُ مجرد ورقة في مهبّ الريح. يوم تغيّر اتجاه الريح، سقطتُ مثل أوراق الخريف."

انطفأت ابتسامته للحظة ، رأيت في عينيه ظلّ انكسارٍ عميق، قبل أن يخفيه بضحكة مصطنعة:
– " لكنني بارون... والبارونات لا يموتون بسهولة. هنا أيضًا سأبني عرشاً صغيراً... ولو كان من أقمشة الخيمة..!."

صفّقت له أم صخر ساخرة:
– " يا رجل، هنا لا مكان للعرش. هنا نحن جميعاً رعيّة للجوع والصقيع..!."

ارتشف بارون آخر نفسٍ من سيجارته، ثم رماها في علبة فارغة، وأجاب بنبرةٍ فيها مزيج من الكبرياء واليأس:
– " ومن قال إن العروش تحتاج قصوراً..؟. أحياناً يكفيك كرسيّ بلاستيكيّ... واثنان يصفّقان لك، لتشعر أنّك ما زلت حيّاً.."

في تلك اللحظة، أدركتُ أنّ بارون ليس مجرد مهرّج المخيم الذي يضحكنا. إنه مرآةٌ لنا جميعًا: نحن الذين كنّا نملك بيوتاً وأحلاماً، فصرنا نقتسم الخبز والخيبة تحت سقفٍ من قماش.

قبل أن نغادر، رفع بارون رأسه وقال لي وهو يغمز بعينه:
– " أكتب عنّي يا صديقي. اجعلني بطلاً في كتابك. لكن لا تذكر كل شيء... اترك شيئًا للخيال. البارونات دائماً يعيشون في الأساطير، لا في المخيمات."

ابتسمتُ، وأنا أعلم أنّه سيكون بطلاً، لكن ليس كما أراد. سيكون شاهد على زمنٍ فقد فيه الجميع عروشهم... حتى البارونات.



#ماهين_شيخاني (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- - رحيل يوجع الذاكرة - قصة قصيرة
- دمعة الوداع
- استيقظ أيها المغفّل ..؟!.
- خرائط الروح/ قصة قصيرة .
- ” حصيلة عمرٍ في دفاتر الخيبة”
- الخرائط الجديدة… بين إرث سايكس – بيكو وتحوّلات الجيوبوليتيك ...
- الكورد بين فخ -الاعتدال- وعمى الشوفينية العربية: نحو عقد وطن ...
- // النهر الذي ابتلع الوعد/ قصة قصيرة
- أنصاف الحقوق… أنصاف الرجال..- مقال
- لماذا أحب هذا الرجل..؟.
- - البيان السوري الجديد والكورد: بين فخّ التنازلات وفرص التفا ...
- “اللحظة التاريخية: لماذا يجب على الكورد توحيد صفوفهم الآن؟”.
- أنواع السلام السياسي: بين شجاعة القرار وخيانة المبادئ
- حل حزب العمال الكردستاني: مبادرة تاريخية أم تسليم سياسي؟
- “حين يدقّ المطرُ النافذة”
- - في هندسة الخلق... براهين الجمال والدقة على وجود الخالق -
- - الإسلام والتطرف والقوميات: نحو وعي جامع لا إقصائي -
- الفيدرالية: هل تكون خلاصًا أم انقسامًا؟ قراءة في تجربتي العر ...
- عندما تغني الجبال / قصة قصيرة
- الوجود الكوردي في كوردستان وعلاقة القبائل العربية الأصيلة با ...


المزيد.....




- استقالة مفاجئة لأشرف زكي من نقابة المهن التمثيلية استعدادا ل ...
- سعيد يقطين: أمريكا توجه دفة الإبادة والتطهير العرقي بدعمها ل ...
- افتتاح مهرجان هولندا السينمائي بفيلم -ناجي العلي- وأفلام عن ...
- -شومان- تستعيد أمجد ناصر: أنا هنا في لغتكم
- افتتاح مهرجان هولندا السينمائي بفيلم -ناجي العلي- وأفلام عن ...
- سطو -سينمائي- بكاليفورنيا.. عصابة تستخدم فؤوسا لسرقة محل مجو ...
- فيلم -ني تشا 2-.. الأسطورة الصينية تعيد تجديد نفسها بالرسوم ...
- تعاطف واسع مع غزة بمهرجان سان سباستيان السينمائي وتنديد بالح ...
- -ضع روحك على يدك وامشي-: فيلم يحكي عن حياة ومقتل الصحفية فاط ...
- رصدته الكاميرا.. سائق سيارة مسروقة يهرب من الشرطة ويقفز على ...


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - ماهين شيخاني - بارون في الكامب