أكرم شلغين
الحوار المتمدن-العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 00:20
المحور:
المجتمع المدني
لم تكن دمشق مجرد محطة دراسية في حياة بيتر الألماني، بل كانت بوابة دخوله إلى عالم آخر، عالم لم يكن يعرف عنه شيئا سوى ما قرأه في الكتب أو سمعه من زملائه في معهد اللغة بالقاهرة، ثم في شوارع صنعاء الضيقة حيث بدأ رحلته مع العربية. نصحه أصدقاء ممن سبقوه إلى سوريا بأن دمشق، رغم كل ما يحكى عنها من قيود، كانت الأنقى لسانا، والأعمق ثقافة، والأكثر دفئا في استقبال الغرباء. فجاء، حاملا معه حقيبة كتب، وقليلا من الفضول، وكثيرا من الرغبة في أن يفهم، لا أن يتعلم فقط.
وفي دمشق، لم يقتصر عالمه على الصفوف الدراسية وجدران المعهد. فقد امتدت يد المدينة إليه، كما تمتد الأم لطفلها الضائع، فأخذته إلى مقاهيها، وأزقتها، وسهراتها التي لا تنام. خاصة في مخيم اليرموك، ذلك المكان الذي كان، قبل أن يمزقه الحزن، ملجأ للضاحكين، والثائرين، والعشاق، والباحثين عن معنى. هناك، بين ضجيج الموسيقى، ودخان السجائر، ورائحة المقلوبة، وعبق المكدوس والحمص، وبين كؤوس بيرة باردة تشرب على عجل أو بتأن، كان بيتر يجلس مع شباب وصبايا يملؤهم الحماس، والغضب، والأمل، والضحك الذي لا يعرف التوقف.
ومن بين هؤلاء، ظهرت خديجة.
كانت في سنتها الأخيرة من الجامعة، تدرس الأدب، لكن عقلها كان يسكن السياسة. تعرف عن نفسها بأنها "يسارية"، لكنها لم تكن يسارية بيروقراطية، بل يسارية حية، تضحك بصوت عال، وتجادل بشراسة، وتحب بصدق. كانت أقرب التنظيمات إليها حينها "البكداشيين"، أولئك الذين ما زالوا يحملون صور خالد بكداش كأنه نبي ثان للطبقة العاملة. لم تكن جميلة بمعايير أهل بلدها، لا بشرتها الحنطية، ولا قوامها النحيل، لكن بيتر، وهو الأشقر ذو العيون الزرق، وجد في سمرتها بريقا، وفي ضحكتها حرية، وفي جديتها إخلاصا نادرا.
كان هو أيضا يرى نفسه يساريا، لكن يساريا ألمانيا هادئا، مُثقلا بالشكوك، مُثقفا بالكتب أكثر من الميادين. كان يدرك أن يساريته لا تشبه يسارية خديجة، لكنه لم يهتم. فقد وجد فيها شيئا أعمق من الاتفاق السياسي: وجد صديقة، وربما أكثر. كانت صادقة، عاطفية، مبدئية دون تكلف، وكأن المبادئ تنبض في عروقها لا تُعلّم في كتبها. تعلّق بها، وراح يقول لنفسه، ثم لأصدقائه: "بسببها، بدأت أرى القضايا من منظورهم، من منظور أهل الأرض، لا من منظور السائح الفكري."
تطورت العلاقة ببطء أولا، ثم بسرعة. لم تكن قصة حب تقليدية، بل كانت قصة تقارب بين عالمين. وتزوجا، بفرحٍ صغير، وبسيط، لكنه حقيقي. وبعد أن أنهى بيتر دورته في اللغة، عاد إلى ألمانيا، ومعه خديجة، يحملها كأنها كنز وجدته الأرض، لا كأنها زوجة التقى بها في سهرة.
في ألمانيا، لم يدخر بيتر جهدًا ليجعلها تشعر أنها في بيتها. كان يصطحبها إلى الندوات، والمعارض، والحفلات، ويعرّفها على أصدقائه بفخر. سجّلها في أفضل معاهد اللغة، وجلس معها ساعات يُعلّمها كلماتٍ جديدة، ويُصحّح نطقها، ويضحك معها حين تخلط بين "der" و"die". كان يراقب عينيها حين تتعب، فيحضنها، ويقول: "ستعتادين. سنعتاد معا."
وحين حملت، كان بجانبها كظلّها. في الصباحات التي تقيأت فيها حتى الماء، وفي الليالي التي لم تستطع فيها النوم من شدة الغثيان، كان هناك. وفي غرفة الولادة، حين جاء طفلهما الأول إلى الدنيا، كان يمسك يدها بيده، ويمسح عرق جبينها براحة الأخرى، ويبتسم لها رغم دموعه. كانت فرحتهما لا توصف، كل حركة للطفل، كل نظرة، كل صوت، كانا يحتفلان بها كأنها معجزة جديدة.
وبعد ثلاث سنوات، حملت مرة أخرى. وعاشا كل التفاصيل من جديد، القلق، والفرح، والتعب، والانتظار. وحين وُلدت الطفلة، كانت كأنها نورٌ نزل من السماء، هادئة، جميلة، تملأ البيت سلاما لم يعرفوه من قبل.
ظل بيتر كما عرفته خديجة في دمشق: وفيا، لطيفا، صبورا. لم يتغير. بل زاد حرصا، كان يحرص أن يزورا سوريا معا مرة كل عام، رغم صعوبة السفر، ورغم التكاليف. وحين سمح له دخله، لم يتردد لحظة في إرسال المال لأهلها، أو مساعدتهم في أي شيء يحتاجونه. كان يقول: "إنها عائلتك، وهم عائلتي الآن."
كبر الطفلان. ذهبا إلى الحضانة، ثم إلى المدرسة. وبيتر مشغول بعمله، وخديجة... بدأت تجلس لساعات أمام شاشة التلفاز، تتابع الأخبار من العالم العربي، الحروب، الهجرات، الانكسارات وتسمع من بعض القنوات العربية عن الإسلام والغرب، عن صراع الحضارات. شيئا فشيئا، بدأ عالمها الداخلي يتحول. لم يعد التعاطف كافيا. صار يشبه الواجب. ثم صار يشبه الهوية. ثم صار يشبه الدين.
بدأت ترتدي الحجاب. لم تخبر بيتر مسبقا، لكنه نظر إليها ذات صباح، وهي تغطي شعرها بإحكام، فابتسم ابتسامة صغيرة، وقال: "إنه قرارك. لن أتدخل."
حاولت أن تجد عملا. قدمت على وظائف، وذهبت لمقابلات، لكن شهادتها الجامعية، رغم قيمتها في بلدها، لم تكن تعني شيئا هنا. "ليس معترفا بها"، قالوا لها. فانطوت أكثر.
حاولت أن تبني صداقات مع نساء عربيات في أماكن قريبة جغرافيا. في البداية، كن يرحبن بها، يسألنها عن دمشق، عن طفولتها، عن أهلها. لكن الصداقات لم تصمد. فذات يوم، سمعتها إحداهن، وهي امرأة عربية مطلقة، تعمل بجد لتعيل نفسها بعد أن هربت من زوج كان يضربها يوميا، تقول لسيدة أخرى: "أحضرها لتخدمني في البيت، وأعطيها ملابسي القديمة مقابل أجر بسيط." فانتشر الخبر، وانقطع عنها الجميع. لم يعودوا يسلّمون عليها. حتى في السوق، كانوا يتجنبون النظر في عينيها.
حاولت التقرب من والدة بيتر. كانت امرأة طيبة، لكنها مشغولة دائما بعملها التطوعي، بحياتها. لم تجد وقتا للاستماع إلى حديث خديجة عن "الظلم"، أو "الهوية"، أو "الغربة". كانت تبتسم، وتقول: "نعم، عزيزتي"، ثم تنتقل إلى موضوع آخر. فاكتفت خديجة بلقائها في الأعياد، وفي مناسبات العائلة، حيث الكلام لا يتجاوز الطقس والطعام.
بدأ الضغط يثقل عليها. شعرت بأنها وحيدة. بأنها غريبة. بأن الألمان، كل الألمان، لا يفهمونها. ثم بدأت تسقط هذا الشعور على بيتر. صار كل تأخير في عودته من العمل "إهمالا". وكل نظرة منه "استعلاءً". وكل صمت "تجاهلًا".
أصبح كل حديث بينهما يدور حول الدين. لم تعد تتحدث عن السياسة، أو الأدب، أو حتى عن أطفالهما، بل عن الإسلام. وكأنها تريد أن تُدخله في دينها ليس إيمانا، بل بحثا عن نقطة ارتكاز، عن هوية ثابتة في عالم تشعر أنه يتداعى من حولها. وصارت تتدخل في كل شيء، في طريقة لبس الأطفال، في أكلهم، في ألعابهم، في كلامهم.
وذات مساء، والأسرة مجتمعة حول مائدة العشاء، تحدث الابن الصغير، بفخر الطفل الذي تعلم شيئا جديدا، لأخته:
"هل تعرفين؟ آينشتاين هو الذي اخترع النظرية النسبية!"
فقطعت خديجة حديثه، بنبرة حازمة، وكأنها تصحح خطأً جوهريا:
"دعك من هذا. أول من تحدث عن النظرية النسبية هو النبي محمد ﷺ."
سكت الطفلان. توقفت الملاعق والشوك . نظر الابن إلى أخته، ثم إلى والدته، ثم إلى والده، كأنه ينتظر تفسيرا لهذا الذي لا يفهمه.
أما بيتر، فنظر إلى زوجته طويلا. لم يصرخ. لم يغضب. فقط قال، بهدوء قاتل:
"اتركي هذا الهراء."
فانفجرت خديجة، كسد انهار:
"هذا ما أعرفه! وأنا متأكدة منه!"
فأجابها، بصوت ما زال هادئا، لكنه حمل كل ثقل السنوات:
"اتركي قناعاتك لنفسك. دعي الأولاد يتعلمون ما يُدرّس في مدارسهم. نحن في ألمانيا. هذا هو النظام. وهذا ما سينفعهم في حياتهم."
فصرخت:
"هم أولادي! ولي الحق أن أعلّمهم ما أراه صحيحا!"
فردّ، دون أن يرفع صوته:
"وهم ولداي أيضا. ولي الحق أن أحميهما من الخلط بين الدين والعلم. نحن هنا. وهذا ما يُدرّس هنا. وحين يكبران، سيقرران بأنفسهما ما يؤمنان به. لا نحن من يفرض عليهما ذلك الآن."
فبدأت تبكي. ليس بكاء هادئًا، بل نحيبا مكتوما، ممزوجا بصراخ خافت. أمسكت منديلا ورقيا، وراحت تمسح دموعها، لكن الدموع لم تتوقف.
ونظرت إليه، ليس كزوج، بل كعدو. كغريب. كألماني لا يفهمها، ولن يفهمها أبدا.
ثم صرخت، والكلمة تخرج من أعماقها، كأنها تنزف:
"طلّقني!"
وبيتر... لم يقل شيئا.
أغمض عينيه.
وأطلق تنهيدة طويلة، تنهيدة من يعرف أن شيئا ما قد انتهى،
وأن لا جدوى من الكلام بعد الآن.
#أكرم_شلغين (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟