|
العطر
جمال الهنداوي
الحوار المتمدن-العدد: 8466 - 2025 / 9 / 15 - 02:31
المحور:
الادب والفن
- صباح الخير.. كيف الحال عمي العزيز أبا خضير.. أراك مبكرا اليوم؟ قالها الرجل الذي اعتاد أن يبدأ كل صباح بتحية أبي خضير في نفس الوقت تقريبًا. قبل أن يفتح محلاً له لبيع الخضروات على الطرف الآخر من السوق. - صباح النور، لو تترك عمك وشأنه لكان أفضل - على رسلك عمي أبا خضير، أراك لا تتحمل مني كلمة؟ وبابتسامة تشي بتقبله للمزاح الثقيل الذي أدمن سماعه من صديقه العجوز - لو كان أبو فراس هو من ألقى عليك تحية الصباح، هل كنت ستجيبه بهذه الحدة؟؟ - وهل ترى أنك وهو سيان، من مهازل الدهر أن تقارن نفسك به أجاب "أبو خضير" وهو يخفي إبتسامة رضا خفيفة من ذلك التناغم المعتاد بينه وجاره العتيد.. ككل صباح، وضع علبته الكارتونية التي تحوي قناني صغيرة جدا من العطر على الطاولة، وأخذ يرصها بشكل يتيح للزبائن قراءة الملصقات التي تشير إلى أسماء العلامات الشهيرة في عالم الروائح الطيبة. أراد جاره أن يشاكسه أكثر استدرارا لردوده اللاذعة - تمنيت فقط أن أعرف ما الذي يفعله أبو فراس ليحتل كل هذه المكانة في قلبك، هل يحمل حجابا للمحبة مثلا؟؟ - أرأيت.. هل استوعبت الآن لماذا كنت أقول لك أنه من العار أن تقارن نفسك به، انظر يا هذا، أولا.. أبو فراس صديقي.. والأهم أنه عندما يمر علي لا يبدأ كلامه بالترهات التي تتحفني بها كل يوم، فعندما نتبادل الأحاديث، تكون عن أمور جادة، ومهمة، أكثر تعسراً من مستوى تفكيرك، عن أيام وذكريات عشناها وخبرناها وما زالت محفورةً في قلوبنا منذ سنين، أيام جميلة لم يقدر لها أن تستمر.. عدا هذا، يكفي أن عطره تكاد تتنسمه من أول الشارع.. هل تعلم.. وأشك أنك تعلم، كلما شممت العطر الذي يضعه أبو فراس تنتابني كل الذكريات التي تعيدني لتلك الأيام. - ما هذا الكلام عمي العزيز.. (ضاحكا) كيف اختلقت كل هذا؟؟ - لك كل الحق والله.. أنى لك أن تفهم هذه الأمور، وأنت على ما أنت عليه.. ولكن مع هذا.. اقترب مني قليلا، لا تخف.. (ضاحكا) لن أضربك. رغم أنه كان يعلم ان أبو خضير قد يفعلها، ولكنه تقدم نحوه معتمدا على ما كان عليه صديقه العجوز من مزاج رائق.. فتح أبو خضير قنينة صغيرة من العطر.. وبمرود زجاجي صغير اخذ بعضا منها وقربها من أنف صاحبه - ماذا تشم؟ - هذا عطر "الـزيارة" - الحمد لله هناك شيء ما تعرفه في هذه الحياة.. فعلا.. هذا عطر يدعى بالحضروي.. و الآن، ماذا مر بخاطرك؟؟ - بصراحة - نعم.. تكلم - تذكرت أيام كان والدي ووالدتي يصطحبوني معهم لزيارة المراقد المقدسة وأنا صغير. - الله يرحمهما.. أرايت.. العطر ليس هواماً طافيةً في الهواء، العطر مخزن للذكريات.. وسجل للحياة.. ولكن ليس الكل من يعي هذا، عمك أبو فراس عندما يمر علي، عطره يعيدني إلى وقت كان فيه الكثير من الجمال والقليل من أمثالك عاد الرجل مبتسماً إلى دكانه، فهو يعرف تماما ما يحمله أبو خضير من مودة له، بل للجميع.. وأن كلامه كله لا يعدو أن يكون مزاحا.. وإن كان من النوع الثقيل الذي تعود سماعه كل يوم. أعاد أبو خضير رص قنانيه مرة أخرى، وغير في مواقعها عدة مرات، وهو الأمر الذي لم يفعله منذ أن أحتل زاويته المعروفة في مدخل شارع الرشيد قرب جامع الحيدر خانة، في دُكانه الصغير، الذي لا تتجاوز مساحته طاولة خشبية صغيرة، يضع عليها، إلى جانب الكثير من أعواد البخور، العطور التي يصنعها بيديه المعروقتين من خلال تخفيف عطور مركزة مقلدة بدورها من علامات تجارية معروفة.. كان يكدح كل يوم في بيع هذه الأشياء البسيطة، قانعا بالنزر الشحيح الذي يتحصل عليه منها، وما الذي يتوجب عليه أن يفعل غير هذا، فهو قد اعتاد الوقوف كل يوم في نفس المكان، يجتر ما تجود به العطور من ذكريات للكثير من الوجوه التي مرت من خلال أيامه المكرورة التي عاشها، وإن كان معظمها لم تعد تحمل له الكثير من السعادة، إن لم تكن تغرقه بالهموم وحده من يبهجه بمروره وبعطره الذي يفوح من بعيد كعصافير من ضوء تتراقص حول المكان، أبو فراس.. التاجر الميسور الذي اعتاد المرور كل يوم من أمام طاولة أبي خضير بعد أن يركن سيارته في الكراج الملفق في آخر ساحة الميدان، وأدمن الوقوف قليلاً معه لتبادل الحديث.. أو لشرب الشاي الصباحي في بعض الأحيان، كان يحرص على شراء نفس النوع من العطر تاركا لأبو خضير متعة الشعور بصداقته وامتياز التبجح بأصالة عطوره رغم أنه يعرف بأنفه الحساس الفرق بين عطر أبي فراس الأصلي والغالي الثمين وعطره الباهت خفيف الثبات الذي يبيعه لكل من لا يقوى على ثمن العطر الذي يدوم. كان الرجلان من عمر متقارب نوعا ما.. ويضعان العطر نفسه، مع اختلاف النسخ طبعاً، ويحتفظان بالنوع نفسه من الذكريات، وعاشا ذات الزمن، وكان أكثر ما يسعد أبا خضير هو عندما يتفوق على أبي فراس في تذكر حادثة ما أو نتيجة مباراة أو كلمات أغنية كانت رائجة في ذلك الزمن، فتلك الانتصارات الصغيرة تجعله ينسى لهنيهات معدودة الفوارق بينه وبين صديقه الذي يحب، والذي يذكره بما كان من الممكن ان يكون عليه لولا جور الزمان ووفاة والده واضطراره لترك الدراسة وخوض كل تلك الحروب التي جرته من تلابيبه نحو الوقوف في الزاوية نفسها طوال هذه السنين.. السوق مزدحمًا كالمعتاد، ولكن هناك شيء ما في الأجواء بدا مختلفًا. كان الناس يمرون مسرعين، وجوههم محملة بالملل، يملؤهم الأرق من رحلة الحياة التي لا تنتهي.. كثير منهم زبائنه الذين كانوا في الأغلب الوجوه نفسها التي يراها كل يوم، ولكن أبا خضير كان يرنو إلى الطريق الذي اعتاد أن يسلكه صاحبه، وأنفه كان يفتقد شيئا ما في الهواء الذي يحيطه. - كيف الحال أبا خضير؟ أرجو أن يكون يومك طيبا؟ سأل أحد المارة وهو يقترب منه مسرعًا كي لا يتأخر عن عمله. كان وجهه يفيض بالتعب، وعيناه مليئتان، ككل الشغيلة، بالقلق من نهاية يوم قد لا تأتي كما يشتهي. - الحمد لله ولدي العزير، الأمور طيبة، مثل كل يوم أجاب "أبو خضير" بصوت هاديء، ولكنه لم يكن مقتنعا تماما بما قاله، فالحياة لم تكن "طيبة" كالمعتاد، هناك شيء ما أوقف روتينها الممل، روائح عديدة تجمعت بالهواء ذكرت أبو خضير بعطر الخشب المحترق في الليالي الباردة في تلك الحدود البعيدة، وروائح الأسفلت المشوي بنار الصيف أعادت إليه ذكريات الحروب التي استهلكت شبابه وقوته ورمته على هذا الرصيف - ذكريات سيئة اليوم.. أين أنت يا أبا فراس؟ همسها أبا خضير لنفسه، وهو ينظر حوله في السوق، باحثًا عن ذلك الوجه الذي كان يحمل دومًا بعض الكلمات الطيبة.. تطير لسبب ما من قولها بصوت عال، ولسبب اخر لا يعلمه أيضاً تحاشى السؤال عن صاحبه الذي تأخر عن موعد مروره اليومي وهو ما كان يندر حدوثه كانت الحياة في السوق -شأنها كل يوم- لا جديد فيها، ولكن "أبو خضير" كان مختلفًا. اليوم، فكر أكثر من المعتاد في الماضي الذي مرّ، وفي الوجوه التي مرت في خياله لأناس عبرت السوق بأحلام بسيطة، وبطون خاوية، وقلوب مليئة بالحكايات التي لم يَسمح لهم الزمان بسردها..، فيهم من بقي قابعا في مكان ما، وفيهم من اختفى للأبد.. فالسوق كان دوما محيطاً للأوجاع الصامتة.. - عافاك الله يا أبا خضير، أراك ساهما اليوم.. أين كنت؟؟ قالها أحد الزبائن الذين يترددون على السوق بشكل شبه يومي. - بل أين كنت أنت؟ أجابه أبو خضير وهو يبتسم في وجهه، ولكن ابتسامته كانت باهتة بلا روح.. كان أبو خضير يراقب الوجوه التي تلمحها عيناه، يذكر بعضهم، ويستعيد معهم بعض الأسماء القديمة التي رحلت، والأحلام التي لم تتحقق.. وفي أغلب الأحيان، في خضم تأمله الطويل، كانت يده تمتد تلقائيًا إلى قناني العطر المرصوصة أمامه وكأنها تضغط على ذكرياته التي يبيعها للآخرين. العطر بالنسبة له أشبه بشذا الذكريات، يعيد رائحة الأوقات الجميلة التي ضاعت، والحكايات التي انتهت. - الحياة لا تتوقف على أحد أسرها في نفسه.. الناس مثل العطر، يمرون بسرعة، والريح تمسح آثارهم.
لكن ليس كل الناس تمحي الأيام صدى خطواتهم، وتبدد الريح عطرهم، كان أبو خضير يفتقد صديقه المقرب، الذي اعتاد أن يمر عليه كل يوم، يتحدث معه، ويذكره بالأيام الماضية، حين كان كل شيء أسهل، أو على الأقل، كانت الأمور تبدو كذلك. لكن اليوم، كان "أبو فراس" غائبًا. *** لم يمر الكثير من الوقت حتى شاع الخبر، وأخذ الناس يتناقلونه بنوع من الأسى - سبحان الله.. بالأمس كان واقفا هنا يشرب الشاي ويضحك - يقال إنها جلطة لم تمهله الا ساعات - لم يكن يبدو عليه المرض، إنا لله وإنا إليه راجعون *** في الأيام التالية، كان السوق كئيبًا قليلاً أكثر من المعتاد.. ولكن الحياة كانت مستمرة، وحده "أبو خضير" كان يشعر أن السوق فقد شيئًا من روحه.. كانت رائحة العطور التي يبيعها تشبه رائحة الفقد، ممسوحة الذاكرة، مجرد روائح متنافرة تختلط بالذكريات الغائمة التي رحلت.. ولم يعد هناك طعم يميزها عن رائحة عوادم السيارات التي يضج بها المكان.. ولا شيء يمكن أن يعيد الزمان إلى الوراء *** وكأنه قدر محتم، قرر "أبو خضير" بعد أيام أن يترك المكان الذي كان يراه هو وكل الناس منزلاً صغيرًا له. فالأمر كان بالنسبة له لا يطاق، رائحة السوق قد اختفت عن روحه إلى الأبد، وكان يراها الآن أشبه بمكان فارغ من جميع الألوان.. في صباح اليوم التالي، أخذ آخر قناني العطر التي صنعها، وأغلق زاويته، وسار مبتعدًا. قد يكون قراره مفاجئًا، لكنه كان يعلم أن الذكريات، مهما كانت جميلة، لا تستطيع أن تكون أكثر من عبير زائل. - أبا خضير، لماذا؟ أين ستحط رحلك؟ سأله أحدهم وهو يراه يسير مبتعدًا. - حان الوقت يا ولدي.. السوق فقد ذاكرته.. صار بلا روح.. أجاب "أبو خضير" وهو يبتسم بخفوت، وكأن الابتسامة هي آخر ما تبقى له من كل شيء. قبل أن يترك السوق، كان عليه أن يأخذ معه ما تبقى من ذكرياته، ويترك خلفه قصة قد تروى لبعض الوقت، قصة رجل باع العطر ليشتري لحظات من الزمن الجميل، ولكن الزمن لم يمنحه فرصة لإعادتها.
#جمال_الهنداوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما بعد (غزة).. ليس كما قبلها
-
كلام في الحداثة
-
موسم الرياض لأهل الرياض.. ما الخطأ في ذلك؟
-
اختبار الضمير
-
أنتخاب.. أم تزكية
-
المال والثقافة
-
أمريكا وأيران.. والعرب بينهما
-
(سيلفي) خلف النعش
-
حديث الدراما
-
معاوية..درامياً
-
الإعلام العربي.. بين الفشل والتواطؤ
-
صراع السرديات.. معركة وجود
-
كتب بلا صور
-
الديكتاتورية الخوارزمية
-
مقدمات جديدة..لتاريخ قديم
-
الخلاف والاختلاف
-
موقعة ( الأم بي سي)
-
مثقفو القصاع
-
التاريخ المحكي..والتاريخ المكتوب
-
السيرة.. بين التوثيق والتلفيق
المزيد.....
-
مسرحية الكيلومترات
-
الممثلة اليهودية إينبندر تحصد جائزة إيمي وتهتف -فلسطين حرة-
...
-
الأبقار تتربع على عرش الفخر والهوية لدى الدينكا بجنوب السودا
...
-
ضياء العزاوي يوثق فنيًا مآسي الموصل وحلب في معرض -شهود الزور
...
-
إشراق يُبدد الظلام
-
رسالة إلى ساعي البريد: سيف الدين وخرائط السودان الممزقة
-
الأيقونات القبطية: نافذة الأقباط الروحية على حياة المسيح وال
...
-
تونس ضيفة شرف في مهرجان بغداد السينمائي
-
المخرجة التونسية كوثر بن هنية.. من سيدي بوزيد إلى الأوسكار ب
...
-
نزف القلم في غزة.. يسري الغول يروي مآسي الحصار والإبادة أدبي
...
المزيد.....
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
المزيد.....
|