أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - سبتمبر … شهر أمي














المزيد.....

سبتمبر … شهر أمي


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 8465 - 2025 / 9 / 14 - 11:34
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


Facebook: @NaootOfficial

سبتمبر هو سِرّنا الخاص الذي يجمعني بأمي. فيه وُلدتُ، وفيه وُلدَتْ، وفيه رحلتْ لتتركني وحيدةً في هذا العالم المزدحم. صار الشهر صندوقًا مُلغزًا، نصفه مضاءٌ بشموع الميلاد وأناشيد طفولة، ونصفه الآخر معتمٌ بشارات الحداد وبياض الكفن. كلما أقبل خريفُ سبتمبر، أشعرُ أنني أضع قدمي في ممرّ غامض، جدرانه مشبعة برائحة الحزن والفرح معًا، كأن القدر قرّر أن يربط حياتي بحياة أمي بخيط واحد، مشدود مبهج ومؤلم، اسمه سبتمبر.
في الخريف، تخلعُ الأشجارُ ثوبَها القديم، وتُهديه للأرض. فتكتسي الأرضُ بثوب فاتن من الذهب مغزول بأوراق الشجر. أحب سبتمبر الذي يحمل صوت أجراس المدارس وشقشقة العصافير في الصباح، ورائحة حقائب المدرسة الجديدة، وهدايا عيد ميلادي. لكنه كما يحمل لي الفرح، حمّلني سلّة ضخمة من وجع فقد أمي، أحيانًا لا أقوى على حملها، فتسقط من فوق رأسي، وأنحني لأرفعها من جديد، مثل "سيزيف" يحمل صخرته إلى الأبد.
كانت أمي امرأةً استثنائية، جميلة كأميرة وصلبة كصخرة. جمالها الخارجي كان ستارًا يخفي حزمًا وجدّيةً تُرهب القلوب. كانت تقول إنها تبني لمصر هرمين: طبيبًا ومهندسة. لم ترَ النجاح والتفوق رفاهية، بل واجبًا وطنيًا تجاه مصر التي أنجبت العظماء. وفي معجمها لا مكان لدرجة ناقصة؛ فالتسعة والتسعون في المئة ليست إلا جرحًا في الكمال، فتظلُّ تتساءل عن الدرجة الناقصة أين ذهبت؟ ورثتُ عنها برج العذراء بكل هوسه بالإتقان ونشدان الكمال الذي لا يأتي، ذلك الهاجس الذي يحرق صاحبه ويؤلم مَن حوله، لكنه يهب الإنسانَ شعورًا جادًّا بالمسؤولية وعقلية نقدية لا تساوَم.
رحيلُ أمي "سهير" كان الامتحان الأصعب في حياتي الزاخرة بالامتحانات والشهادات. يوم الغُسل، وقفتُ أمام جسدها الُمسجّى، والنساء يسكبن فوقها ماء زمزم الذي حملتُه لها من "مكة المكرمة" كما أوصتني بأن تُغسَّل به. لم أستوعب أن هذي السيدة القوية التي لم تنحنِ يومًا لقمع أو ظرف، تستسلم الآن لأيادي غريبة تغسلها. همستُ لها: “قومي يا ماما!” ولم تجب. كنتُ أبحث في عينيها البُنيتّين نصف المغمضتين عن ومضة تمرد، عن إشارة رفض، عن الخوف عليّ بعدما تمضي كما كانت تردد دائمًا. لكن لم يكن هنا إلا الصمت، ودموعي. وحين مددوا الكفن فوق وجهها، شعرتُ أن الحياة تنهار. مددت يدي لأزيح القماش، صارخةً: “دعوا وجهها لي!” لكنهن دفعنني بعيدًا.
اختفاءُ وجهها في بياض الكفن أيقظ داخلي جُرح طفولتي القديم. أول يوم لي في المدرسة. أجلسَتني في الفصل، ثم خرجت ولوّحت لي من النافذة المطلة على الكوريدور، واختفى وجهها. لم أستوعب كيف تتركني أمي وتمضي. صرختُ وركضتُ خارج الفصل، فعادت أمي وجلست جوار النافذة. وكنتُ أنهض بين الحين والآخر أنظر من النافذة لأتأكد أنها هناك، حتى أغلقوا النافذة في اليوم الثالث لأعتاد غيابَها. الكفن في لحظة الوداع كان نافذة أخرى أُغلقت في وجهي، وأعادتني طفلةً تبكي اختفاء وجه أمها.
في "مسجد النور" بالعباسية، يوم الجناز، اقتربت مني زوجة أخي وقالت: “ماما برا في العربية مش قادرة تدخل، عايزة تشوفك.” طِرتُ من الفرح، وركضتُ بلهفة لأستقبل أمي التي عادت لتمسح دموعي. بحثتُ عنها في الوجوه خارج المسجد، لكنني لم أرها. كانت تقصد أمها هي. أما أمي، فقد مضت إلى حيث تمضي الأمهاتُ ولا يعُدن. رجعتُ إلى المسجد منهارة، والناس يربتون على كتفي، ولا يعرفون أن كتفي لا يقبل يدًا سوى يدها.
إلى اليوم، كلما شعرتُ بالخوف، أدق رقم هاتفك، وأنا موقنة أن الصوت الآلي سيجيب: “هذا الرقم غير موجود بالخدمة.” أضع الهاتف جانبًا. ثم أشغّل "سورة غافر" بصوت "المنشاوي"، شيخك المفضل. وعند الآية: “ثم يُخرجكم طفلا”، أراكِ في مخيلتي تبتسمين، وتضعين يدك على بطني الذي يحملُ طفلي. صوت الشيخ يملأ الغرفة، ودموعي تملأ عيني، كأن الآية لم تُنزل إلا لي.
***
(أخافُ اللونَ الأبيضَ)
ماذا أعملُ/ بالثلجِ عشّشَ في أركانِ البيت/ ماذا أفعلُ بقِطَّتِكِ البيضاء/ تُقعي في غرفة المعيشة صامتةً/ تنظرُ نحو بابِ البيت/ تَرْجُفُ أذناها/ مع كلِّ وقعِ قدمٍ/ على درجات السُّلّم/ كلَّ خطوةٍ قادمة تظُنُّها أنتِ/ مثلماأظنُّ أنا./ ماذا أفعلُ بصورِ العائلة على الحائط الأبيض؟/ بالأبوابِة البيْضِ مغلقةٍ أمام عينيّ و قلبي/ بستارةٍ بيضاءَ ساكنةٍ لأن الشيشَ مُقفَل ولا هواء؟/ ماذا أفعلُ بالسيارةِ البيضاء/ التي لم تعدْ واقفةً تحت البيت؟/ ماذا أفعلُ بخُصلةٍ من شَعرِكِ بيضاءَ عالقةٍ بأسنان المشْط؟/ بشالِ حريرٍ أبيضَ/ جلبتُه لك من مراكش؟/ بقطرةٍِ من ماءِ زمْزمَ عالقةٍ في كأسِ غُسْلِك؟/ ماذا أفعلُ بوحشتي وخوفي؟/ هل أبيعها وأشتري أمًّا لا تتركني وتمضي؟




***



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الأخلاقُ والمحبة والتجديد… ثلاثيةُ الرسالة في خطبة الوزير
- زجاجُ سيارتي المصدوع… والفلاسفة
- “نجيب محفوظ-… سيدُ المفارقات
- الضحايا جلاّدون … في The 8 Show
- “مريم-… أيقونةُ الحنوّ الكوني
- في مديح -العُسر- … و-التصوّف-
- أبي … وأبي الروحي
- موسمُ الرياض سعوديًّا… وعقلٌ لا يعجبه العجب!
- أقلامُهنَّ … في ميزان البحث الأكاديمي
- احترامُ جلال الموت
- -مصرُ- و -غزّة”… التاريخُ يشهدُ بما يُغنينا عن الكلام
- فيروز … هاكِ مِنديلي لتُخبّئي دموعَك
- -كتالوج-... الأبوة والأمومة
- الأميرُ النائم … والساهرون على حُلمه
- نغتالُ الوترَ … ونرقصُ على نغمِه!!
- لماذا نكرهُ مَن يحبُّ؟!
- كرامةُ المعلّم… ة
- بين القمحِ والفكر… شكرًا د. “حسام بدراوي-
- مشرقاتٌ … في -منتدى القيادات النسائية-
- صالون العدل


المزيد.....




- سلطان عمان يغيب عن القمة العربية الإسلامية بالدوحة غدا
- إبادة غزة.. غارات إسرائيلية عنيفة على مبنى داخل الجامعة الإس ...
- اجتماع تحضيري للقمة العربية الإسلامية في الدوحة
- الثالث خلال ساعات.. جيش الاحتلال يهدد بقصف مبنى داخل الجامعة ...
- الأيقونات القبطية: نافذة الأقباط الروحية على حياة المسيح وال ...
- مغردون لقادة القمة الإسلامية: نريد خطوات توقف العربدة الإسرا ...
- إيهود أولمرت يعرب عن أسفه لوفاة نجل خليل الحية في هجوم الدوح ...
- قمة الدوحة.. هل تغادر الدول العربية والإسلامية دائرة الشجب و ...
- الاحتلال يخطر بالاستيلاء على نحو 3 دونمات من أراضي كفر الديك ...
- اجتماع وزاري تحضيري للقمة العربية الإسلامية الطارئة بالدوحة ...


المزيد.....

- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فاطمة ناعوت - سبتمبر … شهر أمي