أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الرابعة: تاريخية النص الديني















المزيد.....



قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الرابعة: تاريخية النص الديني


محمد بركات

الحوار المتمدن-العدد: 8446 - 2025 / 8 / 26 - 18:13
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


هل القرآن كتاب أزلي فوق التاريخ والزمان، أم هو ظاهرة تاريخية، نزل في مجتمع بدائي جاهلي. وماذا عن الكتب الأخرى التي نزلت على شعوب أخرى في مجتمعات أكثر تحضراً، هل هي أزلية هي الأخرى، أم أننا نصدق أن إله العالمين هو إله المسلمين فقط، وبقية الخلق في النار؟! هل اللغة العربية هي لغة أهل الجنة كما قال علماؤنا، بارك الله في علمهم ونفعنا به ؟!
لقد صعقت حين سمعت الدكتور الفاضل خزعل الماجدي يقول أن كل أديان العالم القديم كانت تعتقد أن معبدها هو سُرة الأرض، كما يعتقد المسلمون في الكعبة!
فكل شعب يتخيل أن دينه أو تراثه شيء كوني أو مطلق، لأنه يعيش داخله كالعصفور داخل القفص، ولأنه لم ير غيره، ولكن في الواقع لا يوجد تراث مطلق، مهما كبر حجمه واتسع وانتشر، وإنما توجد عدة تراثات نسبية للبشرية (محمد أركون، القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، ص 48 والقائل هو جوهان فون هيردير، الذي اشتهر بآرائه حول النسبية التاريخية).
يقول د. نصر حامد أبو زيد في كتابه (مفهوم النص) : (لقد كان محمد — المستقبل الأول للنص ومبلغه — جزءًا من الواقع والمجتمع. كان ابن المجتمع ونتاجه، نشأ في مكة يتيمًا، وتربى في بني سعد كما كان يَتربَّى أترابه في البادية. تاجر كما كان يُتاجر أهل مكة، سافر معهم وشاركهم حياتهم وهمومهم. وحين أراد بعض الأعراب أن يُعاملوه معاملة الملوك بعد البعثة رفض. وحين رأى أعرابيًّا ترتعد فرائصه وهو يستعدُّ للقائه هدَّأ روعه وقال قولته المشهورة: «إنما أنا ابن امرأة كانت تأكُل القديد بمكة.» هذا ما يَحكيه التاريخ عن الرجل والإنسان الذي شاء الفكر الدِّيني السائد — قديمًا وحديثًا — أن يُحوِّله إلى حقيقة مثالية ذهنية مفارقة للواقع والتاريخ، حقيقة لها وجود سابق على وجودها الإنساني العياني المادي. وشاء هذا الفكر في أشد مزاعمه إنسانية أن يجعل منه إنسانًا مغمض العينَين معزولًا عن المجتمع والواقع، يعيش همومًا مفارقة مثالية ذهنية، حتى حوَّله هذا الفكر إلى إنسان خالٍ من كل شروط الإنسانية).
حين نقرأ القرآن نرى أنه نزل على النبي محمد متفاعلاً مع الأحداث المتوالية ومرشداً للنبي في علاقته مع المشركين، وراداً على شبهاتهم وأسألتهم الخ.. وهذا يعني أن القرآن كتاب تاريخي يتناول أحداثاً تاريخية ووقائع حدثت في الماضي، وهذا يتجلى في ما يعرف بأسباب النزول، وأسباب النزول علم معروف من علوم القرآن، ألفت فيه مؤلفات كثيرة تحت هذا العنوان، وهو يعني أن كثيراً من آيات القرآن نزلت لتعالج واقعة معينة وأن هذا هو سبب نزولها.
ولا شك أنه مع تغير الظروف وتطور المدنية فإن هذه الآيات تصبح آيات الأحكام للتلاوة لا للتطبيق العملي، ولذلك أوقف عمر بن الخطاب سهم المؤلفة قلوبهم مع أن هذا الحق قد كفله الله لهم ونص عليه في كتابه الكريم وطبقه الرسول على طلقاء مكة والمسلمين الجدد كصفوان بن أمية. ولكن عمر عطل نصاً قرآنياً ينص على بند من بنود الزكاة (والمؤلفة قلوبهم) معللاً أن ذلك كان في صدر الإسلام وقد كان الإسلام آنذاك ضعيفا يؤلف قلوب المشركين ولكنه الآن قد استعصى وقويت شوكته فلم تعد تلك الآية قابلة للتطبيق في الزمان الحالي. مع أن الفارق الزمني بين وفاة الرسول ﷺ وخلافة عمر بسيط جداً لا يتعدى سنوات بسيطة، فكيف يمكن أن نرجع آيات الجزية والقتال والرق والعبيد والحدود وتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف والرجم بالحجارة للزاني حتى الموت وما إلى ذلك بعد انقضاء 1400 سنة؟! آيات الأحكام لم تعد تصلح في عصرنا، وإنما كانت بنت بيئتها ومجتمعها، هذا هو معنى تاريخية النص الديني، وهو ما أخذت به أوروبا منذ قرون عديدة، وتخلصت من من ذهنية التحريم وسلطة الكهنوت.
يقول الأستاذ مصطفى العارف: (لقد اعتقدت التصورات الدينية أن القرآن الكريم، الذي نزل به الوحي، نص قديم، وأزلي، وهو صفة من صفات الذات ً، وكل من قال إنه محَدث، وليس قديما أو إنه مخلوق، خالف العقيدة، واستحق صفة الكفر.. والحال أن هذه الإشكالية عرفت نقاشاً واسعاً خلال فترة ازدهار المعتزلة؛ الذين كانوا يقولون بالخلق. إن مسألة «خلق القرآن» كما طرَحها المعتزلة تعني في التحليل الفلسفي أن الوحي واقعة تاريخية ترتبط أساسًا بالبُعد الإنساني من ثنائية الله والإنسان، أو المُطلَق والمحدود،٩ الوحي في هذا الفهم تحقيق «لمصالح» الإنسان على الأرض.
تعني التاريخية - حسب أبو زيد - الحدوث في الزمن، أو حدوث أفعال الله تعالى في الزمن والتاريخ، حيث تمثل لحظة التمييز والفصل بين الوجود المطلق المتعالي، وبين الوجود المشروط الزمني، بعبارة أخرى، تنزيل القرآن الكريم يعني أنه انفصل عن المتعالي المقدس وأصبح كتاباً دنيوياً؛ وإن كان هذا لا يرفع عنه صفة القداسة. فالمتأمل في ثنايا القرآن الكريم سيلاحظ أنّه يرتبط بالواقع البشري بشكل كبير، وما ارتباطه هذا سوى تعبير عن أن مركز اهتمامه هو السياق الزمني، وليس المتعالي.
تمثل ذريعة "أسباب النزول" إحدى أهم الركائز التي تدعم هذا التصور، فإذا كان القرآن الكريم قد نزل وفقاً لترتيب محدّد، وأسباب نزول أعطته مبرراً لنزوله، فإنّ هذا يعني أن النص القرآني قرأ الواقع أولاً، ثم تم إنزاله ثانياً، بمعنى أنه كتاب مقدس يحمل طابعاً دنيوياً بالأساس.
إن القرآن الكريم نص لغويّ، ومادام الأمر كذلك، فإنّه يتفاعل مع الواقع الثقافي؛ الذي نزل فيه، فينهل منه، ويغنيه بشكل معكوس؛ ذلك أنّ المدخل المناسب لدراسة النص القرآني هو الواقع والثقاافة، على اعتبار أن الواقع هو الذي ينظم حركة البشر المخاطبين بالنص، وينتظم المتقبل الأول للنص، وهو الرسول، والثقافة التي تتجسّد في اللغة، ومن هذا يخلص أبو زيد إلى أنّ النص القرآني نص ثقافي بامتياز. فليست النصوص الدينية مفارقة لبنية الثقافة؛ التي تشكلت في إطارها، والمصدر الإلهي لتلك النصوص لا يلغي إطلاقاً حقيقة كونها نصوصاً لغوية بكل ما تعنيه اللغة من ارتباط بالزمان، والمكان التاريخي، والاجتماعي؛ ذلك أنّنا لا يمكننا أن ندرس النص خارج معطياته المباشرة متمثلة في اللغة،
إن النص القرآني يستمدّ خصائصه النصيّة المميّزة له من حقائق بشرية دنيوية واجتماعية وثقافية ولغوية، فالكلام الإلهي لا يعنينا إلا في اللحظة التي تموضع فيها بشرياً؛ أي: في تلك اللحظة، التي نزل فيها النص وَحياً، ثمّ تحوّل إلى نص دنيوي مقدّس، يستمدّ خصائصه من تفاعله مع الواقع، بوساطة الإنسان، فلا معنى للنص من دون تفاعل بينه وبين الواقع، فالواقع هو الذي يمنح النصّ دلالته، ومن ثمّة لا يمكن إنكار الجانب الثقافي؛ الذي تشكّلت فيه النصوص، وأصبحت تعبّر، بشكل أو بآخر، عن الطابع المميّز لهذا الواقع الثقافي.
من المعلوم أن النص القرآني تكون خلال ما يربو على العشرين عاماً، وارتبطت أجزاء كثيرة منه، لحظة تولّدها، بسياق يُطلق عليه، في الخطاب الديني "أسباب النزول" الذي يعني - كما هو معلوم - أنّ كلّ آية نزلت نتيجة سبب خاص استوجب نزولها، كما أنّ الآيات، التي نزلت ابتداء، ودون علة خارجية، قليلة جداً. ويؤكّد، أبو زيد أنّ العلماء كانوا يعودون دائماً إلى الواقع لفهم دلالة الآية. بعبارة أخرى، إنّ قدرة المفسّر على فهم دلالة النص لا بد من أن تسبقها معرفة بالوقائع التي أنتجت هذه الدلالة، فربطوا، بذلك، بين النص والواقع لإنتاج دلالة ومعنى الآية) تاريخية النص الديني عند نصر حامد أبو زيد، موقع مؤمنون بلا حدود.
ويقول د. نصر حامد أبو زيد في كتابه (النص السلطة الحقيقة): (من أخطر تلك الأفكار الراسخة والمهيمنة، حتى صارت بسبب قِدَمها ورسوخها جزءًا من «العقيدة»، فكرة أن القرآن الكريم الذي نزل به الوحي الأمين على محمد ﷺ من عند الله سبحانه وتعالى؛ نصٌّ قديم أزلي وهو صفة من صفات الذات الإلهية؛ ولأن الذات الإلهية أزلية لا أول لها فكذلك صفاتها وكل ما يصدر عنها. والقرآن كلام الله فهو صفة من الصفات الأزلية القديمة؛ أي إنه قديم، وكل مَن يقول إنه «مُحْدَث» وليس «قديمًا»، أو إنه «مخلوق» لم يكن ثُمَّ كان — أي حدَث في العالَم — فقد خالف العقيدة واستحق صفة «الكفر». فإن كان مَن يقول ذلك مسلمًا فالحكم عليه أنه «مُرتَد»؛ لأن قِدَم القرآن — أي عدم خلقه وحدوثه — من مفردات العقيدة التي لا يكتمل إيمان المسلم إلا بالتسليم بها. والحقيقة أن مسألة طبيعة القرآن — هل هو قديم أم مُحْدَث — مسألة خلافية قديمة بين المفكرين المسلمين. وقد ذهب المعتزلة مثلًا إلى أن القرآن مُحْدَث مخلوق لأنه ليس صفةً من صفات الذات الإلهية القديمة. القرآن كلام الله، والكلام فِعْل وليس صفةً، فهو مِن هذه الزاوية ينتمي إلى مجال «صفات الأفعال» الإلهية ولا ينتمي إلى مَجال «صفات الذات»، والفارق بين المَجالَين عند المعتزلة أن مجال صفات الأفعال مَجال يمثل المنطقة المشتركة بين الله سبحانه وتعالى والعالَم، في حين أن مجال «صفات الذات» يمثل منطقة التفَرُّد والخصوصية للوجود الإلهي في ذاته؛ أي بصرف النظر عن العالَم، أي قبل وجود العالم وقبل خلقه من العدم. وتفصيل ذلك أن سُنَّة «العدل» الإلهي لا تُفْهَم إلا في سياق وجود مجال لتحقق هذه الصفة، وليس من مجال إلا العالَم. وصفة «الرازق» تتعلق بالمَرْزُوق؛ أي وجود العالم … إلخ. وإلى هذا المجال «مجال صفات الأفعال» تنتمي صفة «الكلام» التي تستلزم وجود «المخاطب» الذي يتوجه إليه المُتكلِّم بالكلام، ولو وصَفْنَا اللهَ سبحانه وتعالى بأنه متكلِّم منذ الأزل — أي إن كلامه قديم — لكان ذلك أنه كان يتكلَّم دون وجود مُخاطَب؛ لأن العالَم كان ما يزال في العدم وهذا يُنافي الحكمة الإلهية.
ليس مفهوم أزلية القرآن إذن جزءًا من العقيدة، وما ورد في القرآن الكريم عن «اللوح المحفوظ» يجب أن يُفْهَم فهمَا مجازيًّا — لا فهمًا حرفيًّا — مثل «الكرسي» و«العرش» … إلخ، وإذا كان «اللوح المحفوظ» مَخلوقًا مُحدثًا، فكيف يكون القرآن المسطور عليه قديمًا أزليًّا، وليس معنى حفظ الله سبحانه للقرآن حفظه في السماء مُدوَّنًا في اللوح المحفوظ، بل المقصود حفظه في هذه الحياة الدنيا، وفي قلوب المؤمنين به، وقول الله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ لا يعني التدخل الإلهي المباشر في عملية الحفظ والتدوين والتسجيل، بل هو تَدخُّل بالإنسان المؤمن بالبشارة والحضِّ والحثِّ، والترغيب على أهمية هذا «الحفظ».
التاريخية هنا تعني الحدوث في الزمن، حتى لو كان هذا الزمن هو لحظة افتتاح الزمن وابتدائه، إنها لحظة الفَصْل والتمييز بين الوجود المُطلَق المتعالي — الوجود الإلهي — والوجود المشروط الزَّمَاني، وإذا كان الفعل الإلهي الأول — فعل إيجاد العالم — هو فِعْل افتتاح الزمان فإن كل الأفعال التي تَلَت هذا الفعل الأول الافتتاحي تظل أفعالًا تاريخية، بحكم أنها تَحقَّقتْ في الزمن والتاريخ، وكل ما هو ناتج عن هذه الأفعال الإلهية «مُحْدَث» بمعنى أنه حدَث في لحظةٍ من لحظات التاريخ).
ويقول د. أبو زيد في كتابه (مفهوم النص): (يُعتبر علم «أسباب النزول» من أهم العلوم الدالة والكاشفة عن علاقة النَّص بالواقع وجدله معه. وقد أدرَك علماء القرآن أن السبب أو المناسبة المعينة هي التي تحدد الإطار الواقعي الذي يُمكن فهم الآية أو الآيات من خلاله. أو بعبارة أخرى أدرك علماء القرآن أن قدرة المفسِّر على فهم دلالة النص لا بد أن تسبقها معرفة بالوقائع التي أنتجت هذه النصوص. ولم يقف علماء القرآن عند مستوى هذا الربط الميكانيكي بين النص والواقع، وإلا ظلُّوا في إطار مفهوم فج للمحاكاة، وإنما أدركوا أن للنص — من حيث هو نصٌّ لغوي — فعالياته الخاصة التي يتجاوَز بها حدود الوقائع الجزئية التي كان استجابة لها، وهو ما ناقَشُوه تفصيلًا في قضية «العام والخاص».
علة التنجيم: السؤال الذي يَتبادَر إلى الذهن من منظور ديني هو: لماذا كان التنجيم مُراعاة للوقائع والأسباب، والله سبحانه وتعالى عالم بالوقائع كلها جملتها وتفاصيلها قبل أن تقع؟ ولا شك أن مثل هذا السؤال يتجاهَل حقيقة أن الفعل الإلهي في العالم فعلٌ في الزمان والمكان؛ أي فعل من خلال قوانين العالم ذاته، سواء كان عالمًا طبيعيًّا أم عالمًا اجتماعيًّا. وإذا كانت هذه القوانين ذاتها من منظور ديني من صُنعِ الله، فإن السؤال نفسه يفقد مبرر طرحه. لكن الذي برَّر طرح هذا السؤال عند علماء المسلمين هو تصوُّرهم أن مُراعاة قوانين الزمان والمكان في الفعل الإلهي يتضمَّن تهوينًا من شأن «القدرة الإلهية» المُطلقة. وقد جاءت إجابة علماء القرآن على هذه الأسئلة كاشفة عن وعي لم يُتح له للأسف أن يمتد إلى كل علوم القرآن. كان السؤال الذي طُرح هو: ألم يكن في قُدرة الله المطلقة أن ينزل القرآن جملة واحدة، وأن يُقدِر النبيَّ ﷺ على حفظِه دفعة واحدة وكان الجواب: «ليس كل مُمكن لازم الوقوع. وأيضًا في القرآن أجوبة عن أسئلة، فهو سبب من أسباب تفرُّق النزول، ولأنَّ بعضه منسوخ وبعضه ناسخ، ولا يتأتَّى ذلك إلا فيما نزل معرفًا.» إنَّ هذا الفهم من جانب علماء القرآن ظلَّ للأسف فهمًا جزئيًّا؛ ومن ثم لم يُتح له أن يظلَّ حيًّا على المستوى الحقيقي في ثقافتنا.
الدلالة بين عموم اللفظ وخصوص السبب: إنَّ أخطر هذه النتائج للتمسُّك «بعموم اللفظ» مع إهدار «خصوص السبب» أنه يُؤدِّي إلى إهدار حكمة التدرج بالتشريع في قضايا الحلال والحرام، خاصة في مجال الأطعمة والأشربة. هذا إلى جانب أن التمسُّك بعموم اللفظ في كل النصوص الخاصة بالأحكام يُهدِّد الأحكام ذاتها. لقد تدرج النص في تحريم الخمر على ثلاث مراحل تعبر عنها ثلاثة نصوص من القرآن هي:
(١) يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا.
(٢) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ.
(٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ.
فأول شيء: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ … الآية، فقيل حُرِّمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله دعنا نَنتفِع بها كما قال الله، فسكَت عنهم. ثم نزلت هذه الآية: لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى، فقيل: حُرِّمت الخمر، فقالوا: يا رسول الله لا نَشربها قرب الصلاة، فسكت عنهم. ثم نزلت: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ، فقال رسول الله ﷺ: «حُرِّمت الخمر.».
ورغم إشارة الآية إلى أن الإثم أكبر من النفع فقد كان الناس حريصين على التمسك بمنافعها. إن قوة الواقع هنا جعَلَت النصَّ يكتفي بالإشارة إلى ما فيها من إثم دون أن يُغامر بالتحريم الذي لم يتهيَّأ له البشر بعدُ. وكانت المرحلة الثانية النَّهي عن الصلاة حالة السكر بما يتضمَّنه من نهي عن شرب الخمر قبل مواقيت الصلاة. وبعملية حسابية بسيطة من السهل أن نُدرك أن هذا النهي كان بمثابة علاج تدريجي لحالة «الإدمان» الاجتماعية. إن مثل هذا التدرج في التشريع لا يُؤكد جدَلية الوحي والواقع فقط، بل يكشف عن منهج النص في تغيير الواقع وعلاج عيوبه. هل مِن المنطقي بعد ذلك أن يتمسَّك العلماء «بعموم اللفظ» دون مُراعاة لخصوص السبب؟ إذا كان عموم اللفظ هو الأساس في اكتشاف دلالة النصوص لأمكن أن يتمسَّك البعض بالآية الأولى أو بالآية الثانية، ولأدى ذلك في النهاية إلى القضاء على التشريعات والأحكام كلها.
الناسخ والمنسوخ: تعدُّ ظاهرة النسخ التي أقرَّ العلماء بحُدوثها في النص أكبر دليل على جدلية العلاقة بين الوحي والواقع؛ إذ النسخ هو إبطال الحكم وإلغاؤه، سواء ارتبط الإلغاء بمحو النص الدالِّ على الحكم ورفعه من التلاوة أو ظل النص موجودًا دالًّا على «الحكم» المنسوخ. لكن ظاهرة النسخ تُثير في وجه الفكر الديني السائد والمُستقِر إشكاليتَين يَتحاشى مُناقشتهما. الإشكالية الأولى: كيف يُمكن التوفيق بين هذه الظاهرة بما يترتَّب عليها من تعديل للنص بالنسخ والإلغاء وبين الإيمان الذي شاع واستقرَّ بوجود أزلي للنص في اللوح المحفوظ؟ والإشكالية الثانية التي تُثيرها ظاهرة «النسخ» هي إشكالية «جمع القرآن» في عهد الخليفة أبي بكر الصديق. والذي يَربط بين النسخ ومشكلة الجمع ما يُورده علماء القرآن من أمثلة قد توهَّم بأن بعض أجزاء النص قد نُسيت من الذاكرة الإنسانية) تم الانتهاء من التجميع الكتابي للقرآن بشكله المحدد كما هو الحال الآن بعد حوالي 20 سنة من وفاة محمد. يجادل كل من جون وانسبرو وباتريشيا كرون ويهودا دي نيفو بأن كل المصادر الأساسية الموجودة هي من 150 إلى 300 سنة بعد الأحداث التي يصفونها، وبالتالي فهي بعيدة زمنياً عن تلك الأحداث. (مقال نقد الإسلام على موقع ويكيبيديا، قسم موثوقية القرآن)،
ويقول د. أبو زيد في كتاب (النص السلطة الحقيقة): (لماذا يلح علينا هاجس «التراث» هذا الإلحاح المُؤرِّق، والذي يكاد يجعلنا أمة فريدة في تعلُّقها بحبال الماضي كلما حزَّ بها أمر من الأمور أو مرَّت بأزمة من الأزمات وما أكثرها؟! فإذا كان التقدم يشير إلى المستقبل ويدل على الحركة، فإن «التراث» يشير إلى الماضي ويدل على السكون والخمود، وكأن العربي قد كُتِب عليه دون البشر كافةً أن تسير قدماه إلى الأمام بينما يلتفت رأسه إلى الخلف، فلا هو يحقق التقدم ولا يقنع بالحياة التي ورثها عن الأسلاف. ويظل المشكل ماثلًا: كيف نحقق التقدم دون أن نَتخلَّى عن «التراث»؟
إن الإنجاز الحضاري لا يَتمثَّل في جانب العلم والتكنولوجيا وحدهما. إن إدراك تركيبيَّة الآخر يحمينا من نتائج التعامل النفعي معه، ذلك التعامل الذي يفصل بين التكنولوجيا وبين الفكر العلمي الذي أنتجها، فيكتفي باستيراد التكنولوجيا لاعنًا أساسها العلمي. وبعبارة أخرى: لا بُدَّ من إنجاز وَعْي علمي بالحضارة الحديثة، بأصولها وأُسسها، وبإنجازاتها الحقيقية)،
إن كل تقدم حضاري وتكنولوجي يسبقه أفكار تحررية، يجب أن نأخذ بها كي نستطيع أن نتقدم مثل الغربيين، وليس صحيحاً ما يقوله الخطاب الديني المعاصر أنه يمكننا أن نتقدم وأن نسبق الغرب مع تمسكنا بالتفكير الماضوي السلفي، يقول د. عبد الإله بلقزيز: (إن كل مانراه في الغرب من وجوه التحديث الإجتماعي والإقتصادي والثقافي والتقني والتكنولوجي، بني على مقدمات فكرية، أي على ثقافة فكرية نشأت في أوروبا، منذ عصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر وحتى عصر الحداثة في القرن التاسع عشر. فالمؤسسات والمنتوجات هي ثمرة لكل لك الأفكار الكبرى التي أنتجها الغرب، في فترة عصر الأنوار وما قبل عصر الأنوار، ومن ثم تأتي تلك المؤسسات وتلك المنتوجات كتجسد وتجل مادي لتلك الأفكار. نحن أخذنا الأمر بالعكس، نأخذ التكنولوجيا ولكن لا آخذ بالأفكار التي مهدت لتلك التكنولوجيا، كالنزعة الأنسنوية والعقلانية والوضعية positivism والفردانية Individualism (عبد الإله بلقزيز، هل نأخذ بالتراث أو بالحداثة، على موقع يوتيوب).
ومنها التاريخية Historicism يقول المفكر الكبير د. محمد أركون: (التاريخية تعني ألا يجعل النص أو المذهب نفسه متعال فوق التاريخ، يجعل نفسه ضمن الطابع الآني الإفتراضي، ويتصف بصفة افتراضية بعيداً عن الإستراتيجية الدوغمائية) نحو نقد العقل الإسلامي ص135 ويقول د. هاشم صالح مترجم أعمال الدكتور أركون: (تاريخية النص هي ارتباطه بلحظة ولادة معينة، ضمن ظروف اجتماعية وثقافية وسياسية معينة) د. محمد أركون، الفكر الأصولي واستحالة التأصيل. هامش ص74
ومنها الأنسنةHumanization وتعني أن الإنسان له مسؤولية تغيير العالم نحو الأفضل، بدلاً من فكرة الخلاص المسيحية. ويستتبع ذلك فكرة الحرية. يقول الباحث الفرنسي "إميل بولا" : كان المسيحي الناتج أو المتولد عن حركة الإصلاح البروتستانتي حريصاً على المستوى الديني على عدم تقديم الطاعة إلا لله وكتابه، لا لكهنته ولا خليفته (أي البابا). وأما الآن، أي مع التنوير فقد تم اجتياز عتبة ثانية، فلم يعد الإنسان يخضع إلا لعقله الذي يستطيع أن يحاكم الأشياء، وأصبح حكم الله والسلطات التي تنتسب إليه، خاضعاً لحكم الوعي البشري الذي يطلق الحكم الأخير باسم الحرية، هذه الحرية التي تمثل مكسبه الجديد غير القابل للنقض أبداً. (د. هاشم صالح، الثقافة العربية في مواجهة الثقافة الغربية والتحديات، الوحدة، العدد 101 – 102 1993). هناك تعقيب فقط على قول د. هشام صالح: (فلم يعد الإنسان يخضع إلا لعقله) حيث نريد أن نضيف إليها (ووجدانه) لأن الوجدان هو صوت الله والضمير الداخلي في الإنسان المؤهل لتلقي الإلهام من الله في كل عصر، والقرآن أثبت هذا في قوله: (ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها) فإلهام الله حاضر معها أينما توجهت وارتحلت، لا تحتاج إلى الإستماع لصوت آخر منذ ألوف السنين. هذا هو ما يجلب التقدم ويفض بكارته باختصار، ولا يوجد تقدم دون ذلك.
كذلك فإن من المهم جداً لإدراك التقدم، إعادة تعريف الله وتصحيح العقيدة فيه، من إله الديانات التوحيدية المنتقم القاسي الغضوب، إلى إله وحدة الوجود والحب، الغني عن الطقوس والعبادات، لكي نتحرر من الخوف ونتنسم عبير الحرية براحة نفس وانشراح صدر، يقول د. وسيم السيسي: (إن فكرة وحدة الوجود هي التي تبناها العالم "جوردانو برونو" ومات من أجلها وأحرقته الكنيسة، لأنه كان يبحث عن دين بلا تعصب ولا تجسيم لله وأنه على العرش الخ، فالكنيسة لم تقبل بهذا فأحرقته. ولكن من حسن الحظ أن السابي أو حكماء مصر كانوا يحملون الفكر التحوتي أو العقيدة المصرية التحوتية، وانتقلوا بها إلى فرنسا وإنجلترا سنة 1460م وترجموا هذا الفكر الذي تسميه اليونان الفكر الهرمسي، ولكنه الفكر التحوتي، فتلقفته انجلترا وعلى رأسها إليزابيث الأولى ومعها فرنسيس بيكون وكبار العلماء والفلاسفة، فاعتنقوا الفكر المصري القديم، وهو أن الله في الكون كله، وليس أنه على العرش أو أن له أعضاء. وكان هذا الفكر هو أحد عوامل النهضة التي خرجت بها أوروبا من عصور الظلام إلى النهضة، فالرينيسانس قامت على الفكر المصري القديم)
هناك حديث نبوي جميل يقول (الحكمة ضالة المؤمن، أنى وجدها فهو أحق بها) نعم ولكن أي مؤمن؟ المؤمن الأوروبي أم المؤمن العربي الخائف الرعديد؟ لقد كانت العقلية الجاهلية جامدة على عقائد الآباء والأجداد (إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون) وكثيراً ماندد بجمودهم وتقليدهم لتراثهم وموروثهم (وعلى ذلك يمكن القول إن سُنَّة الذين خَلَوا مِن قَبلُ هي «التراث»، بكل ما يندرج فيه من مَفاهيم وقِيَم ومُعتقَدات وتَقاليد ومُحدِّدات للسلوك وأعرافٍ … إلخ. ومن قَبِيل تحصيل الحاصل أن نشير إلى أن القرآن يُناهض التَّمسُّك بالتقاليد والحرص على اتِّبَاع سُنن السابقين.
ومن هنا طرح الرسول مبدأً هامًّا هو: «أنتم أدرى - أو أعلم - بشئون دنياكم.» وهو المبدأ الذي يكاد الخطاب الديني يُهْدِره إهدارًا شبه تامٍّ في ثقافتنا الراهنة.
في هذا السياق يجب أن نفهم أقوال الرسول الخاصة بوجوب اتباع سُنَّته بأن المقصود بها أقواله وأفعاله الشارحة والمُبَيِّنة لما ورد مُجْملًا في تعاليم القرآن. وما سوى ذلك من الأقوال والأفعال يجب أن يدرج في سياق الوجود الاجتماعي للشخص التاريخي، بمعنى أنها أقوال وأفعال غير مُلْزِمة للمُسْلِم في العصور التالية. هذه التفرقة بين «سنة الوحي» و«سنة العادات» كانت تُمثِّل نقطة الخلاف بين «أهل الرأي» و«أهل الحديث» من الفقهاء، حيث أصر الفريق الأول على التمييز بينهما، بينما أَصرَّ الفريق الثاني على التوحيد بينهما. ولأن السيادة الفكرية والعقلية حُسِمَت لصالح أهل الحديث بفضل جهود الإمام الشافعي (ت: ٢٠٥ﻫ) فَقد تمَّ توسيع مفهوم السُّنة ليشمل الأقوال كلها، والأفعال كلها) النص السلطة الحقيقة، د. نصر حامد أبو زيد.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: "فهل كل أفعاله صلى الله عليه وآله وسلم حتى ملبسه ومطعمه تعد من الدين ؟ لقد قسم العلماء أفعال النبى صلى الله عليه وآله وسلم إلى ثلاثة أقسام:
أولها: أعمال تتصل ببيان الشريعة؛ كصلاته ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ وصومه وحجه ومزارعته واقتراضه؛ فإن هذا النوع يكون شرعا متبعا. وعلى ذلك نقول: إن أفعال النبى صلى الله عليه وآله وسلم التي تكون بيانا للشريعة قسمان: أفعال هي بيان لمجملها، وأفعال فعلها يدل على إباحتها، وكلا القسمين يفيد العموم في أحكامه، فلا يختص بالنبى صلى الله عليه وآله وسلم.
القسم الثانى: أفعال من النبى صلى الله عليه وآله وسلم قام الدليل على أنها خاصة به، ومن ذلك التزوج بأكثر من أربع زوجات.
القسم الثالث: أعمال يعملها بمقتضى الجبلة البشرية أو بمقتضى العادات الجارية في بلاد العرب، كلبسه صلى الله عليه وآله وسلم وأكله، وما يتناوله من حلال، وطرق تناوله، وغير ذلك فهذه أفعال كان يتولاها بمقتضى البشرية، والطبيعة الإنسانية، وعادات قومه. (أصول الفقه، ص 115)
ويقول الشيخ محمود شلتوت: والحق أن أمر اللباس والهيئات الشخصية ومنها حلق اللحى من العادات التي ينبغى أن ينزل المرء فيها على استحسان البيئة، فمن درجت بيئته على استحسان شئ منها كان عليه أن يساير بيئته، وكان خروجه عما ألف الناس فيها شذوذا عن البيئة (الفتاوى، ص 210).
(وإذا كان الشافعي في مَجال أصول الفقه قد وسَّع مفهوم «الوحي» بإدماج السُّنة في دلالة القرآن، وبتوسيع مفهوم السُّنة ذاته بإدخال «الإجماع» فيه، فإنه لم يترك لفاعلية «العقل» إلا مَجال «القياس» الذي اشترط له شروطًا تجعلُه نوعًا من «الاستنباط» المُقيَّد بحدود «الأصل السابق». هكذا يَتحدَّد دَور العقل في البحث عن أحكام موجودة بالفعل في النصوص وإن كانت خافيةً مُضمَرة لا تَحتاج إلا إلى البحث عنها واكتشافها فحسب؛ لذلك لا يجب أن ندهش من نُفور الشافعي من مبدأ «الاستحسان» الذي أَقرَّه أبو حنيفة (ت: ١٥٠ﻫ)، وإعلانه أن الاستحسان نوعٌ من التشريع الذي لا يجوز وقوعه إلا من الله أو من الرسول.١ ومثل الشافعي ناهَض أبو الحسن الأشعري عَقلانية المعتزلة وأسَّس بديلًا عنها سُلْطة «النقل»، ورفَض مثل سلفه مبدأ المعتزلة في التَّحْسين والتقبيح بالعقل مؤكِّدًا هيمنة «الشرع». وبعبارة أخرى كان كل من الشافعي والأشعري يُؤسِّسان سُلطة النصوص في مُواجَهة تيارات أخرى تُحاوِل أن تُؤسِّس سُلطة العقل، دون أن تُهْدِر بالطبع مَجال فاعلية سُلطة النصوص. ومعنى ذلك أن المعركة كانت أوسع من الخلافات الفقهية أو الخلافات الكلامية — نسبة إلى علم الكلام — لأنها كانت معركة صراع على صياغة قوانين الذَّاكرة الجمعية للأمة؛ أي قوانين تَشغيل تلك الذاكرة وصياغة الآليات التي على أساسها تُنْتِج المعرفة. وإذا كان الاستناد إلى سُلطة النصوص يعني أن الماضي هو الذي يَصوغ الحاضر دائمًا، فإن الاستناد لسُلطة العقل يعني قدرة الحاضر الدائمة على صياغة القوانين التي تُناسبه، والتي لا تُهدِر خبرة الماضي بقدر ما تستوعبها استيعابًا مثيرًا خلَّاقًا. إنهما في الحقيقة مَوقِفان من «التراث» يَلوذ أولهما به محتميًا من تَقلُّبات الزمن وحركة التاريخ؛ لأنها حركة في اتجاه الأسوأ دائمًا — خير القرون قرني … إلخ — بينما يهتم الثاني بالحاضر والواقع، بالحركة والصيرورة، دون أن يُغْفِل فعالية التراث أو يتجاهلها. وقد ظل الصراع محتدمًا بين الاتجاهين حتى حُسِم لصالح النقل والتراث ضد العقل، وكانت الفلسفة — وابنُ رشد خاصة — هي آخر خطوط الدفاع عن العقل ضد تقليد التراث والاستناد لسُلطة النصوص. وأكمل أبو حامد الغزالي (ت: ٥٠٥ﻫ) ما بدأه الشافعي والأشعري، فهاجم الفلسفة وكَشف عن «تهافت الفلاسفة».
هكذا تَحدَّدت قوانين إنتاج المعرفة في الثقافة العربية على أساس سُلطة النصوص، وأصبحت مُهِمَّة العقل مَحصورة في توليد النصوص من نصوص سابقة. فإذا كان القرآن هو النص الأول والمركزي في الثقافة؛ لأنه استوعب النصوص السابقة عليه كافَّةً فقد تَولَّد عنه نص «السُّنَّة»، الذي تم تحويله — بفضل الشافعي كما سبقت الإشارة — من نص شارح إلى نص «مُشرِّع». وعن النَّصَّين معًا تولَّد نص «الإجماع» — الذي صار نصًّا مُشرِّعًا أيضًا — ثم جاء «القياس» ليُقَنِّن عملية «توليد النصوص». وإذا أخذنا من مجال علم الفقه وحده شاهدًا على سيادة آلية توليد النصوص في الثقافة العربية، فسنجد أن عصر سيادة التقليد فيه بدأ في منتصف القرن الرابع الهجري تقريبًا. ولم يَنجُ من هذا المصير الفقه الحنفي ذاته على يدي تلميذي أبي حنيفة — أبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني — اللَّذَيْن حوَّلَا المذهب عن عقلانية الأستاذ إلى الاستناد إلى النصوص، وذلك بحكم ارتباطهما بالسُّلْطة العباسية التي رفَض أستاذهما رفضًا قاطعًا التعاون معها أو مع النظام الأموي) د. نصر حامد أبو زيد، النص السلطة الحقيقة.



#محمد_بركات (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثالثة: الكهنوت العدو الأخ ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الثانية: لا يوجد دين رسمي ع ...
- قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الأولى: الله ظاهر في خلقه
- المختار من الفتوحات المكية (23) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (22) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (21) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (20)
- المختار من الفتوحات المكية (19) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (18) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (17) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (16) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (15) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (14) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (13) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (12) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (11) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (10) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (9) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (8) محيي الدين بن عربي
- المختار من الفتوحات المكية (7) محيي الدين بن عربي


المزيد.....




- ألسنة اللهب تحوّل إحدى الكنائس إلى رماد مع اجتياح الحرائق شم ...
- تصريحات أحمد الشرع: هل قال حقاً إنه ليس امتداداً للجماعات ال ...
- أفيون الشعب في زمن الإبادة.. كيف يوظف إسلاميون الدين لإضعاف ...
- -العليا للكنائس- تحذر من خطورة مواصلة الاحتلال حفر الأنفاق - ...
- توماس فريدمان: -إسرائيل- تقود نفسها للانتحار بالهجوم على غزة ...
- المسيحيون في إسرائيل يصفون خطط السيطرة على مدينة غزة بـ«حكم ...
- الجيش الإيراني: الحكومة الـ14تسعى بعزيمة راسخة نحو تقدم إيرا ...
- مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى ويؤدون طقوسا تلمودية
- كنيسة سان جورج مركز الطائفة الأنجليكانية في القدس
- -مؤتمر غزة- يقدم إحاطة تاريخية وسياسية حول المسجد الأقصى


المزيد.....

- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - قواعد التنوير الأربعون | القاعدة الرابعة: تاريخية النص الديني