قصي غريب
الحوار المتمدن-العدد: 8440 - 2025 / 8 / 20 - 15:10
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شهدت مدينة السويداء السورية مؤخراً مظاهرة قامت بها مجموعة يقودها رجل الدين الدرزي حكمت الهجري، تعد بالمعايير الوطنية والضوابط القانونية مفتقدة للوطنية وخارجة عن القانون، وقد رفعت فيها راية إسرائيل إلى جانب راية الطائفة الدرزية، وطالبوا بما يسمى حق تقرير المصير.
لقد أثار رفع راية إسرائيل إلى جانب راية الطائفة الدرزية ردود فعل غاضبة لدى السوريين، لأنه في نظرهم فعل خياني مشين لا يمكن تفسيره إلا على أنه تنفيذ لأجندة خارجية يبدو الهدف منها محاولة لإثارة حساسيات وطنية وطائفية في وقت تمر فيه البلاد بمرحلة انتقالية حساسة، والإساءة للطائفة الدرزية، واستفزاز الشعب السوري، وتأجيج فتنة وانقسام بينه وبين الطائفة الدرزية، ووضعها في موقع القطيعة مع محيطها الوطني، وتشويه الهوية الوطنية السورية، وتهديد وحدة الإقليم الوطني السوري.
إن الجمهورية العربية السورية مثل أي دولة في العالم فيها تنوع من أقليات دينية وقومية إلى جانب الأكثرية، ولكنها ليست دولة أقليات كما تروج الدوائر المضللة والأقلويون السوريون، فهذا يفتقر إلى الدقة، وإنما فيها أقليات دينية وقومية متعايشة ومندمجة، يربط بينها وبين الأكثرية روابط الانتماء العربي والعقيدة الإسلامية والعيش المشترك، وهي تشكل جزءاً لا يتجزأ من النسيج الوطني السوري، وقد تولى أفرادها على مر التاريخ الوطني مناصب سيادية رفيعة.
قبل تحرير الدولة من النظام الأسدي المستبد كان رجل الدين الدرزي الهجري يقف إلى جانبه بدافع تحالف الأقليات الطائفية، وإن حدث خلاف شخصي بينهما في النهاية. ولكن بعد التحرير تحول الهجري ومجموعته إلى معارض للحكومة السورية بقيادة الرئيس أحمد الشرع، رافضاً تسليم السلاح لها، وطالب باللامركزية وفقاً لمعاييره الخاصة، ونسف كافة محاولات التفاهم. وفي ظل تصاعد الأحداث بين العشائر البدوية والدروز في محافظة السويداء طالب بتدخل دولي وناشد الرئيس الأميركي دونالد ترامب ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، وبناءاً على طلبه استهدف الطيران الإسرائيلي مواقع سيادية سورية بذريعة دعم الدروز، فوجه الهجري الشكر لإسرائيل. وبسبب تعنته وصلت الأمور مع الحكومة والشعب السوري إلى ما هي عليه اليوم، وآخرها المطالبة بما يسمى حق تقرير المصير للدروز.
إن هذا المسار المشين الذي سلكه الهجري ومجموعته لم يكن في نظر السوريين قبل الحكومة إلا انزياحاً صارخاً عن الوطنية السورية، فلقد تخندق طائفياً وطالب بلامركزية على أساس مذهبي، واستعان بإسرائيل وراهن على موقفها، وصولاً إلى المطالبة بحق تقرير المصير والانفصال عن الدولة في محاولة لتدويل الوضع السوري. وهذا المخطط يشكل تهديداً مباشراً للاستقرار الوطني، ويتعارض تماماً مع مبدأ السيادة الوطنية ووحدة الدولة.
إن المطالبة بحق تقرير المصير والانفصال من قبل مجموعة الهجري تأتي في سياق تغيير موقفه السياسي، فبعد أن كان جزءاً من المنظومة السابقة وداعماً للنظام السابق، تحول إلى معارض للنظام الجديد، وبدأ يطالب بامتيازات خاصة لمحافظة السويداء بذريعة خصوصيتها المذهبية. وهذه المطالبة تعد محاولة لفرض حالة قانونية خاصة تخلط بين حقوق الأقليات وحق الشعوب في تقرير المصير وهو ما يخالف أسس القانون الدولي، ورفض كل محاولات التفاهم مع الحكومة. وهذا التحول يفسر على أنه مدفوع بتوجيهات خارجية، ويهدف إلى تحقيق مكاسب وامتيازات سياسية تتجاوز حقوق المواطنة التي تضمنها المواثيق الدولية. فجهل الهجري ومجموعته بالقانون الدولي قد دفعهم إلى الخلط بين مفهوم حق الشعوب في تقرير المصير وحقوق الأقليات الدينية والقومية، فحق تقرير المصير هو حق مكفول للشعوب المستعمرة أو الواقعة تحت الاحتلال أو السيطرة الأجنبية، ولا ينطبق على الأقليات التي تعيش في إطار الدولة الوطنية.
فحق الشعوب في تقرير المصير يعد أحد المبادئ الأساسية في القانون الدولي المعاصر، وقد نص عليه بوضوح ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945، المادة 1 الفقرة 2 التي تؤكد على تطوير العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام مبدأ تساوي الحقوق بين الشعوب وحقها في تقرير مصيرها. وكذلك إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة الذي تبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 14 كانون الأول 1960، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966، المادة 1 التي تنص على أن: ((لجميع الشعوب الحق في تقرير مصيرها، ولها بمقتضى هذا الحق أن تحدد بحرية وضعها السياسي وتسعى بحرية إلى تحقيق نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي)). غير أن هذا الحق لا يمنح إلا للشعوب المستعمرة أو الواقعة تحت الاحتلال أو السيطرة الأجنبية. ومن ثم فإن تطبيقه على الأقليات الدينية أو القومية داخل دولة مستقلة ذات سيادة يمثل خلطاً بين مفهومين مختلفين.
ولذلك يجب التمييز بين مفهوم حق الشعوب في تقرير المصير وهو حق أساسي للشعوب المستعمرة أو الواقعة تحت الاحتلال أو السيطرة الأجنبية، وبين حقوق الأقليات التي نصت عليها المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. فحقوق الأقليات تضمنها وثائق مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وهذه الحقوق تهدف إلى حماية الهوية الثقافية والدينية واللغوية للأقليات، وتكفل لهم المشاركة السياسية دون تمييز، وتعتبر جزءاً لا يتجزأ من حقوق المواطنة الكاملة في إطار الدولة الوطنية الواحدة. أما حق تقرير المصير فينطبق على الشعوب المستعمرة أو الواقعة تحت الاحتلال أو السيطرة الأجنبية، ولا ينطبق على الأقليات التي تتعايش ضمن مجتمع متجانس أو متنوع.
إن استخدام هذا المفهوم في سياق الأقليات المتعايشة في مجتمع الدولة الوطنية هو خلط بين الحقوق التي تحمي الهوية، والحقوق التي تمنح السيادة. فحقوق حماية الهوية هي الحقوق التي تمنح للأقليات داخل المجتمع الوطني، مثل الحقوق الثقافية والدينية واللغوية، والتي تهدف إلى الحفاظ على هويتهم دون المساس بوحدة الدولة. أما حقوق السيادة فهي الحقوق التي تمنح لشعب بأكمله، وتتضمن حقه في تشكيل دولته المستقلة وإدارة شؤونه بنفسه، وهذا الحق ينطبق فقط على الشعوب المستعمرة أو المحتلة.
إن التوجيهات الخارجية للهجري ومجموعته يبدو أنها قد أعطت الدافع والحافز له للمطالبة بامتيازات تتخطى حدود حقوق المواطنة التي تؤكد عليها المواثيق الدولية، إذ بدأ بطرح مقولة إن لمحافظة السويداء خصوصية مذهبية، في محاولة منه لخلق حالة الهدف منها المساواة في التكييف القانوني الدولي بين حقوق الأقليات السياسية والثقافية والدينية وحقوق الشعوب المستعمرة أو المحتلة، لاستخدام حق تقرير المصير كحل. متجاهلاً تعايش الأقلية الدرزية في المجتمع السوري بصورة أخوية غير قائمة على الاحتلال أو الضم. ولذلك فإن مفهوم ممارسة الشعب لحقه في تقرير المصير يجب ألا يختلط بحقوق الأقليات الدينية والقومية التي جاء ذكرها في المعاهدات والصكوك الدولية لحقوق الإنسان، وخاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والإعلان الخاص بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية.
ولذلك، المستفيد من حق الشعوب في تقرير مصيرها هي الشعوب المستعمرة أو المحتلة لا الأقليات المتعايشة بين أكثرية متجانسة، فهذه ينحصر حصولها على حقوقها عن طريق تطبيق مبدأ المواطنة في الدولة التي تؤكد عليها المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، التي جاء فيها: ((لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان من دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي، أو الثروة، أو الميلاد، أو أي وضع آخر، من دون أية تفرقة بين الرجال والنساء)).
وتنال الأقليات القومية والدينية والعرقية حقوقها السياسية بتطبيق المادة 21 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان: ((1- لكل فرد الحق في الاشتراك في إدارة الشؤون العامة لبلاده: إما مباشرة، وإما بواسطة ممثلين يُختارون اختياراً حراً. 2- لكل شخص نفس الحق الذي لغيره في تقلد الوظائف العامة في البلاد)).
كما يمكن للأقليات أن تنال حقوقها الثقافية والدينية عن طريق تطبيق المادة 27 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والتي تنص على أنه: ((لا يجوز في الدول التي فيها أقليات إثنية أو دينية أو لغوية أن يُحرم الأشخاص المنتسبون إلى الأقليات المذكورة من حق التمتع بثقافتهم الخاصة أو المجاهرة بدينهم وإقامة شعائره، أو استخدام لغتهم بالاشتراك مع الأعضاء الآخرين في جماعتهم)). وكذلك الإعلان الخاص بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو إثنية وإلى أقليات دينية ولغوية، الذي اعتمدته الأمم المتحدة في 1992، والذي يؤكد على حماية هوية الأقليات ضمن إطار الدولة الوطنية.
وعليه فإن الأقليات تتمتع بحقوق المواطنة الكاملة بما في ذلك المساواة وعدم التمييز من خلال المشاركة السياسية في إدارة الشؤون العامة والتمتع بحقوقهم الثقافية والدينية، لكنها لا تمتلك حقاً مستقلاً في تقرير المصير على نحو ما ينطبق على الشعوب المستعمرة أو المحتلة. فمحاولة توظيف هذا الحق في سياق حالة الأقليات المتعايشة ضمن دولة مستقلة لا يستند إلى أساس قانوني، بل يندرج ضمن أجندات سياسية قد تكون مرتبطة بتدخلات خارجية.
#قصي_غريب (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟