اسكندر أمبروز
الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 18:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تطرّقت في مقالات سابقة الى ماهيّة النظام الإرهابي القاعدي القائم اليوم في دمشق والى تاريخ هذه المنظومة التي بدأت بشكل ارهابي حقيقي في افغانستان وبتمويل بعض الحمقى من بهائم الاسلام السياسي كبن لادن وغيره, وكيف ان تلك المنظومة تحوّلت بفعل الحرب الأمريكية على الإرهاب الى اداة يتم توجيهها لخدمة مصالح الأمريكي وحلفه في المنطقة من خلال ادلّة عديدة تم ذكرها والتي لن أُكررها هنا. ولمن يريد المزيد في هذا الأمر عليه تصفّح سلسلة مقالاتي على الحوار المتمدن.
وبنائاً على ما تم ذكره سابقاً أود اليوم استعراض بعض الأمثلة من التاريخ البشري لبناء الدول والتي يمكننا من خلالها رؤية مدى فشل السلام السياسي في ادارة قن دجاج! فما بالكم بإدارة دولة وبناء وطن وهم من أشد الأعداء لتلك الفكرة عقائديّاً أصلاً!
ولتبيان مدى فشل هؤلاء الرعاع والحمقى وتأكيداً على انهم زُرعوا في قلب سوريا وفي دمشق من اجل تفتيت المفتت وخدمة الأجنبي اليكم بعض الأمثلة لبناة الأوطان الحقيقيين فقط لنرى معاً كيف يمكن أن يتصرّف من يريد بناء وطن بصدق وإخلاص.
فالمثال الأوّل يعود للأعوام مابين 1860 و 1871 والتي حدثت فيها سلسلة من الزلازل السياسية التي غيّرت شكل قارّة اوربا بأكملها, وقلبت موازين القوى على مستوى العالم, متمثّلةً بعملية بناء وتوحيد ألمانيا على يد مستشارها الأسطوري أوتو فون بيسمارك وقيام الدولة الألمانية الحديثة. ففي بدايات تلك المرحلة, كان من الواضح ان القوى الألمانية الكبرى في اواسط اوربا المتمثلة بإمبراطورية النمسا ومملكة بروسيا قد دخلت سباقاً ماراثونيّاً على الصعيد السياسي من اجل تحصيل شرف توحيد الأمّة الناطقة بالألمانية وما يتبع ذلك من قوّة سياسية قادرة على ان تكون القوّة الأولى في العالم على جميع الأصعدة لما امتلكته تلك المناطق من شعب مثقّف وقوى بشرية واقتصادية جبّارة خصوصاً بعد الثورة الصناعية.
وبعد هزيمة النمسا على يد بروسيا, بات من الواضح للجميع ان مملكة بروسيا ومستشارها الحديدي فون بيسمارك كان على بعد خطوتين او ثلاثة من تحقيق وحدة ألمانيا وفرض الهيمنة على وسط أوربا. ولكن ما لم يكن في الحسبان ان المستشار الذي قال بأن "مصير القضايا العالقة يُحلّ بالحديد والدم!" اتجه نحو السياسة والخداع لتحقيق وحدة شعبه! فمن أهم المقولات المشهورة في ذلك الوقت عن مملكة بروسيا هي "أن كل الدول الأوربية لديها جيوشها, إلّا جيش بروسيا لديه دولة" فالقوة العسكرية لبروسيا حوّلتها الى جيش اولاً وقبل كل شيء, وفي حين كانت الدول الأُخرى تتعامل مع الحرب كخيار أخير, باستثناء نابليون طبعاً, الّا أن بروسيا كانت وبحكم طبيعتها الجغرافية على ميعاد مستمرّ مع المعارك والحروب على مختلف الجبهات. وهذا ما جعلها تتحول الى كيان عسكري يملك سياسيين واقتصاديين!
وهذا ما دفع القوى الأُخرى للاسترخاء نوعاً ما بعد النصر البروسي على النمسا, حيث أن فرنسا وبريطانيا لم تكن قد وضعت في الحسبان ان بروسيا, تلك القوة العسكرية, تملك من الدهاء والحنكة ما يتيح لها توحيد أو اقناع بقية الإمارات والممالك الألمانية للاتحاد تحت راية برلين. فخطّة فرنسا مثلاً بقيادة حفيد نابليون, والذي كان يدعى ايضاً نابليون الثالث! هي ان تنتظر هجوم بروسيا على احدى الامارات الالمانية بغية فرض الوحدة بالعصى, ومن ثم دخول فرنسا بحجّة حماية الامارة المستضعفة ومن ثم تشكيل قوة عسكرية من الامارات الالمانية على ضفاف الراين وجنوباً مع بافاريا لتكون دويلةً منزوعة السيادة تخدم المصالح الفرنسية ومن ثم يُفرض التقسيم وتُمنع الأمّة الألمانية من تشكيل وطن لها يقارع هيمنة بريطانيا وفرنسا.
وطبعاً ما حصل كان العكس تماماً!
حيث أن فون بيسمارك وبرسائل وتحذيرات مستمرّة أقنع أمراء ألمانيا وأهمهم ملك بافاريا أن فرنسا ستقوم يوماً ما بفرض معادلة تنزع سيادة تلك الإمارات, وتفرض هيمنةً فرنسية على اواسط اوربا تماماً كما فعل نابليون, وأن الطريق الوحيد هو الاتحاد لمواجهة العدوان الفرنسي قبل فوات الأوان. وبعد عدّة اعوام من التخطيط والتدبير السياسي, وارتفاع حدّة النبرة السياسية بين فرنسا وبروسيا, أرسل ملك بروسيا ويلهيلم الأوّل رسالة اعتذار للإمبراطور نابليون الثالث الفرنسي, ولكن ما حصل لتلك الرسالة لم يكن في حسبان أحد!
حيث أن فون بيسمارك اعترض الرسالة, وغيّر نبرتها الدبلوماسية لتصبح رسالة شتيمة وإذلال لفرنسا وحكومتها! وهو ما دفع النخبة الفرنسية من عسكر وسياسيين نحو ردّ شديد متمثل بإعلان الحرب على بروسيا! وهو تماماً ما أراده فون بيسمارك!
حيث تحققت أهدافه امام عينيه وأنظار أمراء الألمان ان فرنسا تسعى لسلبهم سيادتهم, وتسعى للهيمنة على الأمّة الألمانيّة, وأن المنقذ الوحيد هو الوحدة تحت راية المملكة الأقوى عسكريّاً ألا وهي بروسيا.
وهذا ما حصل فعلاً. حيث ان امراء الألمان اقسموا جميعاً بالولاء للملك البروسيّ ويلهيلم الأوّل, وزحفوا جميعاً وراء الجيش البروسي للانتصار عام 1871 على فرنسا وحصار باريس واعلان قيام الامبراطورية الألمانية من قلب قصر فيرساي!
وقبل توضيح المغزى من هذه القصّة الرائعة اليكم مثال آخر لبناء الأوطان...
وهو قصّة الحرب الأهلية الأمريكيّة, والتي لن اذكر الكثير من تفاصيلها هنا لاختصار الوقت على الأحبّة القرّاء. فبعد الحرب الضروس بين الشمال والجنوب في الولايات المتحدة الامريكية بسبب الخلافات الاقتصادية والثقافية بين الجانبين, توصّل الرئيس الأمريكي ابراهام لينكولن الى نتيجة مفادها ان الحسم العسكري ممكن وخصوصاً بعد معركة Gettysburg عام 1863 والتي هُزم فيها الجنوب.
ولكن عوضاً عن ذلك, اتّجه الرئيس نحو التهدئة واللقائات السياسية وتفضيل الحديث مع ممثلي الجنوب والاتفاق معهم عوضاً عن الاستمرار بالقتال وسفك الدماء, نظراً لكون الطرفين من ابناء وطن واحد. فنظرة الرئيس الأمريكي في تلك اللحظة والتي كانت على دراية وادراك سياسي رفيع المستوى, رأت أن مشاركة الناس في وطن واحد يجمعهم فيها روابط اسريّة ومناطقيّة وجغرافيّة لم ولن تنجح قبل ان يتم اغلاق الجرح سياسيّاً عوضاً عن قتل الجريح والادعاء بأن النزيف قد توقّف!
فنظرة الرئيس الأمريكي كانت تفيد بأن الوحدة الأمريكية القائمة على الدم وفرض السلطة للحدود السياسية بالقوّة, ستفتح المجال مستقبلاً أمام الأحقاد والضغائن بين ابناء الشعب الواحد مما سيفسح المجال للقوى الخارجية بالتدخّل وتفتيت وضرب الدولة والوطن ووحدة اراضيه وشعبه, وتحويله الى مسرح يلعب فيه الأمريكان دور الدمى التي يحرّكها الآخر خدمةً لمصالحه.
وهذا ما يقودنا للب الموضوع في هذا المقال.
فعلى الرغم من امتلاك ابراهام لينكولن للقوة العسكرية لحسم الحرب وفرض شروطه كاملةً على الجنوب, الّا انه خالف ذلك واتجه نحو التسوية والمصالحة والتنازل عن الكثير من مطالبه واعتبار الطرف الآخر شريكاً في الوطن لا مهزوماً, واعتبره ذو احقيّة بتقرير مصيره ضمن الوطن الواحد ولبنة من لبنات سلطة الدولة. واعتبر الدولة هي العقد الاجتماعي والنسيج الناشئ عن توافق خيوط تمثّلها جميع فئات الشعب ضمن حياكةٍ جميلة يحيكها الدستور وسيادة القانون والمساواة أمامه. وها هي اليوم الولايات المتحدة سيّدة العالم.
وفي المثال الآخر نجد انه على الرغم من امتلاك مملكة بروسيا ما يكفي من القوة العسكرية لفرض سيطرتها على كامل مساحة المانيا وبالقوة لا بل احتلال فرنسا ونسف النمسا وضرب أي قوة تريد مواجهتها حتى لو كانت اوربا بأكملها! إلّا أن غاية مستشارها الحديدي فون بيسمارك كانت تتمثّل ببناء وطن وبناء هيبته وسيادته من القاع حتى عرش الملك! وبالتوافق والوحدة لا بالبنادق والمدافع.
فالنظرة السياسية لفون بيسمارك كانت ثاقبةً لدرجة رؤيته ضعف السلاح في بناء الأوطان, وأن قوّة السلاح تمتد من قوّة تماسك الأمّة والدولة الواحدة ووقوفها جنباً الى جنب في وقت الصعاب, لا ببطشها. والدولة التي تُفرض بالقوة ليست بدولة وانما تسلّط عصابة ونفوذ مافيات وفساد على باق الفئات الأقل حظّاً وعدداً, والتي ستكيد وستستنجد بالشياطين لضرب الدولة من الداخل ان فُرض عليها حكم عصبةٍ ما! والتي ستفتح المجال للشياطين لتنفيذ مصالحهم ونسف الوطن من الداخل وبأيد أبنائه ودون ضرب رصاصةٍ واحدة في سبيل ذلك! فمن يفرض هيبة الدولة ليس كمن ينسجها, ومن يريد بناء وطن لا يتصرّف مع ابناء شعبه على انهم قطيع يريد ادخاله الحظيرة بقوة العصى او بنباح الكلاب المسعورة!
وعليه نرى اليوم وبكل وضوح الفشل الذريع للفكر الاسلامي في بناء أي شيء! ونجاحه الباهر في تفتيت المفتت! وتقسيم ما لا يمكن تقسيمه في الوضع الطبيعي! فسوريا التي هي جزء من الأمّة العربية باتت اجزائاً وأشلاء بفضل الفكر الاسلامي الاقصائي البهيمي المتخلّف الذي يرى في كل مختلف مشروع ذبح ونهب واغتصاب! فمن لا يؤمن بأساسيات بناء الدول لم ولن ينجح حتى لو استلم ادارة قرية.
ومن يرى في الشعوب مشاريع جهادية استعبادية لن يتعايش مع نفسه حتى يتعايش مع المختلف عنه! ومن يرى في مقولة قدوته صعلوك الصحراء "لا يقتل مسلم بكافر" هدفاً وحكمة! سيستحيل عليه حتى فهم معنى الوطن والمساواة والعدالة. ومن يريد اعادة عجلة الحضارة 1400 سنة الى الوراء, سيعود فعلاً الى الوراء او على الاقل سيفنى وسيتحوّل الى مجرّد كابوس تستذكره باقي البشرية لأخذ العبرة تماماً كحقبة النازيين والشيوعيّة السوفييتية والعصور الوسطى والحجريّة وغيرها من الحِقب العفنة, وأما بناء الأوطان فله أهله.
#اسكندر_أمبروز (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟