اسكندر أمبروز
الحوار المتمدن-العدد: 8334 - 2025 / 5 / 6 - 08:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لربما كانت من اكثر وجهات النظر انتشاراً في الشارع السوري اليوم وحتى منذ زمن طويل قبيل سقوط مافيا عائلة الأسد مؤخّراً, وهي رؤية او اعتبار ان أساس الفساد في سوريا وما حلّ بها وصولاً لواقع الحرب على مدار ال14 سنة الماضية كان حافظ الأسد بشخصه وبنظامه وبهيكليّته السلطويّة التي اسسها, وأنه هو من أتى بهذا النظام الفاسد للبلاد وان الشعب بغالبيته الساحقة والدولة السورية بمؤسساتها قبيل قدوم الأسد للسلطة كانت سويسرا تنظيميّاً وألمانيا التزاماً بالقانون والبيروقراطيّة! وهذا طبعاً كما سنرى الآن هراء.
وقبيل الدخول في لبّ الموضوع أود ان ابيّن فارقاً بسيطاً حتى لا يختلط الأمر على القارئ الكريم, فهنا انا لا اعني تبرئة حافظ الأسد من الفساد أو حتّى تشكيل لمنظومة فساد مافيويّة استبداديّة, وانما اود توضيح ان حافظ الاسد كان نتيجةً لمجتمع سوريا وبيئتها وثقافتها بخيرها وشرّها, أو بتعبير ادقّ حافظ الأسد بنظامه لم يقم باختراغ عجلة الفساد أو حتى بتحريكها وهي ساكنة, وإنّما وجدها تدور قبل ان يستغلّ الأمر ويبقِ عليها دائرةً تدهس وتطحن بالبلاد.
فبعيد جلاء المستعمر عن سوريا وتحديداً بين عامي 1949 و1963 تتالت سلسلةٌ من الانقلابات العسكريّة على السلطة, والتي عززت بدورها عدم الاستقرار مما انتج ثقافةً سياسيةً كان فيها الوصول إلى السلطة عمليةً تبادلية, وكثيراً ما كان الولاء الشخصي في هذه البيئة القاسية سياسيّاً والمنعدمة الأخلاق والإعتبار والاحترام للقانون, يتغلب على الأعراف المؤسساتية. ففي بحوث عديدة عن هذا المجال أشار باحثون مثل Raymond Hinnebusch إلى أن السياسة السورية في خمسينيات القرن الماضي اتسمت بالمحسوبية, حيث اعتمد القادة السياسيون على شبكاتهم الشخصية للحفاظ على السلطة, متبادلين المنافع والموارد العامة للحصول على الدعم.
اضافةً الى هذا فقد اشار الاستاذ ريموند هينبوش الى ان النظام البرلماني عقب الاستقلال كان يعجّ بشراء الأصوات, وصفقات الغرف المغلقة, والفساد في التعيينات. وكثيراً ما كانت تُمنح وظائف القطاع العام بناءً على العلاقات الشخصية والواسطة والنفوذ لا الجدارة. وكانت الخدمة المدنية غير فعّالة, ورواتبها متدنية, ويُنظر إليها على نطاق واسع على أنها فاسدة من قبل العامة نتيجةً لهذا الضعف الحكومي وتفشّي الفساد من ابسط الموظّفين الى اعلى المسؤولين وصنّاع القرار, وهو ما استمرّ خلال فترة الوحدة مع مصر لا بل زاد نتيجةً لهشاشة المؤسسات في الدولة الحديثة النشأة وعدم قدرة النُخب المصريّة مع مؤسساتها احتواء الكارثة السوريّة المتأصّلة بالمجتمع ومؤسساته, اضافةً الى الكثير من المسؤولين المصريين الذين كانوا هم أيضاً جزئاً من فساد الدولة المصرية قبيل الوحدة والذين وجدوا في سوريا تربةً خصبة ونافعة ماديّاً وبقرة حلوب يمكن استغلالها, وهذا رغم محاولات النخب المصريّة للقضاء على هذه الظاهرة السوريّة في الأصل والتي جرّت الموظفين المصريين لبيئتها عوضاً عن ان ترتقي بذاتها لتجاري المؤسسات المصريّة التي كانت افضل حالاً بكثير من نظيراتها السوريّة.
وهو ما يبدد في رأيي ومن خلال هذا البحث الذي اجراه السيد Raymond Hinnebusch فكرة السوريين للوحدة على انها فكرةٌ سيّئة وانها اتت بالفساد الى سوريا. حيث ان الواقع يحكي قصّةً أُخرى مختلفة عن رواية البعثيين الذين كان لهم ثأر سياسي مع التيّار الناصري الذي نسفهم من الوجود في أروقة سوريا السلطويّة من خلال حل الأحزاب السوريّة واستفراد عبدالناصر بالسلطة وهو ما كان ضروريّاً بشكل نظريّ بسبب هشاشة الأمور في الدولة الحديثة ولكنه سرعانما تحوّل الى ركود سياسيّ في فترةٍ احتاجت بها الدولة الوليدة الى الحركة والتأقلم امام التحدّيات الداخليّة كالتنظيمات الارهابيّة الممولة خارجيّاً كتنظيم الاخوان مما وضع عبد الناصر في "بوز المدفع" لوحده امام هكذا مؤامرات عندما كان بأمسّ الحاجة لالتفاف الجميع حوله لتثبيت ونُصرة الفكرة القوميّة العربيّة من خلال حزب البعث والشيوعيين الذين امتلكوا من النفوذ في الشارع العربي ما كان بإمكانه تشكيل اعمدة في بنية الوحدة, او التحديات الخارجيّة المتمثّلة بمحاولة كسر قيود الاستعمار الغربي المتمثل بإسرائيل, وهو ما لم يتمكّن منه عبد الناصر في نهاية المطاف.
ووثّق ريموند هينبوش أيضاً من خلال بحوثه في تاريخ سوريا المعاصر أن الفساد كان قد ترسّخ بالفعل في السياسة السورية بحلول أوائل الستينيات, مما مهد الطريق لوعود حزب البعث الشعبوية بـ"تطهير النظام" أي ان الحزب دخل على الخط من خلال خطاب مكافحة الفساد المستشري بالمؤسسات السوريّة لدرجة انه اكتسب تأييداً شعبيّاً بسبب هذا مما يبيّن ان مشكلة الفساد كانت عميقة قبيل استلام البعثيين السلطة ومن ثم حافظ الأسد. وكثيراً ما أشارت برقيات دبلوماسية أمريكية وبريطانية رُفعت عنها السرية من خمسينيات القرن الماضي إلى السياسيين السوريين على أنهم "سهلو الشراء" أو "يعتمدون على الرشاوى من جماعات المصالح", وخاصة في القطاعين العسكري والتجاري, أي ان الجميع كان مرتشياً من الكبير الى اصغر موظّف حكومي.
وهو ما يضعنا امام نتيجة مفادها ان كل ما نُسب لنظام حافظ الأسد على انّه من "أسس" للفساد في سوريا وأن البلاد كانت واحةً من الحريّات واحترام القوانين وسط بيئة عربيّة متخلّفة عنها ما هو الّا كلام فارغ لا يحمل ورائه سوى هلوسات الاخوان المسلمين الاعلاميّة ونباح أبواقهم المعروفة! فنظام الأسد لم يختلف عن من سبقوه الّا في شيء واحد وهو الاستمراريّة. سوائاً بالتحايل او الخداع او البطش او غيرها من اساليب امكنته من الثبات على كرسي السلطة, وانما فساده هو مجرّد انعكاس لفساد الشعب نفسه الذي كان منذ استقلال البلاد أمراً طبيعيّاً وعُرفاً يسير عليه القطيع الأحمق, فالفرق بين حافظ الأسد والموظّف المرتشي هو في كميّة المال المسروق, وانما الموظّف والرئيس وجهان لعملة واحدة, وهي عملة فشل الشعوب ذاتها في احترام القانون والبناء السليم والتعلّم من تجارب الآخرين, وثقافة التجارة وتحصيل المراد أيّاً كان الثمن التي جائت كنتيجة لقرون من انعدام القانون في بيئةٍ اسلاميّةٍ لم تعهد سوى الحاكم بأمره والواسطة وشراء كل شيء بالمال او الحصول عليه بالسيف.
المصادر:
Title: Rural Politics in Ba thist Syria: A Case Study in the Role of the Countryside in the Political Development of Arab Societies
Published in: The Review of Politics, Volume 44, Issue 1
Year: 1982
Institution: University of St Andrews
Title: The Political Economy of Economic Liberalization in Syria
Published in: International Journal of Middle East Studies, Volume 27, Issue 3
Year: 1995
Institution: University of St Andrews
Title: The State and the Political Economy of Reform in Syria
Published in: Syria Studies, Volume 1, Issue 3
Year: 2009
Institutions: University of St Andrews Danish Institute of International Studies
#اسكندر_أمبروز (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟