اسكندر أمبروز
الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 14:13
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شَهدنا جميعاً في نهاية العام الماضي وتحديداً في شهر ديسمبر عملية سقوط النظام السوري وما تلاها من عملية سقوط للدولة السورية ككل ومؤسساتها بيد الكلاب المسعورة الاسلامية من تنظيم القاعدة وغيرهم. ورأينا يوماً بعد يوم كيف أن الأمر كان مجرّد لعبة دولية استخباراتية حدثت ضمن اطار الصراع الأوسع الاسرائيلي الايراني والذي هو الآخر بدوره مجرّد ساحة مواجهة بالوكالة بين القوى العالمية على مستوى الاستراتيجية العظمى للدول الكبرى. وعملية اسقاط النظام السوري التي لا يخفى على احد حقيقة كونها لعبة واستلام وتسليم, كانت واضحة حتى في ايامها الأولى لفقهاء السياسة والمراقبين.
ولكن ومع ذلك قد لا يعلم البعض أن ما جرى من أحداث لإسقاط النظام السوري, سوائاً من خلال الحرب على مدار ال14 سنة, أو في الايام العشر الأواخر لنظام الأسد, كانت على مستوى الإستخبارات الأمريكية والأجهزة التي تحترف هكذا أمور, مجرّد تطبيق عملي لما هو مدروس ومجرّب عمليّاً سابقاً! مع احتمالية نجاح متفاوتة تتناسب مع مدى ضعف وهشاشة الدولة المُراد اسقاطها. فالعشرة ايام التي سقط فيه النظام لم تكن سوى عملية قطف لثمرة الإفساد في الأرض الإسلامية التي قامت الاستخبارات الأمريكية بتربيتها وتقوية جذورها تأهباً لساعة الصفر, سوائاً من خلال الفضائح الكبرى كعملية Timber Sycamore أو غيرها من التي ناقشناها سابقاً في مقال آخر, والتي لن أُعيدها هنا لكي لا أكرر ما قيل وما يمكنكم الرجوع اليه على صفحتي الرئيسية هنا:
https://www.ahewar.org/m.asp?i=12945
فبنائاً على ما ذكرت, فإن تلك العملية التي أُجهز على النظام السوري من خلالها في 10 أيام فقط! لم تكن سوى تطبيق فعلي لتعليمات وخبرات استخباراتية سابقة في الCIA والتي حصلت وبطريقة مشابهة تصل لحد التطابق في الكثير من الأمور والتي ستشكل لب الموضوع لهذا المقال, ألا وهي عملية اسقاط نظام غواتيمالا عام 1954.
حيث تتواجد غواتيمالا في الشريط البرّي الرابط بين الأمريكيّتين, جنوب المكسيك وشمال الهندوراس والسيلفادور, أي انها تُعتبر في قارّة اميريكا الشمالية. ولندخل في صلب الموضوع لكي لا نُطيل... ففي عام 1950 جاء الى السلطة في غواتيمالا رئيس منتخب اسمه جاكوبو اربينز بطريقة ديمقراطية بحتة, وبرضى شعبي عارم من خلال انتخابات حرّة ونزيهة 100%, نتيجةً لبرنامجه الانتخابي الذي وعد من خلاله الشعب بالاستقلال الاقتصادي عن الولايات المتحدة الأمريكية. وتجلّى هذا الاستقلال الذي أراده الرئيس اربينز من خلال تحييد وتحجيم وتأميم جل مقدّرات شركة أمريكية تدعى United Fruit Company, والتي كانت تحتكر الناتج القومي الغواتيمالي من المحاصيل الزراعية أهمها ناتج الموز والأناناس وتسيطر على 40% من الأراضي الزراعية في البلاد. حيث أراد الرئيس اربينز إعطاء شركات خاصّة صغيرة ومتوسطة الأراضي الزراعية بالإضافة لدعم المزارعين والطبقة العاملة لإنتاج كل ما يلزم للحصول على الاستقلال الكامل ضمن هذا الاطار وغيره من الأُطر الاقتصادية الوطنية. ناهيكم عن امتلاك الشركة لجلّ الموانئ والسكك الحديدية والبنى التحتية الاقتصادية الكبرى في البلاد بشكل رسمي والتي وبسبب سياسة اربينز الاشتراكية والوطنيّة المطلقة, اتجهت نحو التأميم.
وطبعاً لكم ان تتخيلوا ردة فعل المهيمن الأمريكي على كل هذا!
فبعد وصول اربينز للسلطة وتطبيقه الفعلي لكل ما وعد به الشعب وبداية تحسّن الأمور اقتصاديّاً وبشكل قياسي بسبب تلك السياسات, بدأ صبر الآلة الإستعمارية الأمريكية بالنفاذ. وبعد تقديم التقارير العديدة للرئيس الأمريكي آيزنهاور اتضح لإدارته ان الشركة الأمريكية كانت تخسر سنوياً ما يعادل اليوم 1.8 مليار دولار. وهذا اضافةً الى خسارة النفوذ المرافق لخسارة السيطرة على البنى التحتية والمدّ المهيمن الأمني والاقتصادي الأمريكي على غواتيمالا, والتي تقع ضمن الإقليم الحيوي للولايات المتحدة الأمريكية والذي ناقشنا سابقاً على صعيد الجغرافيا السياسية انه صعب القبول لأي قوّة عظمى.
ففي بداية عام 1951 أُعطي الأمر للCIA بالبدئ بعمليّة اسقاط لنظام الرئيس المنتخب ديمقراطيّاً اربينز في غواتيمالا. من خلال عمليّة سميت بPBSUCCESS والتي بدأت من خلال توجيه اتهامات على صعيد البروباغاندا في الداخل الأمريكي وفي أروقة صنّاع القرار أولاً على ان الرئيس اربينز متعاطف مع الشيوعيين ويتبع سياسات اشتراكية تمهيداً لجعل غواتيمالا نقطة انطلاق للشيوعيين في اميريكا الشمالية الى الداخل المكسيكي ومنها للولايات المتحدة. وأنها أي الCIA كشفت عن برقيّات سرية بينه وبين موسكو, وأنه يجهّز بلاده لتكون قاعدة ارتكاز للمعسكر الشيوعي في المنطقة...وطبعاً كل تلك الاتهامات مجرّد هراء! وباعتراف الCIA التي قامت بالكشف عن الوثائق المتعلقة بتلك العملية ككل لاحقاً وهي ما أستند اليه في هذا المقال كمصادر وبإمكانكم الرجوع اليها طبعاً في نهاية المقال.
فبعد اتخاذ القرار وتوجيه تلك الاتهامات لإقناع صانع القرار الأمريكي بأهمية التصرّف تجاه غواتيمالا, بدأت بعدها بأشهُر العملية فعليّاً من خلال بث غير مسبوق للبروباغاندا المعارضة للحكومة والرئيس اربينز في داخل غواتيمالا, إضافةً الى نشر الأكاذيب عنه وعن حكومته, وبث الأخبار المغلوطة عنه شخصياً, إضافةً الى ربطه بالشيوعيين ومدى خطورة الأمر. والذي استمر لسنتين في داخل البلاد وفي مختلف مناطقها, من خلال حملات راديو يوميّة, ومناشير ودعوات في الكنائس من قبل اشخاص مدفوعي الأجر وغيرها من الأساليب. وهذا كلّه حصل بالتزامن مع تجهيز قوة عسكريّة صغيرة نسبيّاً تقدّر ب500 عسكري بقيادة الضابط كارلوس كاستيّو آرماس, الذي وُضع كرئيس بعد اسقاط النظام. والجيش الغواتيمالي الذي كان تعداده لا يتجاوز ال10,000 والذي كان مجهزاً بشكل متواضع لم يكن باللقمة السائغة ولكنه ايضاً لم يكن بالقوّة الكافية التي ستشكل عائقاً أمام الماكينة التي صنعتها المخابرات الأمريكية تمهيداً لإسقاط النظام.
فبعد كل هذه التجهيزات وتهيئة الداخل الغواتيمالي من الشعب والجيش والأمن, من خلال شراء الضباط والمسؤولين والنُخب, جائت ساعة الصفر! ففي الثامن عشر من شهر يونيو من عام 1954 بدأت كلّ الأحجار بالتحرّك وبشكل متوازٍ نحو الهدف. فبالتزامن من الانزال العسكريّ لل500 جندي بقيادة الضابط الخائن كارلوس كاستيّو آرماس, ارتفعت وتيرة النباح والكذب والبروباغاندا على مستوى الإعلام في الراديو ومن خلال العملاء, اضافةً الى بثّ الرعب في قلوب الجنود في الجيش أيضاً من خلال العملاء, وصولاً الى استسلام قطع عسكرية بأكملها نتيجة خيانة بعض الضباط الذين تم شرائهم مسبقاً, والتي كانت جميعها تحدث تحت تغطية جويّة للطيران الحربي الأمريكي.
وعليه وفي غضون 10 أيام سقط نظام الرئيس اربينز المنتخب ديمقراطيّاً, وصعد مكانه الخائن كارلوس كاستيّو آرماس للسلطة والذي أعاد عجلة الاستعمار والاستجحاش الاقتصادي للشعب وأعاد مصالح الشركات الأمريكية وهيمنة الحكومة الأمريكية على مصير بلاده.
والمغزى من هذه القصة التاريخية الرائعة يكمن في عدّة مواضع, أولها هو أنه وكما ذكرنا سابقاً يتعلّق بمسألة الجغرافيا السياسية ومصائر الدول المرتبطة بموقعها الجغرافي ونسبية تموضعها من القوى العظمى, فموقع غواتيمالا يفرض عليها الهيمنة الأمريكية حتى وان كانت بلداً ديمقراطياً كما رأينا. وأن الاستقلال الاقتصادي غير مسموح في داخل اقليم القوّة العظمى, وهو ما لم تنجو منه سوى قلّة قليلة من دول العالم مثل كوبا. واليوم كمثال نرى فنزويلّا التي تعاني الأمرّين بسبب عصيانها وسيادتها الاقتصادية التي ستنتهي إمّا بحمام دم أو بالانصياع للمهيمن الأمريكي على الاقليم.وهو الذي نتفهمه وكما ذكرت ضمن اطار "الريال بوليتيك".
وثاني المواضع والعبر من هذه القصّة تقول أن العالم اليوم الذي بات مترابطاً بشكل مهول, بات هامش الصراع فيه أوسع بكثير مما كان عليه في الحرب الباردة, فأحادية القطبية التي نراها لصالح امريكا اليوم والتي بدأت بالإهتزاز, لا تزال حاضرة وبقوّة شديدة في اقليم الصراعات الدولية الأسوأ وهو الشرق الأوسط, في ظل غياب المنافس الذي يمكنه تعديل الكفّة, وهو ما ظهر جليّاً من خلال مصالح مترابطة بالمشغّل الأمريكي كرفض خط الغاز القطري وكون سوريا مستقلّة عن أي ديون لأي قوّة غربيّة في عهد ابو البيش (رغم مساوئه الكثيرة) والتي لم تكن مباحة في ظل النظام العالمي الأمريكي خصوصاً بعد سقوط الكفّة المعادِلة له في الشرق الأوسط ألا وهي السوفييت. فمسألة سقوط دولنا امام المهيمن الأمريكي كانت مسألة وقت, وفشلنا بها على كلّ الأصعدة! عوضاً عن ركوب الموجة.
فالدول التي ظنّت انها ستُبقي على سيادتها في الشرق الأوسط بعد سقوط داعمها الأوّل السوفييتي دون الاستثمار في وحدة الصف الداخليّة (كما فعلت كوبا مثلاً), وجدت نفسها أمام واقعٍ لا يمكن ان تستمرّ فيه! فالانقسامات الداخلية على اساس الدين والطائفة في بلادنا التي استثمر فيها الأمريكي على مدار عقود لضرب دول القومية العربية العلمانية من الداخل من خلال الاخوان المسلمين والتنظيمات المشابهة كما ناقشنا سابقاً, كانت فعليّاً قنبلة موقوتة تنتظر من يقوم بتحريكها حتى تنفجر.
فإسقاط النظام السوري على طريقة غواتيمالا لم يكن ليحصل لو لم تكن البلاد منقسمة طائفيّاً ودينيّاً على المستوى الشعبي, ولما حصلت تلك الحرب من الأساس, والتي كانت مطلباً رئيسيّاً للوصول لمرحلة يمكن من خلالها تطبيق الكتالوغ الاستخباراتي الأمريكي المرسوم والمُعد مسبقاً لإسقاط الأنظمة. وقد يعتقد البعض ان هذا الكتالوغ ينطبق على كل عمليات تغيير الأنظمة التي قامت بها أمريكا وهذا خاطئ, حيث أن العملية تتناسب مع الهدف, ففي العراق مثلاً كان الهدف هو تجميع ارهابيي الكوكب وسحقهم في منطقة واحدة بعيداً عن الشوارع والمدن الغربية وهو ما حدث وما ناقشته بالتفصيل في منشور سابق وبالدليل طبعاً. وفي مصر وتونس كان الهدف سياسياً ضمن اطار اتفاقية اوباما مع ايران والاخوان المسلمين فيما تم كشفه من خلال ورقة PSD-11 التي ناقشتها ايضاً سابقاً. والسيناريو أو "الكتالوغ الغواتيمالي" ان صحّ التعبير الذي تم تطبيقه في سوريا طُبّق ايضاً في بلد عربي اخر وحيد الا وهو ليبيا.
فكما نرى فإن الوسائل والطُرق مختلفة كتيراً ولكنّها متشابهة. وما يثير الاعجاب في الحقيقة هو مسألة الدقّة في التطبيق وإحكام السيطرة على كافّة المعطيات والمتغيّرات على الأرض لتحقيق الأهداف, وما يثير الدهشة هو التشابه الكبير بين سيناريو غواتيمالا وسوريا, حيث أن الفارق الوحيد هو الحرب الأهلية السورية التي كما ذكرت كانت ضرورية لإضعاف النظام وصولاً لمرحلة اسقاطه التي كانت هي الأُخرى ضمن اطار اوسع على مستوى الاقليم ككل. وهو ما يوضّح ان الأمر ليس بالسهل وليس بالممكن إن كانت البلاد في حالة استقرار وقوّة وتماسك, وهو ما افتقدته سوريا في بداية ازمتها بسبب الدين وأبعاده الطائفية واستغلال الخارج له ولفساده احسن استغلال.
المصادر:
CIA Declassified Documents on Operation PBSUCCESS (National Archives, 1997 release)
Schlesinger, Stephen & Kinzer, Stephen. Bitter Fruit: The Story of the American Coup in Guatemala (1982)
https://nsarchive2.gwu.edu/NSAEBB/NSAEBB4/
#اسكندر_أمبروز (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟