سعاد الراعي
كاتبة وناقدة
(Suad Alraee)
الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 15:14
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الفصل السادس: شهيد لا يموت
يتحول سلام عادل من زعيم حزبي إلى أسطورة قومية. لم يعد مجرد سكرتير للحزب، بل رمزٌ للكرامة المصلوبة في وجه الفاشية الجديدة. موته لم يُنهِ الفكرة، بل خلّدها.
مات سلام عادل، لكنّ موته كان ولادة للضمير المقاوم،
وجرحه كان نافذة دخل منها الهواء النقي إلى جسد الوطن المخنوق.
في الصفحات الختامية من كتاب "سلام عادل: سيرة مناضل – الجزء الثاني"، نلامس ما يشبه الضمير المكتوب، أو اعتراف الذاكرة، حيث يغدو التاريخ نفسه متورطًا بالدموع، ويتحول التوثيق إلى نوع من الصلاة على روح رجلٍ، لم يُغلب، بل غُلِب العالم أمام صموده.
في هذه الفصول، لا نقرأ فقط سيرة سياسية أو نقدًا ذاتيًا، بل نشهد تفكيكًا للزمن، ووقوفًا وجهاً لوجه أمام المأساة الكاملة:
ما الذي جعل سلام عادل يُعتقل؟ من خانه؟ من صمت؟ من أدار ظهره؟
أولاً: صورة سلام في مرآة رفاقه بعد الموت
يتناول هذا القسم مراجعات متعددة من قيادات الحزب حول شخصية سلام عادل، ليس من حيث “الزعامة”، بل من حيث القدرة الأخلاقية والصلابة الإنسانية.
أ. تظهر شهادات عن رفاقه مثل شهادة زكي خيري وغيرها تشير إلى نقاء قلبه، لا من باب التبجيل، بل لأنه كان يتجنّب الكيد، ويتسامى على التنافس.
ب. تظهر كيف كان دقيقًا في تنظيم العلاقات داخل الحزب، لكنه حنونًا في تعامله مع الأفراد، ينصت أكثر مما يعلّم، ويتراجع عن رأيه إذا تبيّن له صواب غيره.
في تلك الوثائق، يتكرر القول بأنه لم يكن فقط قائدًا حزبيًا، بل “أباً وضميرًا ومؤتمنًا على القلوب”. وهنا تشرق إنسانيته، إذ كانت قوته الأخلاقية تضبط الخلافات، لا سلطته الرسمية.
ثانيًا: في تقييم النقد الذاتي... سلام الذي لم يبرّئ أحدًا من الخيانة
تحمل هذه الصفحات موجة مؤلمة من النقد الذاتي، ليس فقط لمنظمة الحزب، بل لسلام عادل نفسه. ونكاد نسمعه يقول: ـ بصوته المتخيَّل ـ إنه ربما وثق أكثر مما يجب، أو سكت حين وجب الصراخ، أو لجأ إلى التهذيب مع من لا يعرفون غير الطعن.
لكن النقطة الأكثر بلاغة في هذه الاعترافات، أنها تجعلنا نرى الشهيد لا بطلاً فوقيًا، بل إنسانًا أخطأ، وتألم، وشكّ، وتراجع، ولكن لم يخن.
"كان يعرف أن اليأس مثل العدو: إذا لم تبادله الضرب، خنقك. لكنه بقي يراهن على الإصلاح، حتى في لحظاته الأخيرة."
ثالثا: ما لا يقال في الخطابات والمحاضر: سلام عادل والقيادة الأخلاقية في محراب النار"
حين نقرأ محاضر اجتماعات المكتب السياسي واللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في تلك المرحلة العاصفة بين" اب 1962وكانون الثان 1963"، والتي تطالعنا كوثائق تختم صفحات الكتاب، لا يعني أن نتابع سردًا بيروقراطيًا لقرارات سياسية مجردة، بل أن نلج إلى مختبر إنساني تتلاقى فيه الإرادة الحديدية، والشعور العميق بالمسؤولية، مع فطنة سياسية وقلب لا يعرف القسوة.
بين السطور، يتجلّى سلام عادل لا كقائد سياسي فحسب، بل كضمير جمعي ينزف حين تُمتهن كرامة رفيق، وكحكيم يمشي على الحافة بين واجب الحزب وصوت الضمير.
في محاضر هذه الاجتماعات، نرى سلام عادل يمارس مهام "السكرتير الأول"، لكنه لا يتحصّن خلف لقب يُجيز له البطش أو إصدار الأحكام بدم بارد. بل يظهر كمن يحمل الجميع في قلبه، يعظّم العمل الجماعي، ويصبر على من يخطئ دون أن يتخلى عن معايير صارمة من الانضباط الثوري.
في محاضر10، 21،19 آب. 1962، يتجلى ذلك حين يناقش قضايا الرفاق المختلفين معه، فيختار الحوار بدل الإقصاء، والاحتواء بدل الشطب. بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فيحرص على تضمين آراء المعارضين في محاضر الجلسات حتى لا "تُزوّر الذاكرة الجماعية".
هذا ليس مجرد تكتيك حزبي، بل موقف أخلاقي وإنساني متجذر: فالاختلاف في الرأي لا يُعاقَب، بل يُفهَم في.
أولاـ في النزاع... قلبٌ يتكسّر بصمت
بين تفاصيل السجالات داخل المكتب السياسي، نقرأ بصوت خافت نبرة حزنٍ لدى سلام عادل على تحوّل بعض الرفاق إلى جماعات تكتلية، تعارضه لا عن قناعة فكرية بل عن طموح سلطوي.
لكنّه لا يرد بالمثل، بل يعيد تثبيت بوصلته نحو الأفق الجماعي، محاولًا احتواء الأزمة بالفهم لا بالاتهام، وبالتحليل لا بالتجريح. كان يدرك أن الجرح إن تسلّل إلى الروح الحزبية، فإنه سيشوّه صورة الوطن بأكمله.
في محضر 13 أيلول 1962 مثلًا، يُبرز حرصه على "مأسسة النقاش" و"تنقية الحوار من الشخصنة"، وهو بذلك يُربّي جيلًا من الشيوعيين على ثقافة الاعتراف والخطأ والتراجع.
ثانياـ في الموقف من القضية الكردية: دروس في العدالة والتسامح
تكتنز المداولات حول الحرب في كردستان مواقف إنسانية نبيلة تعكس عمق وعي سلام عادل القومي والأخلاقي. ففي خضم التصعيد العسكري من قِبل الحكومة، لم ينجرف وراء خطاب الدولة، بل ظل يُذكّر رفاقه بضرورة الالتزام بالحل السلمي، وبأن الحقوق القومية الكردية ليست منّة، بل استحقاق تاريخي.
هذا الموقف المتقدّم لا ينم عن تكتيك سياسي فحسب، بل عن بصيرة أخلاقية، ترى في إنصاف الأقليات ميثاقًا إنسانيًا قبل أن يكون بندًا في برنامج سياسي.
ثالثاـ في حضرة الفقد والخذلان
ما يلفت النظر بشدّة، أن سلام عادل لم يستخدم أبدًا لغة الكراهية أو الشتم ضد خصومه، حتى حين خانوه أو سعوا إلى تحطيمه من الداخل. كان يكتفي بكلمة "الكتلة" ليصفهم، دون أن ينزل إلى مربّع التشهير أو التشفّي.
بل في لحظات معيّنة، يُظهر حزنًا على انحدارهم الفكري والسياسي، لا شماتة، كما في قوله عن أحدهم: "إنه يجرّنا إلى متاهة لا طائل منها، ولكنني لن أتركه للضياع".
يا لها من عبارة! تختصر قلب قائد لا يرى في الانشقاق خيانة فقط، بل انكسارًا إنسانيًا يحزّ في الروح.
رابعاـ سلام عادل الأب... لا الحزبي المجرد
في الرسائل القليلة التي ضُمّنت بين المحاضر في الكتاب، ومنها رسالته لزوجته ثمينة ناجي يوسف، نكتشف جانبًا آخر من شخصيته: الأب، العاشق، والإنسان الذي يربّت على كتف ابنه بكلمات شجن، وسط نيران القمع والمطاردة.
في إحدى الرسائل يصف صورة ابنه عليّ وهو "يقلّد أصوات الحيوانات وأصوات السيارات ويصفر بيديه كأنه شرطي مرور"، ثم يضيف: "هو مقلوب الصور لكنه مستقيم القلب، وأنا أعيش معه".
يا لها من صورة! رجل تُطارده أجهزة الدولة، ويقود حزبًا في أخطر مراحله، لكنه لا ينسى أن يروي لزوجته كيف يلعب طفله بأزرار المذياع...او كيف يجلس خلف مقود السيارة كسائق ...هذا هو الفرق بين القادة الحقيقيين وأشباههم.
من يقرأ هذه المحاضر بعين المؤرخ، يدرك أهمية اللحظة السياسية. لكن من يتعمق فيها بعين الانسان، يرى وراء كل بند وملاحظة عاطفة مشبوبه، وحكمة إنسانية، وألم خفيّ.
سلام عادل لم يكن قائدًا صارمًا فحسب، بل كان روحًا حيّة تمشي بين رفاقه، تستمع وتفهم وتصفح، ثم تعود لتكتب التاريخ بالدموع لا بالحبر.
وفي زمن الخيانة، اختار أن يكون إنسانًا.
اولا ـ في سيرة الشهداء الآخرين... سلام عادل ليس وحده
تختم هذه الفصول بملاحق لأسماء الشهداء الذين استشهدوا معه، أو بعده، أو في طريق النضال. وتبرز هذه اللمسة كأنها تقول: لم يكن الشهيد فردًا، بل فكرة إنسانية، تولّدت، وتشظّت، وارتوت بدماء النبلاء.
ثانيا ـ خاتمة الختام: الشهادة لا تُختزل في الموت، بل تُقاس بمدى صدق الحياة
سلام عادل، في آخر صفحات الكتاب، لا يبدو ميتًا. بل يبدو صوتًا نقيًّا، يفيض حبًّا لأرضه وأهله، يهمس في ضمائرنا: اجعلوا الدم حياةً، والتضحية وطنًا لا يموت.
إنّ القيمة الأخلاقية لشهادته، كما تسجلها هذه الصفحات، ليست فقط في أنه مات تحت التعذيب، بل لأنه لم يساوم، ولم ينكسر، ولم يصدر عنه سوى الصمت النبيل.
لم يكن المسيح وحده مصلوبًا، ففي بغداد كان هناك رجلٌ اسمه سلام... أُقيمت له محكمة بلا قضاة، وجلجلة بلا شهود، وصلب على مبدأ اسمه: الإخلاص.
ثالثا ـ الوثائق الأخيرة: رسائل بين اللهب، ومراجعات على حافة المقصلة
في هذه الصفحات، تُدرج آخر تقارير وكتابات ووصايا سلام عادل، التي كتبها قبيل اعتقاله بأيام. ومنها:
1 ـ رسالته إلى الخارج الحزبي، التي شطب فيها اسمه الحقيقي ووقّع بـ"عمار" كي لا يُعرّض أحدًا للخطر.
2 ـ تقاريره عن انهيار المنظمات في الجيش، وفيها يكتب بحسّ أبٍ يرى أبناءه يغرقون، ولا يملك إلا الكلمات كأطواق نجاة.
3 ـ توجيهاته حول تقويم التجربة بعد الانقلاب، والتي أراد لها أن تُنشر لا كوصية بل كاعتراف للمستقبل.
وفي كل سطر من هذه الوثائق، نقرأ سلام عادل كقائد يكتب وصيته لا بنبرة النصر، بل من وجع الذين أرادوا الخير ولم يستطيعوه، ومن ألم الذين دافعوا حتى الموت، وهم يعرفون أن الأرض تهتز من تحتهم.
**
#سعاد_الراعي (هاشتاغ)
Suad_Alraee#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟